أشواق الصائمين إلى الجنة

الشيخ د عبدالرحمن السديس
عناصر الخطبة
  1. نفحات شهر رمضان وبركاته .
  2. جزاء الصائمين عند رب العالمين .
  3. ذكر شيء من وصف الجنة .
  4. أهمية اغتِنام أبواب الخيرات في شهر الطاعات. .

اقتباس

فيا لها مِن فرحةٍ غامِرةٍ تعيشُها الأمةُ الإسلاميَّةُ الآن، بالإطلالةِ السنويَّة لهذا الموسِمِ الكريم، والإشراقَةِ النورانيَّة لهذا الشهر العظيم، فهو شهرٌ لا يُشبِهُه شهر، مِن أشرَفِ أوقاتِ الدَّهر، فضائِلُه لا تُحصَى، ومحامِدُه لا تُستقصَى، إنه شهرُ القَبُول والسُّعُود، شهرُ العِتقِ والجُود، هذا إبَّانُ الترقِّي والصُّعُود، شهرٌ أنزلَ الله فيه كتابَه، وفتَحَ فيه للتائِبِين أبوابَه. فيا لله! هذا نسِيمُ القَبُول هَبَّ، وهذا سَيلُ الخَير صَبَّ، وهذا الشيطانُ قد غُلَّ.

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله وليِّ التوفيقِ والهُدى، خصَّنا بموسِمٍ للطاعاتِ ما أهناهُ مورِدًا، مَن استَبَقَه بلَغَ مِن مراضِي الديَّان فرقَدًا.

على أنَّ الشُّكرَ ليس ببالِغٍ *** بعضَ ما أَولَى وأَجزَلَ مِن نَدَى

وأنَّى يُوازِي الشُّكرُ إحسانَ مُنعِمٍ *** يمُنُّ بلا مَنٍّ ويُولِي بلا أَذَى

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتبوَّأُ بها مِن الجِنانِ مقعَدًا، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدَنا مُحمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ مَن صامَ وقامَ فكان في الفضلِ أوحَدًا، اللهم ربَّنا فصلِّ عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، الأُلَى بلَغُوا مِن شهر التُّقَى مجدًا وسُؤددًا، وصحبِه الكرَام الذين أمضَوا رمضان رُكَّعًا وسُجَّدًا، والتابعِين ومن تبِعَهم بإحسانٍ يرجُو المآلَ الأسعَدَا، وسلِّم تسليمًا كثيرًا لا يزالُ عَذبًا مُردَّدًا ما راحَ في الإحسانِ رائِحٌ أو غَدَا.

أما بعد: فاتَّقُوا الله - عباد الله -؛ فإنَّ تقوَاهُ أفضلُ ذُخرٍ وأحسَنُ زادٍ للمعاشِ والمعادِ، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور: 52].

إذا أنتَ لم تَرحَلْ بزادٍ مِن التُّقَى *** ولاقَيتَ بعد المَوتِ مَن قد تزوَّدَا

نَدِمتَ على أن لا تكونَ كمِثلِهِ *** وأنَّك لم ترصُدْ كما كان أرصَدَا

معاشِر المسلمين: إن لمنائِحِ الكرَمِ نشرًا تنُمُّ بها نفَحَاتُها، وتُرشِدُ إلى رَوضِهِ فَوحَاتُها، والأحوَذِيُّ الألمَعِيُّ مَن يستدِلُّ بتأرُّجِ العَرْفِ على تبلُّجِ العُرْفِ.

وإن مِن المسارِّ التي يُبتَهَجُ بها ويُتهادَى، والنِّعمِ السابِغَةِ على المُسلمين جميعًا وفُرادَى: ما كانت مِنَّتُها شائِعةٌ لا تتحيَّز، وبرَكَتُها ذائِعةٌ لا يختَصُّ بها قَبيلٌ ولا يتميَّز. نعمةٌ كمُلَت محاسِنُها وتمَّت، وكثُرَت فضائِلُها وجمَّت، وانتَحَتْنَا نفَحَاتُنا وعمَّت، تلكُم - يا رعاكم الله -: هي نِعمةُ حُلُول شهر رمضان المُبارك، الذي تبلَّجَ بيُمنِه الصباح، وتأرَّجَت الأمصارُ بعَبَقِه الفوَّاح، واستَقَت لمَقدَمِه الأرواح كُؤوسَ الأفراح.

وكَم لله مِن نفَحَاتِ خَيرٍ *** بمَقدَمِك السَّعيدِ أخَا السَّناءِ

فكَم خشَعَت قُلوبُ ذَوِي صَلاحٍ *** وكَم دمَعَت عُيُونُ الأتقِيَاءِ

أمة الإسلام: ها هو شهرُ رمضان المُبارك قد أشرَقَت في اُفقِ الزَّمانِ كواكِبُه، وعادَت بسلامةِ الإيابِ أمجادُهُ ومراكِبُه؛ لينضَحَ أرواحَنا اللَّهفَى بالرَّوح والرَّيحان، والقُربَى والازدِلافِ إلى المولَى الديَّان.

فيا لها مِن فرحةٍ غامِرةٍ تعيشُها الأمةُ الإسلاميَّةُ الآن، بالإطلالةِ السنويَّة لهذا الموسِمِ الكريم، والإشراقَةِ النورانيَّة لهذا الشهر العظيم، فهو شهرٌ لا يُشبِهُه شهر، مِن أشرَفِ أوقاتِ الدَّهر، فضائِلُه لا تُحصَى، ومحامِدُه لا تُستقصَى، إنه شهرُ القَبُول والسُّعُود، شهرُ العِتقِ والجُود، هذا إبَّانُ الترقِّي والصُّعُود، شهرٌ أنزلَ الله فيه كتابَه، وفتَحَ فيه للتائِبِين أبوابَه.

فيا لله! هذا نسِيمُ القَبُول هَبَّ، وهذا سَيلُ الخَير صَبَّ، وهذا الشيطانُ قد غُلَّ.

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان أولُ ليلةٍ من شهر رمضان صُفِّدَت الشياطينُ ومرَدَةُ الجنِّ، وغُلِّقَت أبوابُ النَّار فلم يُفتَح مِنها بابٌ، وفُتِّحَت أبوابُ الجنَّة فلم يُغلَق مِنها بابٌ، ويُنادِي مُنادٍ: يا باغِيَ الخَير أقبِل، ويا باغِيَ الشرِّ أقصِر» (أخرجه الترمذي وابن ماجَه بسنَدٍ صحيحٍ).

شهرُ الأمانةِ والصِّيانةِ والتُّقَى *** والفوزُ فيه لمَن أرادَ قَبُولَا

فِيهِ الجِنانُ تفتَّحَت لقُدُومِهِ *** والحُورُ فِيهِ ازَّيَّنَت تَحفِيلَا

طُوبَى لعبدٍ صحَّ فِيهِ صِيامُهُ *** ودعَا المُهيمِنَ بُكرةً وأصِيلَا

يقولُ الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -: "إن الله جعلَ شهرَ رمضان مِضمارًا لخلقِه يستبِقُون فِيهِ بطاعتِهِ إلى مَرضاتِهِ، فسبَقَ قومٌ ففازُوا، وتخلَّفَ آخرُون فخابُوا، فالعَجَبُ مِن اللَّاعِبِ في اليوم الذي يفُوزُ فيه المُحسِنُون، ويخسَرُ فيه المُبطِلُون".

إخوة الإسلام: إنها النفوسُ التي جُبِلَت على البِرِّ والصلاح، وطُبِعَت على الجَمِيلِ والإصلاحِ، تهفُو إلى الخَير وتُسَرُّ بإدراكِهِ ووقوعِهِ، وتأسَى للشرِّ وتَحزَنُ لرُتُوعِهِ، وتجتَهِدُ في العبادة تأسِّيًا بالنبيِّ المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -.

روى الإمامُ مُسلمٌ في "صحيحه" من حديث أمِّ المُؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، يجتهِدُ في رمضان ما لا يجتَهِدُ في غيرِه".

وذلك أن العُقبَى عظيمة، والجائِزةَ جِسِيمة: جنَّةٌ عرضُها السماوات والأرض، جنَّةٌ تحلَّت بأزاهِيرِ الرَّياحِين، وتجلَّت في حُلَلٍ سُندُسِيَّةٍ مِن البَسَاتِين، ذاتُ قَرارٍ ومَعِين، وظِلٍّ ظَلِيلٍ، وماءٍ سَلسَبِيلٍ.

فحَيَّ على جنَّاتِ عدنٍ فإنَّها *** منازِلُ كالأُولَى وفيها المُخيَّمُ

ولكنَّنا سَبْيُ العدوِّ فهَل ترَى *** نعُودُ إلى أوطانِنا ونُسَلَّمُ؟

إنها دارُ الكرامةِ والرِّضوان، والسلامة والسلام والأمان، أشرَقَ بهاؤُها، وطابَ فِناؤُها، ودامَ نَعِيمُها، قد تشوَّقَت لطالِبِيها، وتزَيَّنَت لمُريدِيها.

فيا عجَبًا! كيف لطالِبِ الجِنانِ أن ينام؟! خاصَّةً في شهر العفوِ والغُفرانِ .. شهر الذِّكر والقُرآن .. وما أعذَبَ الحديثَ عن رَوحِ الجِنان في موسِمِ رمضان.

هي جنَّةٌ طابَتْ وطابَ نعِيمُها *** فنَعِيمُها باقٍ وليسَ بفَانِ

دارُ السَّلامِ وجنَّةُ المأوَى *** ومنزِلُ عسكَرِ الإيمانِ والقُرآنِ

سُكَّانُها أهلُ القِيامِ مع الصِّيامِ *** وطيِّبِ الكلِماتِ والإحسانِ

أنهارُها في غَير أُخدُودٍ جَرَتْ *** سُبحانَ مُسِكِها عن الفَيَضانِ

مِن تحتِهِم تجرِي كما شاؤُوا *** مُفجَّرةً وما للنَّهرِ مِن نُقصَانِ

عسَلٌ مُصفَّى ثُمَّ ماءٌ ثُمَّ خَمرٌ *** ثُمَّ أنهارٌ مِن الألبَانِ

وأبلَغُ مِن ذلك: قولُ الحقِّ - تبارك وتعالى -: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [محمد: 15].

الله أكبر! هذه أنهارُها، أما بِناؤُها فلَبِنةٌ مِن ذهبٍ، ولَبِنَةٌ مِن فِضَّة، بينهما مِسكٌ أرفَعُ مِن أن يُعدَّ حُسنُ ذاتِهِ وطِيبُ رِيحِه وصِفاتِه، حَصباؤُها اللُّؤلؤُ والياقُوتُ.

روى الإمامُ أحمدُ في "مسنده" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قُلنا: يا رسولَ الله! حدِّثنا عن الجنَّة ما بِناؤُها؟ قال: «لَبِنةُ ذهَبٍ ولَبِنَةُ فِضَّة، ومِلاطُها المِسكُ الأذفَر، وحَصباؤُها اللُّؤلُؤُ والياقُوت، وتُرابُها الزَّعفَران، مَن يدخُلُها يَنعَمُ ولا يَبأَسُ، ويخلُدُ ولا يمُوت، لا تَبلَى ثِيابُه، ولا يَفنَى شَبابُه».

وبِناؤُها اللَّبِناتُ مِن ذهَبٍ *** وأُخرَى فِضَّةٌ نَوعَانِ مُختَلِفانِ

وقُصُورُها مِن لُؤلُؤٍ وزَبرْجَدٍ *** أو فِضَّةٍ أو خالِصِ العِقيَانِ

وكذاك مِن دُرٍّ وياقُوتٍ بِهِ *** نُظِمَ البِناءُ بِغايَةِ الإتقَانِ

نَدِيٌّ ظِلُّها، وسَحٌّ وابِلُها وطَلُّها، نعمةٌ صافِية، ومِنحةٌ ضافِية، وعِيشةٌ راضِية.

روَى ابنُ ماجَه في "سننه" من حديث أُسامة بن زَيدٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ لأصحابِهِ: «ألا هل مِن مُشمِّرٍ للجنَّة؟ فإنَّ الجنَّةَ لا خطَرَ لها، هي وربِّ الكعبَة نُورٌ يتلألَأُ، ورَياحنةٌ تهتَزُّ، وقصرٌ مَشِيد، ونهرٌ مُضطرِدٌ، وفاكِهةٌ كثيرةٌ نضِيجَةٌ، وزَوجةٌ جَمِيلةٌ، وحُلَلٌ كثِيرةٌ، في مقامٍ أبَدًا، في حَبرَةٍ ونَضرةٍ، في دُرَرٍ عالِيةٍ سلِيمةٍ بهِيَّة»، قالوا: نحن المُشمِّرُون لها يا رسولَ الله، قال: «قُولُوا: إن شاءَ الله».

أمة الإيمان: وإنَّ في الجنَّة لشجرَةً يسِيرُ الراكِبُ في ظلِّها مائةَ عامٍ لا يقطَعُها، كما صحَّ ذلك عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، واقرَؤُوا إن شِئتُم: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة: 30]، وقال - سبحانه -: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) [المرسلات: 41، 42].

مجالِسُهم في الجنَّة على سُررٍ موضُونة، أي: منسُوجةٍ مِن الذَّهبِ والياقُوتِ والجَواهِر، (مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) [الواقعة: 16- 26].

للعبدِ فيها خَيمةٌ مِن لُؤلُؤٍ *** قد جُوِّفَت هي صَنعَةُ الرَّحمنِ

ولقد أتَى ذِكرُ اللِّقاءِ لربِّنا *** الرَّحمنِ في سُورٍ مِن القرآنِ

معاشِر المُسلمين: وإن أعظمَ نعيمٍ لأهلِ الجنَّة رُؤيةُ ربِّ العالَمين - جلَّ جلالُه -، روى البخاريُّ ومُسلمٌ في "صحيحيهما" مِن حديثِ جريرِ بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: كُنَّا عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فنظَرَ إلى القمرِ ليلةَ البدر، وقال: «إنَّكم ستَرَونَ ربَّكُم كما تَرَونَ هذا القمَرَ، لا تُضامُون في رُؤيَتِه» أي: لا تشُكُّون ولا تختَلِفُون في رُؤيَتِه.

وروى مُسلمٌ في "صحيحه" من حديث صُهيبٍ - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخَلَ أهلُ الجنَّة الجنَّةَ يقولُ الله - تبارك وتعالى -: تُرِيدُون شيئًا أزِيدُكم؟ فيقُولُون: ألم تُبيِّض وُجوهَنا؟! ألم تُدخِلنا الجنَّة وتُنجِينَا مِن النار؟!»، قال: «فيُكشَفُ الحِجابُ فيَرَونَ ربَّ العزَّة - سبحانه -، فما أُعطُوا شيئًا أحبَّ إليهم مِن النَّظر إلى ربِّهم - عزَّ وجل -».

الله أكبر! الله أكبر! اللهم متِّعنا بلذَّةِ النَّظر إلى وجهِك الكريم، والشَّوقِ إلى لِقائِك في غيرِ ضرَّاء مُضِرَّة، ولا فِتنةٍ مُضِلَّة.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس: 26]، (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 35].

أنعَمَ عليهم وأفادَ، وأعطَاهم مُناهم وزاد.

فبينَا هم في عيشِهم وسُرُورِهم *** وأرزاقُهم تجرِي عليهم وتُقسَمُ

إذ هم بنُورٍ ساطِعٍ أشرَقَت له *** بأقطارِها الجنَّاتُ لا يُتوهَّمُ

تجلَّى لهم ربُّ السماوات جَهرَةً *** فيضحَكُ فوقَ العرشِ ثم يُكلِّمُ

سلامٌ عليكُم يسمَعُون جميعُهم *** بآذانِهم تسلِيمَه إذ يُسلِّمُ

يقولُ: سَلُونِي ما اشتَهَيتُم فكُلُّ ما *** تُريدُون عِندِي إنَّنِي أنا أرحَمُ

فقالُوا جميعًا: نحن نسألُك الرِّضا *** فأنت الذي تُولِي الجَمِيلَ وترحَمُ

فيُعطِيهِمُ هذا ويُشهِد جميعَهم *** عليه تعالَى اللهُ فاللهُ أكرَمُ

جعَلَنا الله وإيَّاكُم في الدارَين مِن أهلِ السَّعادَة، ورزَقَنا الحُسنَى وزِيادَة.

أعوذُ بالله مِن الشيطان الرجيم: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) [الرعد: 35].

اللهم إنا نسألُك الجنَّةَ وما قرَّبَ إليها مِن قولٍ وعملٍ، ونعُوذُ بك مِن النَّارِ وما قرَّبَ إليها مِن قولٍ وعملٍ، اللهم إنا نسألُك رِضاكَ والجنَّة، ونعوذُ بك مِن سخَطِك والنَّار.

بارَكَ الله لي ولكم في أوقاتِ الطاعاتِ، وزادَنا مِن البرَكاتِ والخيراتِ والرَّحماتِ، وجعَلَنا جميعًا مِن أهلِ الجنَّاتِ؛ فهو ولِيُّ النِّعَم والمكرُماتِ، أقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافَّة المُسلمين والمُسلمات من كلِّ الذُّنوبِ والخطيئَاتِ؛ فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إنه هو التوابُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله، جعلَ الصِّيامَ قُربةً إليه وجُنَّة، وسببًا مُوصِلًا إلى الرِّضوانِ والجنَّة، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له إلهُ النَّاسِ والجِنَّة، وأشهدُ أن نبيَّنا مُحمدًا عبدُ الله ورسولُه المبعُوثُ بأكمَلِ شريعةٍ وأقوَمِ سُنَّة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آلِه وأصحابِه أُولِي الهِمَم العلِيَّة والنُّفُوسِ المُطمئِنَّة، والتابِعِين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتَّقُوا الله - عباد الله - في السرِّ والعلَن، واحذَرُوا مُخالَفَة الفِعلِ الذَّمِيمِ لقَولِكم الحسَن؛ تبلُغُوا مراضِيَ الرَّحمن وأعظَمَ المِنَن.

إخوة الإيمان: إنَّنا إذ نُشنِّفُ الآذانَ، ونُمتِّعُ الجَنانَ بالحديثِ عن نعيمِ الجِنانِ إنما نحُثُّ الجَزمَ، ونشُدُّ العَزمَ لنهنَأَ في أفضلِ رِياضٍ، ونكرَعَ مِن أهنَأِ حِيَاضٍ، لا يجِفُّ ينبُوعُها، ولا تنضَبُ فيُوضُها، خاصَّةً وأن مواسِمَ الخيراتِ قد حلَّت، وأبوابَ الفضلِ قد هلَّت، وأبوابُ الجِنانِ على مِصراعَيها فُتِحَت.

فرمضانُ نعيمٌ ثَرَّارٌ للمُتنافِسِين، ومنهَلٌ بالتُّقَى عَذبٌ للمُتسابِقِين، وها هو قد أمتَعَنا بظِلالِه، وأندَى قُلوبَنا ببِلالِهِ.

رمضانُ بالحسَناتِ كفُّك تَزخَرُ *** والكَونُ في لألاءِ حُسنِك مُبحِرُ

هتَفَت للُقيَاك النُّفُوسُ وأسرَعَت *** مِن حُوبِها بدُمُوعِها تستغفِرُ

أمة الصِّيام والقِيام: إن على الأمة الإسلاميَّة أن تنخَلِعَ مِن حيِّز المَقالِ والانفِعالِ إلى التحقُّقِ بالفِعال.

فهلُمُّوا نتضمَّخُ مِن الصِّيام بأزكَى الطُّيُوبِ والنَّشر .. هلُمُّوا نمتَحُ أفاوِيقَ الإشراقاتِ .. وسوامِقَ البشائِرِ والنَّفَحاتِ بمُحكَمِ الآياتِ ومجلُوِّ الصَّفَحات؛ تكون لقُلوبِنا تِرياقًا وشِفاءً، ولأرواحِنا صُبحًا وضَّاءً، لاسيَّما والسِّهامُ تَرِيشُ الأمةَ مِن كل حدَبٍ وصَوبٍ.

نعم .. يا رعاكم الله: جدِيرٌ بنا في شهرِنا الذي اكتنَزَ ليلةً هي خَيرٌ مِن ألفِ شهر أن نُحدِّدَ الأهدافَ والدُّرُوبَ، ونُوحِّدَ الصُّفُوفَ والقُلُوبَ، وأن يُحرَّكَ مِن الأمةِ الهِمَمُ والعزائِمُ التي ترُومُ العِزَّة وتأبَى الهزائِم، فتأتَلِفَ على حلِّ قضاياها العالميَّة، وفي الذُّؤابَةِ مِنها قضيَّةُ القُدسِ الأبِيَّة. ذلكم لكي نستأنِفَ منازِلَ الرِّيادَة، وعليَاءَ القِيادةِ والسِّيادَة في أقصًى مُبارَكٍ مُحرَّرٍ - بإذن الله -.

إخوة الإسلام: وفي هذا الشهر العظيمِ يُندَبُ اللَّهَجُ بالدَّعواتِ الطيِّباتِ، فارفَعُوا أكُفَّ الضَّراعَةِ لكُم ولأهلِيكُم وأمَّتِكم، وألِحُّوا على البارِي - سبحانه - بالدُّعاء في حِفظِ بلاد الحرمَين الشريفَين، واستِقرارِها وأمنِها، وسلامةِ عُمَّارِها وزُوَّارِها، وتوفيقِ وُلاةِ أمرِها ورِجالِ أمنِها، والمُرابِطِين على ثُغُورِها وحُدودِها، وإحلالِ الأمنِ والسِّلمِ الدولِيَّين في تعزيزٍ لمنهَجِ الوسطيَّة والتسامُحِ والاعتِدال، وبُعدٍ عن الإرهابِ والطائفيَّة والانحِلال.

وارفَعُوا إليه الشَّكوَى والنِّدا أن ينصُرَ إخوانَكم المُستضعَفِين والمُشرَّدِين، والمنكُوبِين والمأسُورِين، والمُضطهَدِين في كلِّ مكانٍ، وأن يُفرِّجَ كُروبَهم وهُمُومَهم، ويكشِفَ شدائِدَهم وغُمُومَهم، خاصَّةً إخوانُنا في بلاد الشَّام الذين زادَ التَّقتِيلُ فيهم والإجرام، وفي العراقِ الوَطِيد، واليمَن السَّعِيد، ومُسلِمِي بُورما وأراكان، الذين يستقبِلُون شهرَ القرآن بالإبادَة والتشريدِ، والطُّغيان والتَّهجِير ومَزِيدِ الوَعِيد.

ولكنَّ الله ناصِرٌ أولياءَه، ومُتبِّرٌ أعداءَه، وإن طالَ الدُّجَى زمنًا.

ألا فاجتَهِدُوا في طلَبِ الجِنان، وشمِّرُوا لنَيلِ رِضا الرَّحمن؛ تتحقَّق لكم آمالُ الزَّمان.

يا سِلعةَ الرَّحمن لستِ رخِيصَةً *** بل أنتِ غالِيةٌ على الكسلَانِ

يا سِلعةَ الرَّحمن ليس يَنالُها *** فِي الألفِ إلا واحِدٌ لا اثنَانِ

يا سِلعةَ الرَّحمن هل مِن خاطِبٍ *** فلقَد عُرِضتِ بأيسَرِ الأثمَانِ

جعلَنا الله وإيَّاكم ووالِدِينا والمُسلمين من أهلِها بمنِّه وكرمِه.

هذا وصلُّوا وسلِّمُوا - رحِمَكم الله - على إمامِ المُرسَلين، وقُدوَة الصائِمِين القائِمِين: النبيِّ الأُمِّيِّ الأمين، كما أمرَكم بذلك ربُّكُم ربُّ العالمين، فقال في مُحكَم الكتابِ المُبِين: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَن صلَّى علَيَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عَشرًا».

وأفضَلُ الصلاةِ والتَّسلِيمِ *** على النبيِّ المُصطفَى الكريمِ

مُحمَّدِ خَيرِ الأنامِ العاقِبِ *** وآلِهِ الغُرِّ ذَوِي المناقِبِ

وصَحبِهِ الأماجِدِ الأبرارِ *** الصَّفوَةِ الأكابِرِ الأخيَارِ

وخُصَّ منهم: أبا بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليَّ، اللهم ارضَ عن سائِرِ أصحابِ نبيِّك أجمعِين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمَتِك يا أرحَمَ الراحِمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشِّركَ والمُشركِين، وسلِّم المُعتمِرين والزَّائِرين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائِرَ بلادِ المُسلمين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا ووُلاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا خادِمَ الحرمَين الشريفَين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضَى، وخُذ بناصِيَتِه للبِرِّ والتقوَى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالِحة، اللهم وفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلادِ والعبادِ.

اللهم وفِّق جميعَ قادَة المُسلمين لتحكيمِ شرعِك، واتِّباعِ سنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعَلهم رحمةً على عبادِك المُؤمنين.

اللهم ادفَع عنَّا الغلا والوَبَا والرِّبَا والزِّنا، والزلازِلَ والمِحَن، وسُوءَ الفِتَن ما ظهَرَ مِنها وما بطَنَ عن بلدِنا هذا وعن سائِرِ بلادِ المُسلمين يا ربَّ العالَمِين.

اللهم فرِّج همَّ المهمُومين، ونفِّس كربَ المكرُوبين، واقضِ الدَّين عن المَدينين، واشفِ مرضانَا ومرضَى المُسلمين برحمتِك يا أرحم الراحِمين.

اللهم أنقِذِ المسجِدَ الأقصَى، اللهم أنقِذِ المسجِدَ الأقصَى، اللهم أنقِذِ المسجِدَ الأقصَى مِن براثِنِ المُعتَدِين المُحتلِّين، اللهم اجعَله شامِخًا عزيزًا إلى يومِ الدِّين.

اللهم كُن لإخوانِنا في بلادِ الشَّام، وفي سُوريا، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم إنهم مظلُومُون فانصُرهم، اللهم إنهم مظلُومُون فانصُرهم، يا ناصِر المُستضعَفين.

اللهم أصلِح حالَ إخوانِنا في العِراق، وفي اليمَن، وفي كلِّ مكانٍ يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّولِ والإنعامِ.

اللهم ادفَع عنَّا الفِتَن ما ظهَرَ منها وما بطَنَ.

اللهم اجمَع قُلوبَ هذه الأمة على الكتابِ والسُّنَّة يا ذا العطاءِ والمِنَّة.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

ربَّنا تقبَّل منَّا إنَّك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنَّك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالِدِينا وجميعِ المُسلمين الأحياءِ منهم والميِّتين برحمتِك يا أرم الراحمين.

اللهم وفِّق رِجالَ أمنِنا، اللهم وفِّق رِجالَ أمنِنا، اللهم وفِّق رِجالَ أمنِنا، اللهم كُن لجُنودِنا المُرابِطِين على ثُغورِنا وحُدودِنا، اللهم سدِّد رميَهم ورأيَهم، وتقبَّل شُهداءَهم، واشفِ جرحَاهم، وعافِ مرضَاهم يا رب العالمين، ورُدَّهم سالِمين غانِمِين يا حيُّ يا قيُّوم، يا ذا الجلالِ والإكرامِ.

اللهم إنَّك عفُوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا.

ربَّنا تقبَّل منَّا إنَّك أنت السميعُ العليم، وآخِرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي