فشكرا لك يا رمضان! فأنت من عرفتُ به نفسي، وأنت من أقنعني بقدرتي على التغيير، وأنت من دربني على مواجهة نفسي، والارتقاء بذاتي؛ فشكرا لك! وشكرا وحمدا لربي الذي أهداك نعمة لنا!.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.
وبعد: أيها المؤمن، أتعرف أن رمضان يمتلك قوى عدة، ومعطيات جمة، تساعدك على التغيير؟ أتعرف أن رمضان يُثْبِتُ لك أنك تمتلك قدرات ذاتية هائلة تساعدك على التغيير؟.
أيها المؤمن، أيتها المؤمنة: مِن هنا، يلزم أن أقرر أنا وأنت أننا حقا يجب أن نتغير في رمضان. نعم، سأتغير أنا وأنت في رمضان؛ لماذا يا أيها المؤمن؟ سأتغير في رمضان؛ لأن رمضان ميدان للتغيير.
هو شهر ليس كغيره من الشهور، هو شهر يمتلك خصائص لا يمتلكها شهر آخر من شهور السنة، هو شهر فيه أعمال لا يمكن أن تكون في غيره من شهور السنة، هو شهر يمتلك كل معطيات التغيير، فيه كل قوى التغيير.
رمضان، هو شهر لا كالشهور، هو شهر صفته الامتناع عن تناول الطعام والشراب في نهاره، فهو الشهر الوحيد الذي يجعل من نهاره ميدانا تدريبيا لمواجهة شهوة الانكباب على الأكل والشرب، هو الشهر الوحيد الذي يجعل ثلاثين يوما تدريبا، طول كل حصة تدريبية نهار كامل، متوسطها حوالي اثنتا عشرة ساعة تدريبية ويزيد، وبصورة يومية متواصلة. فأي ميدان تدريبي يقدم ذلك، ويقع فيه ذلك، إلا رمضان؟.
فها هو رمضان يبسط نهاره ليجعل منه ميدانا لتدريب شخصية المسلم، لتطوير ذاته في مواجهة نزعات النفس وشهواتها أمام تناولها ما تحتاجه أو ما تشتهيه من شهوة البطن.
نعم، سأتغير أنا وأنت في رمضان؛ لماذا يا أيها المؤمن؟ سأتغير فيه لأن رمضان ميدان للتغيير، هو شهر يمتلك قوى التغيير، ومعطيات التغيير، فهو الشهر الوحيد الذي يجعل من نهاره ميدانا للتدريب على صيانة شهوة الفرج، تخضع فيه شخصية المسلم لمدة ثلاثين يوما، كل يوم قرابة اثنتي عشرة ساعة تدريبية، يقوّي فيها نفسه على مواجهة شهواتها ورغباتها الجنسية، فيمنع نفسه من تفريغ شهوته بأي طريقة كانت، لا بالحلال ولا بغير الحلال. فأيّ شهر يمتلك هذه الخصائص غير شهر رمضان؟ وأيّ شهر يجعل من نفسه ميدانا تدريبيا طويلا وصارما إلا شهر رمضان؟ بل أيّ معاهد الدنيا تفعل فعله وتتَبنى برنامجه؟ أليس معنى هذا أنّ شهر رمضان هو شهر التغيير بحق وبجدارة؟ هو شهر يدخلك في دورات لتغيير النفس ومواجهة نوازعها، وتطوير الذات، وتربية الرغبات.
نعم، سأتغير أنا وأنت أيها المؤمن في رمضان؛ لماذا؟ إن رمضان أقنعني بذاتي، أقنعني بقدراتي، كشف لي مخزوني الداخلي، أقنعني بأنني قادر على تغيير ذاتي، وتطوير أدائي، وتحسين أحوالي، ورفع مستوى إنجازاتي. فتأمل معي: كيف ذاك؟!.
نعم، رمضان طالبني دينيا، وألزمني عمليا، بأن أقوم بكسر المألوف وتجاوز الروتين، فحينما أكون كل يوم بطوله، بنهاره، بكل ساعاته، من فجره إلى ليله، أنا فيه حُرّ طليق أتناول ما أشتهي من الطعام والشراب، بل ذاك هو من أقوى عاداتي، فلا يمر يوم لا آكل فيه ولا أشرب في نهاره مرات ومرات، ثم يأتي رمضان فيدربني على التوقّف عن ذلك طوال نهار اليوم، ولمدة تزيد عن اثنتي عشرة ساعة. وإذا بي أكتشف نفسي، بأنني قادر على فعل ذلك، بل ويمنعني من شهوة الفرج إضافة لشهوة البطن، وإذا بي قد نجحت في التوقف عن الشهوتين معا، ولمدة يومية طويلة في حقل التدريب البشري. أليس هذا أكبر دليل على أنني أمتلك قوة ذاتية مذهله على كسر المألوف والمعتاد؟ بل وعلى الامتناع عن المرغوب والمشتهى؟ أليس هذا شاهدا واقعيا يقنعني بأنني فعلا تغيرت في رمضان، وغيرت من سلوكي، وطوّرت مهاراتي النفسية والذاتية؟.
تأمل معي لتكتشف أنك تمتلك قوى عميقة بداخلك تقول لك: نعم أنت تغيرت للأحسن، ونعم، أنت قادر على التغيير للأحسن أكثر في ميادين أخرى من حياتك، تكسر فيها المألوف السّلبي، والعادات السيئة، والسلوكيات غير السّوية.
نعم، سأتغير في رمضان؛ لأن رمضان قد جعل من نهاره ميدانا للتدريب على التغيير، وقد جعل من ليله ميدانا للتغيير. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "الصوم جُنّة يستجن بها العبد من النار".
نعم، سأتغير في رمضان؛ لأن واقعي في شهر رمضان أقنعني بأنني أمتلك قدرات ذاتية ونفسية هائلة على مواجهة المألوف والمعتاد والمرغوب. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له".
نعم، سأتغير في رمضان، ولكن كيف؟ فكما تدربت في رمضان على أن أجعل من دوافع تغيير عاداتي في الأكل والشرب والشهوة، لأجل الله ربي -سبحانه-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "يقول الله: إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي". فسأجعل دوافع تغيير كثير من سلوكاتي السلبية هو استجابة لدافع: (من أجلي). فمن أجلك يا ربي، يا إلهي، غيرت عادة الطعام والشراب والشهوة، كذلك من أجلك سأغير من سلوكي السلبي في مشاهدة الحرام على التلفاز، في تعاطي الحرام من الدخان وغيره، سأغير من أجلك يا ربي علاقاتي غير الشرعية مع الجنس الآخر، سأغير من انفتاحي السلبي على مواقع التواصل الاجتماعي، لأجلك يا رب، فأنت من وصفت الصائم بأنه: "يدع شهوته وطعامه من أجلي".
نعم، سأتغير في رمضان، ولكن كيف؟ فشهر رمضان يمتلك طاقة خاصة، فيه مخزون خاص يقويني على التغيير؛ ففي شهر رمضان تصفّد الشياطين، فكما في الحديث الصحيح: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين".
فرمضان يسهّل عليّ عملية التغيير، رمضان يحجب عني أحد موانع التغيير الشريرة، الخفية، المقاومة لكل تغيير إيجابي، فإذا كان بفضل الله -تعالى- قد انعدم تأثيره على نفسي، أليس هذا من أعظم التسهيل والتيسير لتغيير الذات والتقليل من المعاصي؟ لأنه لم يبق مصدر للمعاصي لأرتكبها إلا نفسي الأمارة بالسوء والبيئة المحيطة؛ لذلك، سأنتهز فرصة ابتعاد الشيطان عن طريقي، وسأجتهد في تغيير نفسي للأحسن، فسأكف عن ارتكاب المحرمات وفعل الفواحش وإيذاء الخلق، وأستبدل ذلك بفعل الطاعات، والإحسان إلى الخلق.
فهذه هي مدرسة رمضان التدريبية والتغييرية، مدرسة شعارها كما في الحديث الصحيح: "رمضان تفتح فيه أبواب السماء -وفي رواية: الجنة- وتغلق فيه أبواب النيران، ويصفد فيه كل شيطان مريد، وينادي مناد كل ليلة: يا طالب الخير هلم، ويا طالب الشر أمسك".
نعم، سأتغير في رمضان، ولكن كيف؟ فشهر رمضان يبعث في نفسي طاقة الصبر، ويدرب نفسي على أن تصبر لمدة اثنتي عشرة ساعة يوميا على الأقل ماسكة زمامها، مانعة رغباتها عن التفلّت والانطلاق في عالم شهوتي البطن والفرج، ولمدة ثلاثين نهارا، فأنا أتلقى في رمضان تدريبا شديد البأس لا تقدمه كل معاهد الدنيا بهذه الصورة، فسأتغير لأكون صبوراً أكثر، صبوراً على أداء صلاة التراويح، صبوراً على القيام للتسحر، صبوراً على أخلاق زوجتي وأولادي وأصدقائي، صبوراً على الإمساك عن المعاصي والتدخين، نعم، سأتغير من داخلي لأبعث في نفسي طاقة الصبر التي أظهرتها طوال نهار رمضان، التي أثبتت لي قوتي الباطنية والنفسية، لأعيش الصبر في حياتي كلها، فأصبر على المصائب وتحمل المكروهات وتحقيق الآمال والطموحات.
نعم، سأتغير في رمضان، ولكن كيف؟ سأتغير في أسلوب مواجهة من يؤذونني، في التعامل مع أولئك الذين يستفزونني، ويقهرونني؛ لأن رمضان دربني على ضبط شهوة الطعام رغم لذتها، وشهوة الشراب رغم حاجتها، وشهوة الفرج رغم إغرائها، تدربت طوال النهار على ذلك، تلقيت ساعات تدريبية طويلة طويلة لا يتلقاها أي متدرب آخر في أي مدرسة أخرى، فأستطيع بعد ذلك أن أضبط شهوة الغضب، وغريزة الانتقام، فلا أكون متعجلا ولا متهورا ولا سباباً شتاماً، هكذا هي مدرسة رمضان التدريبية التي وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "الصيام جُنّة، إذا كان أحدكم صائما، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم". وفي رواية صحيحة أخرى: "الصيام جنة من النار، فمن أصبح صائما فلا يجهل يومئذ، وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه، ولا يسبه، وليقل: إني صائم".
نعم، سأتغير في رمضان، ولكن كيف؟ سأتغير في إقبالي على القرآن؛ لأن رمضان يمتلك روحا خاصة للقرآن، لأن رمضان تسري نسائم القرآن في كل أيامه ولياليه وساعاته ودقائقه، فهو يملك مخزوناً تعريفياً وتقديرياً عظيماً للقرآن ينفخه في ذاتي وقلبي واهتمامي فيجعلني أكثر إقبالا على القرآن، فرمضان الذي هو ميدان يُدرّبني ومعهد يُربّيني، لا يُعرف إلا بالقرآن، ولا يتجمّل إلا بالقرآن، بل رمضان لم يعرف إلا بالقرآن، فهو شهر القرآن، وفيه نزل القرآن، وفيه كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطيه خصوصية قرآنية فيتدارس القرآن مع جبريل، فكلّ هذا يدرّبني ويعودني أن أتغير اتجاه القرآن فأزيد من قراءتي له وأضاعفها.
نعم، سأتغير في رمضان، ولكن كيف؟ سأتغير في اتجاه صلاتي، فلن أكتفي بالفرائض والرواتب، بل سأزيد في مقدار النوافل؛ فرمضان يدربني على القيام في كل ليلة من لياليه تدريبا بدنيا قلبيا، لا تقوم به أيّ معاهد الدنيا التدريبية، تدريب على النوافل حيث القيام والركوع والسجود والخشوع والتقوى والهدوء والطمأنينة والسكينة، فكل هذا يغيرني لأزيد من نوافلي وخشوعي لله رب العاملين. هذا هو المعهد الرمضاني الذي أتدرب فيه وأتغير فيه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه كما في الحديث الصحيح: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
نعم، سأتغير في رمضان، ولكن كيف؟ سأتغير اتجاه إنفاقي لمالي، فلن أكون شحيحاً، ولا ممسكاً، ولا نادر الإنفاق وقليل البذل والعطاء، بل سأتغير لأكون أكثر إنفاقا، سأزيد من نسبة إنفاقي المالي، من صدقاتي، من عطائي، من بذلي، نعم سأتغير في رمضان مع الإنفاق.
فهكذا يدربني المعهد الرمضاني، فقدوتي فيه سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- الذي كان يتغير في إنفاقه في رمضان، فيزيد نسبة الإنفاق، وأنا سأتغير في رمضان فسأزيد نسبة الإنفاق؛ ففي الحديث الصحيح: "كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل".
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: نعم، سأتغير في رمضان، ولكن كيف؟ سأتغير في حرصي على مستقبلي في آخرتي، فأعمل على تثقيل موازيني عند الله، فسأتغير في رمضان، ليغير الله سيئاتي، ويبدل خطاياي، سأتغير لأجل أن لا أكون ممن رغم أنفه، بل لأكون ممن تغير قلبه وسلوكه، فرفع رأسه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في الحديث الحسن: "ورغِم أنف رجل دخل عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يغفر له".
سأتغير فأزيد في الطاعات وعمل الصالحات، وأقلل من السيئات وفعل المنكرات، فتكثر الحسنات وتغفر السيئات؛ فأكون -بسببك يا رمضان- في دائرة الإيمان والأمان.
فشكرا لك يا رمضان! فأنت من عرفتُ به نفسي، وأنت من أقنعني بقدرتي على التغيير، وأنت من دربني على مواجهة نفسي، والارتقاء بذاتي؛ فشكرا لك! وشكرا وحمدا لربي الذي أهداك نعمة لنا!.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي