كل منا يتمنى أن يشارك حجاج بيت الله الحرام، ويقف موقفهم في عرفات، وهي منة يتمناها كل منا، ويرجوها غالبنا، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله؛ فمن رحمته ولطفه بعباده، أن نوع العبادة وسهل طرقها؛ لينالوا بذلك الأجر والثواب، ويشاركوا إخوانهم الحجاج فيما هم فيه من الخير والبر وسائر الأبواب؛ ومن ذلك ..
الحمد لله الذي سهل طريق السعادة للمسلمين، ووعدهم بجزيل الجزاء في العاجلة ويوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله جعل للطاعات مواسم، وأشهد أن محمد عبده ورسوله خصه بالحكمة وجوامع الكلم، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، أكمل برسالته نعمة الإيمان والإسلام، وفضله على جميع الأنام، وعلى آله وصحبه وأتباعه من بعده، كانوا يتسابقون إلى فعل الخيرات، وتركوا محبوباتهم من أجل إرضاء رب الأرض والسموات، ومن اقتفى أثره، وسلك نهجه، واتبع سنته إلى يوم الدين والجزاء؛ لينالوا بذلك الأجر والوفاء.
وبعد:
أيها المسلمون: إن الأيام العشر من ذي الحجة موسم من مواسم الطاعات والخيرات، فيها يتنافس المتنافسون، ويتسابق إليها المتسابقون، حتى عدت هذه الأيام من أفضل أيام الدنيا؛ لما تضمنته من فضائل، واحتوت عليه من ميزات ومسائل، حتى قيل أن أيامها أفضل من العشر الأواخر من رمضان، ومن أجل ذلك كان العلماء والفضلاء يتنافسون في أعمال البر والإحسان، ومما يدل على فضلها وشرفها ما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر-" قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء"، ويكفي في فضلها وكرمها أن الله أقسم بها وهو -سبحانه- لا يقسم إلا بعظيم من خلقه قال -تعالى-: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1-2].
أيها المسلمون: لقد تضمنت هذه الأيام الشريفة، والليالي الكريمة يوم عرفة وما أدراك ما عرفة إنه اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتم به علينا النعمة، فشرع أعظم رسالاته وأكملها، وأفضل السبل وأنبلها، وأرسل أفضل رسله، وأكرم أنبيائه من خلقه، فقال -تقدست أسمائه وجلت صفاته-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3].
في هذا اليوم الأغر يجتمع الحجاج من كل أنحاء العالم، وأصقاع البلاد يلبسون زياً واحداً ويلبون تلبية واحدة، ويتحقق فيهم قوله -سبحانه-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10] فلا فرق بين أعجمي ولا عربي، ولا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13].
ولفضل هذا اليوم قال رسولنا الكريم: "الحج عرفة"، وبين أن صيامه لغير الحاج يكفر سنتين، ويمحو ذنوب العباد وتعتق في هذا اليوم الرقاب، عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أن رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يَوْمٍ أَكْثَرَ من أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فيه عَبْدًا من النَّارِ من يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلاَئِكَةَ، فيقول: ما أَرَادَ هَؤُلاَءِ؟"، فبادروا رحمكم الله الى صيامه، واغتنام اوقاته، بما ينفع ويفيد، ويدخر لما بعد الموت ولا يبيد، ومن أفضل الأعمال في العشر الأواخر ما يلي:
• الحج وزيارة بيت الله الحرام، وقد بين الله أن الحج فرض على كل من استطاع إليه سبيلا قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]. والاستطاعة تفسر بالقدرة المادية والبدنية، واشترط بعض العلماء المحرم بالنسبة للمرأة.
ويكفي في فضل الحج ما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد".
والواجب على المسلم أن يتعلم ويتفقه حتى يؤدي حجه ونسكه بما يوافق هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنه قد يقع في المحظور وهو لا يدري مثل ان لا يقف في حدود عرفة، أو يأتي عرفة بعد خروج وقته، أو يجامع فيفسد حجه، أو ربما قطع شجرا أو قتل صيدا، وقد أمرنا الله أن نسأل أهل العلم فيما أشكل علينا أو اشتبه أمره لنا.
ومن الأعمال الصالحة في هذه الأيام المباركة أيها الكرام التكبير -المطلق- وهو مشروع من أول الشهر إلى نهاية اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة؛ لقول الله -سبحانه-: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج:28]، وأما المقيد ففي أيام التشريق عقب الصلوات المكتوبات، والحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة الكبرى صبيحة يوم النحر، وصيغة التكبير "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. أو يثلث: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد".
ومن الأعمال الصالحة تلاوة كتابه وقراءة آياته، والتغلغل في مقاصده والتأمل في مراميه، وقد جعل الله الشفاء والرحمة فيه والهداية والنور (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ) [الإسراء:82] وقال -تعالى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" (متفق عليه). بل جاء في الحديث الصريح الصحيح أن تلاوة القرآن يضاعف أجرها، ويعظم أثرها في قلب المؤمن عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"(راوه الترمذي).
البدار البدار -أيها المسلمون- الكرام قبل فوات الأوان، وحلول الآجال، وتقلب الأيام والأحوال، ولات حين مندم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، بادروا -رحمكم الله- إلى استغلال الفرص، وتحين الأوقات الفاضلة؛ فإن ما يقوم به المسلم من أعمال البر والإحسان والصدقة، والمعروف ونوافل العبادة، وخاصة في أيام العشر أثمن عند الله من الذهب الخالص قالَ -عليه الصلاة والسلام-: "العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِلَيَّ" (رَوَاهُ مُسلِمٌ).
وقد دعانا الله إلى المسابقة في أمور الآخرة، وتحصيل الثواب في العاجلة فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آلعمران:133].
في الأيام العشر -أيها المسلمون- يوم النحر هذا اليوم العظيم من أيام الله -تعالى- هو أفضل أيام السنة على الإطلاق لأنه جمع بين أنواع العبادة ؛ كما جاء في حديث عبدالله بن قُرْطٍ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ"؛ رواه أبو داود.
وبعده أيام التشريق، وهي أيام الذِّكر والأكل؛ كما في حديث نُبَيْشَةَ الهُذَلِيِّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لله".
في زماننا فتن عظيمة وبلايا كبيرة، ومحن جسيمة، لا يثبت فيها على الدين، إلا من وفقه الله للعمل الصالح والعلم المتين، حتى أصبح القابض على دينه، المتمسك بتعاليم نبيه، كالقابض على الجمر، أو الماشي على لهيب الحر، والأيام العشر فرصة لكسب الحسنات، وعمل الصالحات، وخاصة الدعاء في عرفات، فقد جاء في الحديث أفضل الدعاء دعاء عرفة، فأكثروا فيه من الدعوات الصالحات، لعموم المسلمين ولمن يتعرضون اليوم للأذى والضرر، والنكبات، ودعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب من الأدعية المستجابات.
الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده، وأخلص الطاعة لربه، وأشهد أن لا إله إلا الله أرشد عباده إلى التوبة، ووفق من شاء واستغفر لذنبه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله خيرا من أدى مناسك الحج وجاهد في الله حق جهاده، وعلى آله واصحابه الداعين والسالكين طريق الهدى والمقتفين دعوته.
وبعد:
أيها المسلمون: كل منا يتمنى أن يشارك حجاج بيت الله الحرام، ويقف موقفهم في عرفات، وهي منة يتمناها كل منا، ويرجوها غالبنا، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله؛ فمن رحمته ولطفه بعباده، أن نوع العبادة وسهل طرقها؛ لينالوا بذلك الأجر والثواب، ويشاركوا إخوانهم الحجاج فيما هم فيه من الخير والبر وسائر الأبواب؛ ومن ذلك التكبير والاستغفار يوم عرفة، وعقب الصلوات في أيام التشريق، وقد حثنا رسولنا المكرم، ونبينا المعظم على صيام يوم عرفة، لما له من المزية في غفران الذنوب، وتفريج الكروب، وكذلك شرع لنا الاضاحي؛ ليتقرب العباد إلى ربهم، ويتصدقوا بلحومها على الفقراء والمحتاجين، وليقتدوا بسنة نبينا إبراهيم، وفيها مواساة للفقراء، وإعانة البؤساء، وتطهيرا لمرض البخل وإزالة داء الشحناء، قال -تعالى-: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) [الحج:37].
ومن السنن المستحبة لمن أراد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره أو ظفره في تلك العشر الأوائل، جاء عن أم سلمة "إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذن شعرًا ولا يقلمن ظفرًا"، والحكمة من ذلك أن يشارك الحجاج في بعض مناسكهم وأعمالهم؛ لئلا يغيب عن خاطره عظمة تلك الأيام، وفضل ما قام به سيد الأنام، والأمر خاصة بالمضحي لا المضحى عنه من أهل بيته، والأمر فيه سعة وتيسير، ورحمة لا تعسير.
هذا وصلوا على الحبيب المختار، خير من استغفر في الأسحار.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي