والمتأمل في آيات القرآن الكريم، وأحاديث المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، يلحظ تركيزاً واضحاً واهتماماً بالغاً بمسؤولية الكلمة وأمانة النطق، فالرقابة دقيقة: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، والمسؤولية شاملة: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:36].
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره.
إخوة الإسلام: والمتأمل في آيات القرآن الكريم، وأحاديث المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، يلحظ تركيزاً واضحاً واهتماماً بالغاً بمسؤولية الكلمة وأمانة النطق، فالرقابة دقيقة: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، والمسؤولية شاملة: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:36].
والكلمة في حس المسلم ليست عبثاً فارغاً، ولا لغواً آثماً: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون) [المؤمنون:1-3]؛ بل هي في ضمير المؤمن نهجٌ عادلٌ، وقولٌ سديدٌ راشدٌ، وهي طريق للصلاح والاستصلاح، ومغفرة للذنوب، وهي قرينة التقوى، كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
وإذا كانت تلك نظرة أهل الهداية والفضيلة، فليس الأمر كذلك عند أهل الغواية والرذيلة، وينبغي أن يترفع العالمون عن الجاهلين: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:55].
أجل، لقد ألزم الله المسلمين: (كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [الفتح:26]،أما الذين كفروا فحقّت عليهم كلمة العذاب: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [الزمر:19].
أيها المسلمون، والكلمة كلمتان: طيبةٌ وخبيثة، والطيبون للطيبات، والخبيثون للخبيثات، وفي أمثال القرآن عظةٌ وعبرة، والله يقول: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:25-28].
ومن ظلال هذه الآية: إن كلمة الحق ثابتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل، ولا تقوى عليها معاول الطغيان، وإن خُيّل للبعض أنها معرّضة للخطر الماحق في بعض الأحيان، وهي سامقة متعالية، تطل على الشر والظلم من علٍ، وإن خيل للبعض أحياناً أن الشر يزحمها في الفضاء، وهي مثمرة لا ينقطع ثمرها؛ لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن.
أما الكلمة الخبيثة، كلمة الباطل، فهي كالشجرة الخبيثة، قد تهيج وتتعالى وتتشابك، ويخيّل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى، ولكنها تظل نافشة هشة، جذورها في التربة قريبة، حتى لكأنها على وجه الأرض، وما هي إلا فترة ثم تُجْتثُّ من فوق الأرض فلا قرار لها ولا بقاء.
إخوة الإيمان: ما أعظم مسؤولية الكلمة! ونبي الهدى -عليه الصلاة والسلام- يقول: "إنّ العبد ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله، لا يُلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلّم بالكلمة من سخط الله، لا يُلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم"، وفي لفظ: "يزلُّ بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب". قال ابن عبد البر -يرحمه الله-: الكلمة التي يهوي صاحبها بسببها في النار، هي التي يقولها عند السلطان الجائر، زاد ابن بطال: بالبغي أو بالسعي على المسلم، فتكون سبباً لهلاكه، وإن لم يُرد القائل ذلك، لكنها ربما أدّت إلى ذلك، فيكتب على القائل إثمها.
والكلمة التي ترفَع بها الدرجات، ويُكتَب بها الرضوان، هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة، أو يفرّج عنه كربة، أو ينصر بها مظلوماً.
ويضيف القاضي عياض: يحتمل أن تكون الكلمة من الخنا والرفث، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة، وإن لم يعتقد ذلك.
ويزيد النووي: في هذا الحديث حثٌّ على حفظ اللسان، فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق، فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم، وإلا أمسك.
أيها المسلمون: وحين نعي هذه المسؤولية، فليس المهم أن نُمكَّن من القول، ولكن الأهم أن نعيَ ما نقول، وليس يكفي أن يرضى الناس أو بعضهم عما نقول، ولكنّ الغاية رضا ربّ العالمين.
وفي إطار أمانة الكلمة: احذر أن تكون شيطاناً ناطقاً، أو أخرس، فتتحدث حين يلزمك الصمت، أو تسكت حين يلزم الأمر أو النهي، وهل يغيب عنك أن من لوازم الإيمان قول الخير أو الصمت؟ "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت". وهل علمتَ أنّ أفضل المسلمين "من سلم المسلمون من لسانه ويده"؟ وأين أنتَ من طريق الجنة، وهو مرهون بضمان اللسان والفرج؟ "من يضمن لي ما بين لحييْه وما بين رجليه أضمن له الجنة".
كفى بالويل رادعاً عن سواقط الكلم، وهمز الآخرين ولمزهم! (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة:1]، وكفى بالكفر ذنباً ماحقاً من جرّاء كلمةٍ ساخرة مستهزئة: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة:65-66].
وإذا تعاظمت الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، بقي القول على الله بغير علمٍ أعظمها وأفشحها: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف:33].
وإليك ما قاله العارفون في تأويل هذه الآية: يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: رتّب الله المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلّث بما هو أعظم تحريماً منهما هو الشرك بالله -سبحانه-، ثم ربّع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول على الله بلا علم، وهذا يعم القول عليه -سبحانه- بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه. اهـ.
ألا ما أعظم الخَطْبَ حين يشيع القول على الله وعلى شرعه بغير علم! فتصبح الكلمة لا خطام لها ولا زمام، ويسري التحليل والتحريم على كل لسان، ويتصدّر الحديث سفهاء الأحلام، يُنْتَقص الدين، ويُسخَر بالمتدينين، وتُغَيَّب أو تُحاصر كلمة الحق، وتتحدث الرويبضة في أمر العامة، وتخفّ كفّة العدل في القول، والله يقول: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام:152].
هنا، وفي ظل هذه الأجواء، تشتد الحاجة لأمانة الكلمة، وتتعاظم مسؤوليتها على العلماء، والأمراء، والدعاة، والمفكرين، ورجالات الإعلام، والمربين، وكل بحسبه، فمسؤولية الكلمة لدى العلماء البيان وعدم الكتمان، وميثاق الله أولى بالقضاء، وهو فوق أعراض الدنيا: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران:187].وزلّة العالِم يزلُّ بها عالَمٌ، ومضروبٌ لها الطبل، كما يُقال.
أما الأمراء، فيكفيهم أن يتذكّروا قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أمير عشرة إلا وهو يأتي يوم القيامة مغلولاً، حتى يفكّه العدل، أو يوبقه الجور". وفي الحديث الآخر: "ما من أمير يلي المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة".
أما الدعاة، فمسؤولية الكلمة في دعوتهم ألسنة صادقة، وقلوب مخلصة، وحكمة في الدعوة، وحسن في الموعظة، ومجادلة بالحسنى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125].
أيها المسلمون: ويسري الأدب في القول لعموم عباد الله، بحسن العبارة، وعدم الإثارة، وفي ذلك قطع لطريق الشيطان، وإغاظة له: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) [الإسراء:53]. (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة:83].
ألا فاستحضروا -يا عباد الله- أنّى كانت مواقعكم، ومهما عظمت أو قلّت مسؤولياتكم، شمولية البيعة التي بايع عليها أسلافكم، وهي شاملة لكم: "بايعْنا رسولَ الله، -صلى الله عليه وسلم-، على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمَنْشط والمكره، وعلى أثَرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمرَ أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم".
أعوذ بالله من الشطيان الرجيم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر:10].
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن، وبصّرنا بسنة خير الأنام…
الحمد لله رب العالمين، أسبغ على عباده من النّعم ما لا يُعَد ولا يُحصى، وهل اللسان إلا آيةٌ ونعمة علتْ بها كفّة أقوام، وخفّت بها موازين آخرين؟.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يُبِح لأحدٍ من خلقه أن يتقول عليه، ولو كان صفيَّه وخليلَه، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة:44-46]. فكيف بالآخرين؟.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أدّبه ربّه فأحسن تأديبه، فلم يكن سبّاباً، ولا فاحشاً، ولا لاعناً. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى عباد الله الصالحين، أولئك الذين امتدحهم الله بقوله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) [الفرقان:72].
أما بعد: عباد الله، فإن القلوب الكبيرة تترجمها الألسنة الصادقة التي تحترق لآلام الآخرين، وتسَرُّ لنجاة المسلمين من العذاب المهين، حتى وإن احترقت في سبيل نجاتهم كالشموع تضيء للآخرين، وتحرق نفسها.
وهل تخرج الكلمة الصادقة إلا بجد واجتهاد، وتجرّد وإخلاص، وانتصار في معركة الهوى والشيطان، وحظوظ الدنيا؟.
أما الألسنة الكاذبة، فهي لوحة كاشفة لمخبئات الصدور غالباً، وهي أسلحة فتاكة تهلك الحرث والنسل، تزرع الضغينة، وتنشر بذور الفتنة، وتضلل العامة، وتسيء إلى الخاصة، وفرق بين الثرى والثريا!.
إخوة الإيمان: ولا ينتهي أثر الكلمة الصادقة في هذه الحياة، فكم من رجال ونساء غيّبتهم اللحود، وباتوا رمماً باليةً من أثر الأرض والدود، ومع ذلك بقيت كلماتهم سراجاً يضيء الطريق للسالكين، ويذكّر الأحياء بجهاد الأموات السابقين، إنها الحياة الممتدة للموتى، والذكر للمرء عمر ثان.
أفيعجز الأحياء عن مقارعة الباطل بالكلمة الصادقة، والحوار المقنع؟ وجهادُ الكلمة ضربٌ من ضروب الجهاد، لا يقلّ أثراً عن جهاد النفس والمال، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم".
ألا ما أحوجنا إلى جهاد الكلمة حين تروج الشائعات الكاذبة، وتُطلُّ الفتن المضللة، ونحتاج إلى أمان الكلمة للدفاع عن عرض مسلم مظلوم، أو لردع ظالمٍ غشوم!.
وتتعاظم مسؤولية الكلمة حين يتبجّح المتفيهقون، ويتصدرون زمام المجالس، ومراكز القيادة، وتشتد الحاجة لقول كلمة الحق، حين يسكت العلماء، ويحار العقلاء، في وقت يتنمّر فيه المنافقون، وينطق السفهاء! ما أحوجنا لكلمة الحق حين تطال التهمة الأبرياء، وتحارَب الفضيلة علناً، وحين تضعف الغيرة لدين الله، ويلهث الناس وراء المادة، فيصل اللصوص إلى قلوب العامة، ويلتبس الحق بالباطل!.
وفي ظل هذه الظروف الصعبة لا يكفي التلاوم الشخصي، ولا يجدي النوح على الواقع المتردي، وليس بنافع ولا شافع عند الله ترحيل المسؤولية للآخرين، (فأنتَ وأنا وهو) كلٌّ مخاطبٌ بإنكار المنكر: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
والعقوبة إذا نزلت -لا سمح الله- تعمّ ولا تخص، (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال:25]، "إنّ الناس إذا رأوُا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه"، وفي رواية: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقاب".
أمّة الإسلام: وإذا كان هذا على المستوى الفردي، فإن جهاد الكلمة ومسؤوليتها على مستوى المجتمع والأمة لا يقل أثراً وخطراً، ولو قدّر للأمم الكافرة أن تتوارى عن التوجيه للرأي العام، نظراً لغضب الرب عليها، أو ضلالها، أو حلول اللعنة عليها، أو قتلها لأنبيائها، أو تلبسها بالخطيئة المزعومة، وتحريف معتقداتها، وتشويهها للكتب السماوية المنزلة عليه، أقول: لو قدِّر هذا، والواقع يشهد بخلافه، فإن الواجب على أمة الإسلام أن تنبري للمهمة، معتزةً بسلامة المنهج، وصفاء المعتقد، وخيريّة الرسالة والمرسَل.
ومن عجبٍ أن تتوارى كلمة أمة، تلك بعض سماتها، وتمسك بزمام القيادة أُمم، تلك بعض هناتها، وتظل الأسئلة حائرة تنتظر الجواب: أين كلمة الإسلام الحق في المحافل الدولية؟ وأين سيطرة المسلمين على وسائل الإعلام ووكالات الأنباء العالمية؟ أين التميّز والأصالة في إعلام المسلمين؟ وهي منابر لنقل الكلمة الطيبة، وأسلوب فاعل من أساليب الدعوة. تُرى: أيصحّ أن يتشبّث الآخرون بهويتهم، وإن كانت مزورةً، ويتراجع المسلمون وهم أصحاب الرسالة الحقة؟.
أيها المسلم والمسلمة، وإذا تسارعت الفتن في الأمة، فينبغي أن يسرع الإنسان -بقدرها- إلى إمساك لسانه، فلا يقول إلا خيراً، ولا يتحدّث إلا بعلم، ولا يكفّر مسلماً، ولا يبدّع أو يضلل مصلحاً، ولا يخطئ عالماً صادقاً، جهلاً منه أو تسرّعاً، وعليه أن يسعى في جمع كلمة المسلمين، ويحذر فرقتها، وأن يتثبّت في الأمور قبل أن يصدر حكماً عليها، وأن يعي جيداً قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم".
معاشر المسلمين: وإذا كان الاختلاف بين المسلمين وارداً فينبغي أن يكون اجتهاداً في الرأي، لا اختلافاً في القلوب، والعلماء الربانيون هم الذين يسعون في جمع الكلمة، وتأليف القلوب، ومن فقه الواقع يسطر لنا شيخ الإسلام ابن تيمية -يرحمه الله- موقفاً رائعاً حين بلغه اختلاف المسلمين (في البحرين) في مسألة (رؤية الكفار لربهم)، حتى ذكر وفدهم أن أمرهم آل إلى قريب من المقاتلة، فتحدّث الشيخ عن هذه المسألة ناقلاً لآراء أهل العلم، ومعاتباً على حدتهم في الاختلاف، ومنتقداً لهم على مفاتحتهم عوام المسلمين فيها، وهم في عافية وسلام عن الفتن، وعلّمهم آداباً تجب مراعاتها حين الاختلاف، (ويليق بغيرهم من المسلمين أن يتعلموها في أدب الاختلاف)، وفي نهاية رسالته إليهم أعرض -رحمه الله- عن بيان الراجح فيها، معللاً ذلك بقوله: "وأما استيعاب القول في هذه المسألة وغيرها، وبيان حقيقة الأمر فيها، فربما أقول أو أكتب في وقت آخر، إن رأيت الحاجة ماسة إليه، فإني في هذا الوقت رأيت الحاجة إلى انتظام أمركم آكد". اهـ.
ألا ما أحوج الأمة إلى هذا النوع من العلماء الذين يعون مسؤولية الكلمة، ويجمع الله بهم الأمة!.
اللهم أصلح أحوالنا، واجمع كلمتنا، واقمع أهل الزيغ والبدع والفساد في مجتمعاتنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي