الكذب بريد المعاصي والمنكرات؛ فالكفر والنفاق والرياء والفجور، والبهتان والخديعة والمكر، والظلم والخُلف والغش، والتحايل والغيبة والنميمة، كلها أمراض أستاذها الكذب، ولو بحثتَ وراء كُلِّ مُصِيبة، وتحتَ كُلِّ خطيئة، فستجد أنها مُتَلَطِّخة بالكَذِب، مغلَّفَة به، أو هو أساسُها وبنيانُها وعِمَادُها. الكذب مفتاح النفاق وأساسه، وهو من أخص صفات الأراذل من الخلق، لا يستوطن إلا في ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
نتابع حديثنا في التحذير من مساوئ الأخلاق وقبيح الخصال، وحديثنا اليوم عن خصلة ذميمة، وصفة قبيحة، وظاهرة اجتماعية انتشرت في المجتمع كالنار في الهشيم، عن خلق ابتلي به كثير من الناس في منتدياتهم ومجالسهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم؛ إنه الكذب، وما أدراك ما الكذب؟ مرض خطير، ومنكرٌ فاحشٌ في حقيقته، علقمٌ في نتيجته، خطره على الأفراد شديد، وللمجتمعات مقوضٌ ومبيد.
والكذب كما قال ابن حجر -رحمه الله-: "هو الإخبار بالشّيء على خلاف ما هو عليه، سواء كان عمدا أم خطأ"، وقال النووي -رحمه الله-: هو "الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو، عمدا كان أو سهوا، سواء كان الإخبار عن ماض أو مستقبل".
والكذب -عباد الله- ظاهرة مستشرية، وسمة غالبة، وداء عضال، ومرض فتَّاك، وخُلُقٌ ساقطٌ بغيضٌ إلى الله، بغيض إلى رسوله، بغيض إلى ذوي الفِطر السليمة، يأباه الشرفاء، ويمقته العقلاء، وتمجُّه أنفس النبلاء، يُهين أصحابه، ويُذل أربابه، ويزري بمروجيه.
وهل النفاق إلا معتقَدٌ أساسه الكذب؟ وهل الرياء إلا عمل غُلِّفَ بالكذب؟ وهل البِدَع والخرافات إلا ثمرة للكذب على الله ورسوله؟ وهل التجني على الوحي، والنيل من الصحابة، والانحراف في المعتقد، إلا بسبب الكذب؟ وهل شوه الدين، ونُفر من الإسلام إلا بالكذب؟ وهل الحمَلات الضارية اليوم على المسلمين، والتخويف منهم، والاتهامات لهم إلا بسبب الكذب؟ وهل استبيحت بلدان، وانتهكت أعراض، ونُهبت مقدسات، واحتُلَّت الأوطان، وسلبت خيرات إلا بالكذب؟ وهل فسدت المودة وضاعت الثقة بين المسلمين شعوبًا وأفرادًا إلا بالكذب؟ فأصبح المسلم يمسي ويصبح وهو لا يكاد يصدق أحدًا، أو يثق بأحد، حتى بأقرب الناس إليه.
فالكذب بريد المعاصي والمنكرات؛ فالكفر والنفاق والرياء والفجور، والبهتان والخديعة والمكر، والظلم والخُلف والغش، والتحايل والغيبة والنميمة، كلها أمراض أستاذها الكذب، ولو بحثتَ وراء كُلِّ مُصِيبة، وتحتَ كُلِّ خطيئة، فستجد أنها مُتَلَطِّخة بالكَذِب، مغلَّفَة به، أو هو أساسُها وبنيانُها وعِمَادُها.
الكذب مفتاح النفاق وأساسه، وهو من أخص صفات الأراذل من الخلق، لا يستوطن إلا في النفوس العقيمة والأرواح السقيمة؛ فعن أبي هريرة -رَضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" (متفق عليه).
قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة: 8 - 10]، وقال سبحانه: (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون: 1]، يقول ابنُ القيم -رحمه الله-: "والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر".
الكذب سبيل إلى كل قبيح وفاسد من أقوال أو أفعال، قال ابن القيم -رحمه الله-: "كل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب، والله -تعالى- يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدها ومضارها بمثل الكذب"، قال مالك بن دينار -رحمه الله-: "الصدق والكذب يعتركان في القلب، حتى يُخرج أحدهما صاحبه".
الكذبُ مدخل من مداخل الشياطينِ؛ قَالَ تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) [الشعراء: 221 - 223].
فالكذب سلاح يصد به الشيطان العباد عن طاعة الله؛ فلقد بيَّن الله -تعالى- لنا في كتابِه العزيز أنّ الكذبَ أعظم سلاحٍ استطاع بِه إبليس إغواءَ أبينا آدم وأمِّنا حوَّاء، فزين لهما بكذبه وافترائه الأكل من الشجرة التي نهاهما الله -تعالى- عن الأكل منها، ولم يكن الكذب معروفا قبل ذلك: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 20 - 21].
الكذب داء لا يصلح منه جدّ ولا هزْل، يمزق الأمم، ويقطع الأرحام، وتؤكل به الحقوق، وتنتهك به الحرمات، ويهدي إلى الفجور والفساد، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا" (متفق عليه).
الْكَذِبُ جِمَاعُ كُلِّ شَرٍّ، وَأَصْلُ كُلِّ ذَمٍّ؛ لِسُوءِ عَوَاقِبِهِ وَخُبْثِ نَتَائِجِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ النَّمِيمَةَ، وَالنَّمِيمَة تُنْتِجُ الْبَغْضَاءَ، وَالْبَغْضَاءُ تؤول إلَى الْعَدَاوَةِ، وَلَيْسَ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَمْنٌ وَلَا رَاحَةٌ.
الكذب صفة من صفات الجاحدين الملحدين المعرضين عن آيات الله المكذبين بها، قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النحل: 105] أي "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ على الله وعلى رسوله شِرارُ الخلق الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس".
ولقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أن الكذب سيفشو ويكثر بشكل لم يسبق له مثيل في آخر الزمان؛ فعن ابن عمر -رَضي الله عنهما- قال: "خطبنا عمر بالجابية، فقال: يا أيّها النّاس إنّي قمت فيكم كمقام رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فينا. فقال: "أوصيكم بأصحابي، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ يفشو الكذب، حتّى يَحلِف الرّجل ولا يُستحلف، ويَشهد الشّاهد ولا يُستشهد. ألا لا يخلونّ رجل بامرأة إلّا كان ثالثهما الشّيطان، عليكم بالجماعة وإيّاكم والفرقة؛ فإنّ الشّيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد. من أراد بحبوحة الجنّة فليلزم الجماعة، من سرّته حسنته وساءته سيّئته فذلك المؤمن" (أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي، وقال الألباني في الإرواء: "وهو كما قالا").
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "يكون في آخر الزّمان دجّالون كذّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيّاكم وإيّاهم، لا يُضِلّونكم، ولا يَفتنونكم".
فلقد انتشر الكذب في هذا الزمان حتى كاد أن يكون بضاعة التجار والأزواج والأولاد والكُتاب والإعلاميين وغيرهم، وحتى فقدت الثقة بين العباد، وأصبحوا يتعاملون فيما بينهم على حَذر ووجل، لكثرة الكذابين والأفاكين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وللكذب أشكال عديدة، ومظاهر كثيرة، نُجْمِلها في ثلاث: كذب على الله، وكذب على رسول الله، وكذب على عباد الله.
فمن الناس من اعتاد الكذب وجعله لباسا يرتديه في كل وقت وحين، يختلق الأكاذيب، ويخترع الأباطيل، حتى تجرأ بالكذب على خالقه ومولاه، وأخطر أنواع الكذب مِن دون استثناء أن يَكذبَ المرء على الله -تعالى-، يقول الله -عز وجل-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا) [الأنعام: 21].
ومن صور الكذب على الله -تعالى-: أن يَصِف العبدُ ربّه بما لا يليق به سبحانه؛ فالله -تعالى- متصف بكل جلال وكمال، مُنزّه عن كل عيب ونقصان: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11]، وقدْ ذمّ الله -تعالى- مَن يَنسُبُ إليهِ ما هو مُنزّه عنه، فقال سبحانه: (وَيَجْعَلونَ لِلهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ ألْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أنّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنّهُمْ مُفرَطونَ) [النحل: 62]، وقال سبحانه وتعالى رَدّا على الذين يزعمون كذبا وزورا أنّ لله ولدا: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 88 - 95].
ومن صور الكذب على الله: أن يتلاعب المرء بدين الله -تعالى-؛ فيُحِلّ لنفسه ما حرّمه الله، أو يُحرم ما أحله الله، قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [النحل: 116]، وقال سبحانه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) [يونس: 59] فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، ولا يحل لأحد أيّا كان أن يُحل ما حرّمه الله ورسوله، أو يُحرم ما حرّمه الله ورسوله.
ومن صور الكذب على الله: التكذيب بآيات الله، والتشكيك في صلاحيتها لكل زمان ومكان؛ قال تعال: (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 147]، فقد أصبحنا اليوم نسمع ونرى من يُشكك الناسَ في دينهم، وفي كتاب ربهم، ويزعم أن الحاجة إلى القرآن قد انتهت، ومنهم من يدعو بكل وقاحة إلى تعطيل الأخذ بأحكام بعض الآيات البينات، ومنهم من يدعو إلى حذف بعض الآيات من كتاب الله –تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا-: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 8]، قال تعالى مُحَذرا من الإعراض عن كتابه والاستهزاء بآياته: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الجاثية: 7 - 10].
النوع الثاني: الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-؛ وعاقبة الكذب على رسول الله -صلى الله عيه وسلمَ- ليست كعاقبته على أي أحد من الخلق؛ لأن كلامَ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- في أمور الدين وفعله وتقريرَه تشريع للأمة، وقد قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3 - 4]، وقال سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) [الأعراف: 203].
ومن كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فقد ارتكب جُرما كبير وإثما مبينا؛ لأنه قد أوْقعَ الناس في الضلالة ودعاهم إلى البدعَة، وشرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله، وقد قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ) [العنكبوت: 68].
ومِن صُوَر الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: نسبة الأحاديث المكذوبة والموضوعة إليه عليه الصلاة والسلام؛ فمِن الناس من يخترع الأكاذيب وينسبها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- إرضاء لنفسه واتباعا لهواه، أو إرضاء لغيره من الناس، أو ترويجا لبدعته أو ضلالته، والنبيّ -عليه الصلاة والسلام- يقول في الحديث المتواتر: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوّأ مَقعَده من النار" (متفق عليه من حديث أبي هريرة).
وعن المغيرة بن شعبة -رَضي الله عنه- قال: سمعت النّبيّ -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "إنّ كذبا عليّ ليس ككذِب على أحَد. مَن كذبَ عليّ متعمّدا فليتبوّأ مَقعده من النّار" (متفق عليه).
فمِن الكبائر أن يَكذب المرءُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، ويَنسُبَ إليه ما لم يقله، ومن الكذب عليه أن يُرَوّجَ للأحاديث الموضوعة وينشرَها بين الناس على أنها من أقواله عليه الصلاة والسلام، وهو يعلم أنها أقوال مُصطنعة مَكذوبة؛ ففي صحيح مسلم عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وسمرة بن جندب -رَضي الله عنه-ما أن رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِين".
ومن صور الكذب على رسول الله: اتهام الأنبياء والرسل بالكذب على الله -سبحانه-؛ قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا) [الفرقان: 4]، وقال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) [المؤمنون: 38].
وقد أخبر الله -عز وجل- أنّ اتهامَ الأنبياء والرسل بالكذِب هو دأبُ الأمَم السابقة، فقال عز وجل: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) [الحج: 42 - 44]، وقال سبحانه: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) [ق: 12 - 14].
تقول أمُّ المؤمنين عائشةُ -رَضي الله عنها-: "ما كان خُلُقٌ أبغَضَ إلى أصحابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- من الكذب، ولقد كان الرجلُ يَكذِب عند رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- الكِذبة، فما يزال في نفسه عليه حتى يعلَمَ أنْ قد أحدَث منها توبة" (رواه الإمام أحمد، وقال عنه شعيب الأرناؤوط: "إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين").
النوع الثالث: الكذب على العباد؛ ما زال حديثنا عن الكذب؛ ذلكم الخلق الذميم، والذنب الكبير، والوصف القبيح، الذي أوقع الناس في الضيق والحرج، وقادهم إلى المهالك والمفاسد والمضارّ.
وبعد أن تحدثنا في الجمعة الماضية عن خطورة الكذب على الله ورسوله، نتحدث اليوم عن خطورة الكذب على العباد؛ فما أشقى الحياة وما أصعبها حين يغيب الصدق وينتشر الكذب بين العباد، حين تفقد الثقة بين الأقارب والأصحاب، حين ينتشر الكذب فيعم الفساد والخراب، فلا يهنأ للناس بعد ذلك بال، ولا يستقيم لهم حال.
فكم من مؤسسة خربت بخبر كاذب! وكم من أسرة شرّدت بخبر كاذب! وكم من عداوة ظهرت بخبر كاذب! وكم من حرب قامت بخبر كاذب! وكم من مقتول قُتِل بخبر كاذب! وكم من معتقَل غُيِّب بخبر كاذب! كم أزيلت بالكذب من دول وممالك، وخربت به من بلاد، واستلبت به من نعم، وفسدت به من مصالح، وغرست به من عداوات، وقطعت به من مودات.
وللكذب على العباد صور عديدة، ومظاهر كثيرة، وهذه أبرزها: الكذب لإضحاك الناس: فمن الناس من يختلق الكذب ليضحك الناس، وينال إعجابهم، يَكذِب في مجامع الناس ومجالسهم؛ فتراه يأتي بالغرائب، ويغرب في العجائب، ويسمون هذا النوع من الكذب تسلية، أو مزاحا، أو تشدّقا، وهو كذب وافتراء وهراء، وقد توعد رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- صاحب هذا الخلق الذميم بالخسران والإبعاد والحرمان يوم القيامة؛ فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده -رَضي الله عنه- قال: سمعت النّبيّ -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "ويل للّذي يُحدّث بالحديث ليُضحِك به القوم فيكذب، ويل له ويل له" (رواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود والدارمي والحاكم، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
وعن جابر -رَضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "إنّ مِن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون"، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون".
وعن عمر بن الخطاب -رَضي الله عنه- قال: "لا يجد عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يَدعَ المِراء وهو مُحِقّ، ويَدَع الكذب في المزاح وهو يرى أنه لو شاء لغَلَب".
وعن أبي أمامة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مُحِقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خلقه" (أخرجه أبو داود، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة).
ومن أضرار الكذب: الكذب في البيع والشراء؛ فمن الباعة والتجار من يكذب على الناس في مدح سلعته، أو في تحديد ثمن شرائها، وقد يتعمد الحلف على ذلك وهو يعلم في قرارة نفسه أنه كاذب: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) [المجادلة: 14]، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى -رَضي الله عنهما-: "أن رجلا أقام سِلعة في السوق، فحلف فيها، لقد أعطِي بها ما لم يُعْطَه، لِيُوقِع فيها رجلا من المسلمين"، فنزلت: (الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) إلى آخر الآية [آل عمران: 77].
وعن أبي هريرة -رَضي الله عنه- عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطِيَ بها أكثرَ ممّا أعطِيَ وهو كاذِب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل مائه. فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمَلْ يداك" (أخرجه البخاري).
والكذب المؤكد باليمين الغموس، المؤدِّي إلى أكل أموال الناس بالباطل من موجبات غضب الله على العبد؛ ففي صحيح البخاري عن عبد الله -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "من اقتطع مال امرئ مسلم بيَمين كاذِبة، لقيَ الله وهو عليه غضبان".
والبيع والشراء القائم على الكذب لا خير فيه ولا بركة فيه؛ فعن حكيم بن حزام -رَضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما" (متفق عليه)، وعن أبي هريرة قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "اليمين الكاذبة مَنفقة للسلعة، مَمْحَقة للكسْب" (أخرجه الإمام أحمد وابن حبان، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
ومن صور الكذب: الكذب على الأبناء؛ فكثيرًا ما يكذب الوالدان على أبنائِهما الصّغار؛ رَغبة في التخلص منهم، أو تخويفاً لهم كي يَكفوا عن العبث واللعب، أو تحفيزًا لهم كي يجدّوا في أمر ما، أو غير ذلك. ولا شك أن هذه صورة قبيحة، وقدوة سيئة، وتضييع لحقّ الأبناء في حُسن التربية والتوجيه، فينشأ الأبناء وقد تعوّدوا الكذب واعتادوه، فكيف للآباء بعد ذلك أن يُطالبوهم بالصدق وقد عوّدوهم الكذب؟!
ونبينا -صلى الله عليه وسلمَ- يحذرنا من الكذب على الأبناء، حتى لا يستهين الآباء بالكذب على أبنائهم، ويحسبونه أمرا هينا، وهو عند الله عظيم؛ فعن عبد الله بن عامر -رَضي الله عنه- قال: "دَعتني أمي يوما، ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ- قاعِد في بيتنا، فقالت: هَا؛ تعال أعطِيك. فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "وما أرَدتِ أن تعطيه؟" قالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أما إنك لو لم تعطِه شيئا كتِبتْ عليك كِذبة" (أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة).
فليَحذر الآباء، ولتحذر الأمّهات من الكذب على الأبناء، ومن الخطأ أن يظنوا أن هذه الكِذبات خير ما يَدرأ عنهم المتاعب ويَجلب لهم المنافع، وليعلموا أنّ الصغير شديد الحِفظ لما يسمع، والتقليد لما يرى.
ومن صور الكذب: شهادة الزور، فشاهد الزور كذاب، يَكذِب في شهادته على قضية لم يَحضرها، وليس له بها عهد من قبل، ويحلف على ذلك أغلظ الأيمان طمعا في دراهم معدودة، وقد أصبح من الناس من يَمتهن شهادة الزور، ويبحث عن أصحاب القضايا أمام المحاكم، وهو مستعدّ ليبيع دِينه بعرَض من الدنيا زائل، ولا يُبالي بما ارتكبه من جُرم وما اقترفه من كبيرة؛ ففي الصحيحين عن أبي بكرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وكان متكئا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور" فما زال يقولها، حتى قلت: لا يسكت". وفي رواية: "فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت".
ومن صور الكذب: الكذب لإفساد ذات البين، فبعض الناس -عياذًا بالله- لا يهدأ له بال، ولا يقرّ له قرار، حتى يُفسِدَ ذات البين، ويفرق شمل المتحابين، فتراه يختلِق الأقاويل، وينسُج الأباطيل تلو الأباطيل؛ لِيفسد بذلك ذات البين، ليفرق بين الإخوة والأحبة، ليزرع بين الأحبة الشقاق والنزاع والقطيعة، ولا يقوم بهذا الصنيع إلا دنيء النفس حقيرها، نمام، كذاب، عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "إن شرّ الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه" (متفق عليه).
ومن صور الكذب: الكذب على المخالفين، فهناك من إذا خالفه أحد، أو كان بينه وبين أحد عداوة، بدأ يبحث عمّا يَشفي غليله من هذا المخالف أو المعادي، فتراه يَكذِب عليه، ويُلصق التهم به، ويُغري به من يؤذيه.
وهناك من إذا رأى أحدًا من الناس قد فاقه في العلم والفضل، أو في الجاه والمال. يَحسُده على ذلك، فيقلل من شأنه، ويرميه بكل نقيصة، ويتهمه بما ليس فيه؛ حتى يَصرف الناس عنه، ويُشككهم في إخلاصه وصدقه وجدارته، ويجعل من الناس له أعداء.
ومن صور الكذب: الكذب للتخلص من المواقف المُحرجة؛ كحال من يكذب على والديه، أو مُدَرّسِيه، أو مسؤوليه؛ خوفاً من العقاب أو العتاب. وكحال من يكذب لتسويغ أخطائه، وما أكثر ما يقع ذلك، فهذا يكذب ليسوغ بخله، وهذا يكذب ليسوغ قسوته، وهذا يكذب ليسوغ تقصيره أو إساءته، وهكذا..
ومن صور الكذب: الكذب في نقل الأخبار وإشاعتها، فمن الناس من يكذب ويتحَرّى الكذب فيما ينقله لغيره من الأخبار والأحداث، لا يتثبّتُ ولا يتبين ولا يتحرّى الحقيقة فيما ينقله، إذ لا همّ له إلا أن يجمع من الأخبار والأحداث ما يثير إعجاب الآخرين؛ فتراه يبالغ في تصوير حدث أو قضية ويختلق الكذب حتى يجعل السامع يفهم منه الأمر على غير حقيقته. وقد يحذف من الكلام ما لا يروقه، ولا يوافق هواه؛ لأجل أن يصل إلى غاية تهواها نفسه.
ومن تمام عقل المرء تجنبه الخوض فيما لا يَعلم؛ حتى لا يُتَّهم فيما يعلم؛ وليس من الحكمة أن يحدث المرء بكل ما سمع؛ فعن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "كفى بالمرء كذبا أن يُحَدِّث بكلِّ ما يسمع" (رواه مسلم)، وفي لفظ أبي داود والنسائي وابن حبان والحاكم: "كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع"، وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود -رَضي الله عنهما قالا: "بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع"، ويقول الإمام مالك -رحمه الله-: "اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بكُلِّ مَا سَمِعَ، وَلاَ يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُوَ يُحَدِّثُ بكُلِّ مَا سَمِعَ".
ومن صور الكذب: الكذب لاستدرار العطف، وكسب المؤيدين، فمن الناس من يكذب على الناس ليحظى بعطفهم وعطائهم، كمن يكذب في مسألة الناس واستجدائهم، فتراه يُظهر الفقر والفاقة، ويُوهم الناس بأنه كثير الديون وليس له طاقة في سدادها، أو يزعم أنه مريض، أو يقوم على رعاية مريض، وربما حمل معه وثائق ليوهم الناس أنه مُعسِر ومحتاج إلى المساعدة. وهو يعلم أنه مجرد كذب وتحايل على الخلق.
ومن الناس من يكذب لكسب المؤيّدين والأتباع، أو لترويج فكرة يدعو إليها، ويريد حمل الناس عليها، كحال من قال الله فيهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت: 12 - 13].
كيف تكون الوقاية من الكذب؟
1- الاستعانة بالله -عز وجل-: وذلك بسؤاله الإعانة والتسديد والتوفيق، تضرّعْ إلى الله -تعالى- أن يَمُنّ عليك بلسان صادق لا يَكذب، وقد كان من دعاء إبراهيم -عليه السلام- فيما قال الله -تعالى- عنه: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء: 84]، وعن شَدَّاد بْن أَوْسٍ -رَضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلمَ- يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا سَلِيمًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" (رواه أحمد (17155) والترمذي (3407) والنسائي (1304) وصححه الألباني في السلسة الصحيحة رقم 3228 وحسنه شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند).
2- مراقبة الله واستشعار اطلاعه جلّ وعلا على عباده: فإذا راقب العبدُ ربَّه، واستشعر اطلاعه عليه، واستحضر أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، استحيى من الله أن يسمع منه ما لا يرضيه، فالتزمَ الصدق، وتجنّبَ الكذب، قال سبحانه: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 3]، فكيف تكذِبُ وأنتَ على يقين أن الله يَسمعك، وكيف تكذب وأنت على يقين أنّ كلامك يُسَجّل في صحيفتك؟ أما تستحي من الله وهو يسمعك؟ أما تخاف من الله وهو يسمعك؟ قال عز وجل: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف: 80].
3- تعويد النفس على الصدق، وتوطينها عليه: وذلك بأن يتكلف الإنسان الصدق مرة بعد مرة؛ حتى يصبح سجية له وطبعًا، ورحم الله القائل:
عوِّد لسانَك قولَ الخيرِ تحظَ به *** إن اللسان لما عوّدتَ معتادُ
مُوَكَّلٌ بتقاضي ما سننتَ له *** فاخترْ لنفسِك وانظرْ كيف ترتادُ
فمن عوّد لسانه الصدق نطق به، ومن عود لسانه الكذب نطق به، وكل إناء بما فيه ينضح.
4- النظر في العواقب: تذكّرْ ما للصدق من فضائل ومَكاسِب ومَحاسِنَ في العاجلة والآجلة؛ لينبعث اللسان إليه ويتحرّاه. واستحضِرْ ما للكذِب من عواقبَ وخيمة ونتائج سيئة في العاجلة والآجلة؛ ليبتعد اللسان عنه ويتجنبه.
وتذكر -يا عبد الله- أنك ستحاسَبُ على كل كلمة تفوّهْتَ بها ونطقتَ بها، فكم من كلمةٍ استهان بها صاحبها فكانت سببا في شقائِه وهلاكِه وخُسرانِه؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "إنّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يَرفعُه الله بها درَجات، وإنّ العبد ليتكلم بالكلمة مِن سخط الله، لا يُلقي لها بالا، يَهوي بها في جهنم".
5- معاشرة الصادقين، ومجانبة الكاذبين: فإنّ المعاشرة تستدعي تأثرَ الإنسان بمن يُعاشره ويُخالطه، فإذا ما عاشرَ الإنسانُ الصادقين الأخيارَ تأثر بصدقهم، وسَمْتِهم وهديهم. أما إذا عاشر الكاذبين فإنه سيتأثر بكذِبهم، حتى يتعوّدَ الكذب ولا يُنكِره. فالصاحب ساحِب، إما أن يَسحَبك إلى الخير، وإما أن يَسحبك إلى الشر، فاخترْ لنفسك من يَسحبك إلى الخير ويُعينك عليه، وابتعِدْ عن صحبة من يسحبك إلى الشر ويدعوك إليك.
فاتقوا الله -عباد الله-، والتزموا الصدقَ في أقوالكم وفي أفعالكم وفي جميع أحوالكم، واعلموا أن الصدق عز وسيادة، وإن كان فيه ما تكرهون.
وإياكم والكذب؛ فإن الكذب ذلّ ومهانة، وإن كان فيه ما تحبون، ومن عُرف بالكذب اتُّهِمَ في الصدق.
عليك بالصدق -يا عبد الله- حيث ترى أنه يضرك فإنه ينفعك. واجتنب الكذب حيث ترى أنه ينفعك، فإنه يضرك. وتذكر على الدوام قول حبيبك المختار -عليه الصلاة والسلام-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقلْ خيرا أو لِيصمتْ".
نسأل الله -تعالى- أن يحفظ ألسنتنا من الكذب والافتراء والبهتان، وأن يجعلنا من الصادقين في أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا، وأن يحشرنا في زمرة الصادقين المتقين.
وصَلّ اللهم وسلمْ وباركْ على حبيبنا ونبينا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي