فإذا جلست على مائدة الإفطار وفيها ما لذ وطاب من باردٍ وحار، وفيها ألوان المأكولات والحلويات والمشروبات المتنوعات، إذا جلست على مائدة الإفطار وفيها من الخيرات والأنواع ما الله به عليم فيها ما تشتهيه وفيها ما لا تشتهيه، فيها النعم الغزيرة والمنن الوفيرة بدون مشقة ولا كُلفة، تذكر ثم تذكر إخوانًا لك لا يجدون كُسرة خبزٍ ولا جرعة ماءٍ باردٍ، تذكر مَن يقضون الليل صيامًا، تذكر مَن ينتظرون وينظرون عبر الحس والمشاهدات والمرئيات يرون إخوانهم المسلمين المأكولات وقلوبهم تتفطر حزنًا وشغفًا،...
الحمد لله الذي كتب الصيام وجعله جُنةً عن الذنوب والآثام، وأودعه من الدروس والعِبر على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام.
أما بعد: عباد الله فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: انظروا إلى سرعة مرور الليالي والأيام وانقضاء الشهور والأعوام بالأمس نستقبل رمضان، والآن ذهب قرب الثلث الأول منه، هكذا الحياة عباد الله كأنها لحظة من اللحظات، والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا أودعت أيامك الماضية من الأعمال الصالحة؟ فإن كان الجواب في القراءة والذكر والقيام والبر والصدقة والإحسان فعند الصباح يحمد القوم السرى، وإن تكن الأخرى فبادر أيامك وتدارك لياليك تدارك قبل زوالك وتدارك قبل انتقال شهرك وأيامك.
أيها المسلمون: في هذا الشهر من الدروس العِبر والفوائد والدرر ما يجعل المؤمن يجد ويخرج من شهره بفائدة، ولهذا قال العلماء: مَن سَلِم له شهره سَلِم له سنته. إن رمضان --عباد الله- ليس قصاره صون البطون عن الطعام والشراب، ولكنه أعلى وأجلّ لأولي الألباب إنه صون الجوارح عن الذنوب والآثام
إذا لم يكن في السمع مني تصاونٌ *** وفي بصري غضٌ وفي منطقي صمتُ
حظي إذًا من صومي الجوع والظمأ *** فإن قلت إني صمت يومي فما صمتُ
يقول جابر -رضي الله عنه-: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك، وليكن عليك سكينةٌ ووقار ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء".
ويقول ميمون بن مهران -رحمه الله-: "أهون الصيام الإمساك عن الطعام والشراب".
وعند أحمد: "رُبَّ صائمٍ حظه من صيامه الجوع والعطش".
وعند أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة: "مَن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، فهو الغني بذاته -سبحانه جل ثناؤه وتعالى شأنه- وكلُ شيء رزقه عليه وكلنا مُفتقرٌ إليه، "يا عبادي إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم فمَن وجد خيرًا فليحمد الله"، إذًا رمضان جامعة ودروسٌ نافعة، وفي آيات الصيام لمح القدوس السلام بعض الدروس نأخذها باختصارٍ وإلمام.
فالصوم عباد الله تهذيبٌ لا تعذيبٌ، وإصلاحٌ لا إفسادٌ، ودرسٌ للنفوس العاصية والقلوب القاسية، الصوم متجرٌ من متاجر يوم الآخرة، وتجارةٌ رابحة، فالموفق مَن يقتطف الثمار ويُسابق المضمار ويُنافس المنافسين، ويُسابق الصالحين ويُلاحق المجتهدين.
فمعنا أيها الأحبة عشرة دروس: التقوى، وحفظ الوقت، والزهد في الدنيا، والقرآن والتيسير والتسهيل، والذكر والشكر والدعاء، والاستمتاع بما أباح الله، والمحافظة على حدود الله.
الدرس الأول: التقوى: وما أدراك ما التقوى
خلِّ الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض *** الشوك يحذر ما يرى
لا تحفرنّ صغيرة *** إن الجبال من الحصى
هي فعل المأمورات وترك المنهيات ولمح ربنا -عز وجل- إلى هذا الدرس العظيم وقرن الصيام عن الطعام والشراب بالصيام عن الذنوب والآثام (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، فأعظم موصلٍ للتقوى هو الصيام، وأعظم مُذكرٍ بالتقوى الصيام فهو الذي يجعل التقوى على أرض الواقع.
ولهذا الصيام صيامان: صيامٌ معنوي: وهو الصيام عن المفطرات المعنوية كالغيبة والنميمة وسماع الحرام والنظر إلى الحرام، والكلام في الحرام، والصيام عن الطعام والشراب لعلكم تتقون. ولهذا افتتح الله -عز وجل- آيات الصيام بتقواه وختمها بتقواه فلا عز ولا فلاح ولا أنس ولا نجاح إلا بتقوى الملك العلام لعلكم تتقون، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور:52].
الدرس الثاني: حفظ الوقت والعناية به والحرص عليه وعدم فواته لاسيما إذا كان موسمٌ ومَغنم وزمانٌ فاضلٌ ومكرم، أشار إلى ذلك ربنا بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 183- 184]، أيامًا معدودات لا شهورٌ ولا أيامٌ متواليات فهو أيامٌ تنقضي وأيامٌ تمضي، فاجتهد في ملئها بالعمل الصالح وألوان التقرب إلى الله بالعمل الناجح، وانظر لو قيل لك ستبقى في هذا المكان أيامًا أو ذهبت رحلةً في إجازة يمنة أو يسرة لتمكث أيامًا معدودة فما تودع تلك الأيام من التمتع والتطلع، فلا تدع شاردةً ولا واردةً ولا صغيرةً ولا كبيرةً إلا وقد اطلعت عليها، حفظت أيامك ورصدت أنفاسك، واستمتعت بإجازتك أفلا يليق بك في هذا الشهر أن تُلاحق الأنفاس وتُسابق اللحظات في وقتٍ عباد الله قال فيه رسول الله: "إذا دخل رمضان فُتِحت أبواب الجنان" الله أكبر .. لم يُذكر هذا في شوال ولا شعبان، وإنما ذُكِر في رمضان.
فأبواب الجنة الآن مُفتحة وأبواب النار مغلقة والشياطين مُصفَّدة، ولهذا لفت إلى حفظ الوقت ربنا (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) فحافظ على أيامك وحافظ على لياليك فغدًا يُقال العيد، فعند ذلك تحمد ربك على ما منَّ به عليه من عملٍ صالح.
الدرس الثالث: الزهد في الدنيا لتعلم أن بقاءها قليل، وأن الدنيا متاعها قليل، وأنها مزرعة غدًا توفى النفوس ما عملت ويحصد الزارعون ما زرعوا إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساءوا فبئس ما عملوا
أتى رمضان مزرعة العباد *** وتطهير القلوب من الفسادِ
فأدِ حقوقه قولًا وفعلًا *** وزادك فاتخذه للمعادِ
فالدنيا مزرعة وأيامك فيها قلائل
ألا إن دنياك ساعة *** فاجعل الساعة طاعة
واحذر التقصير فيها *** واجتهد مقدار ساعة
لفت ربنا إلى هذا الدرس بقوله: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) فحياتك كلها أنفاسٌ معدودة وأيامٌ محسوبة فاجتهد فيها وتزود فيها بتقوى الله (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197] لاسيما عباد الله أنه:
سبيلك في الدنيا سبيل مسافرٍ *** ولا بد من زادٍ لكل مسافرِ
ولا بد للإنسان من حمل عُدةٍ *** ولاسيما إن خاف صولة قاهرِ
الدرس الرابع: درسٌ عظيم ومصدرٌ كريم طالما كنت له هاجرًا، وطالما كنت له مُباينًا وربما لم تفتح دفتيه منذ زمنٍ بعيد في وقتٍ مديد، درسٌ هو مصدرك وأُسك، حياتك وروحك، سعادتك وأُنسك، هو عزك وشرفك ولتعلم أنك لن تدخل الجنة إلا من طريقه إنه درسٌ تمايل الصالحون للترنم به وتلذذ العابدون بكثرة ترداده؛ إنه القرآن يا أمة القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة:185].
الله أكبر عباد الله لو لم يكن في رمضان إلا إنزال القرآن لكفى به فضلاً على سائر الشهور والأعوام، فكونوا من أهل القرآن في شهر القرآن، أكثروا من ختماته وترداده وتدبره وتفهمه والعمل به، اجعلوا شعاركم في رمضان تلاوة القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185]؛ ولهذا السلف يُعنون به في شهر رمضان، تزداد أعمالهم فيه وختماتهم وقراءتهم.
فالله الله عباد الله خذوا دروسًا من كلام ربكم في شهركم، فقل لي بربك إذا لم تقرأ القرآن ولم تتمتع بتلاوته وتأنس به وتتلذذ به في شهر القرآن فمتى تكون من أهل القرآن؟ ولتعلم أن حبك للقرآن أعظم علامة على حبك لله -عز وجل- الرحيم الرحمن، كما قال ابن مسعود: "إذا أردت أن تعرف حب الله في قلبك فانظر إلى محبتك للقرآن".
وبالتدبر والترتيل فاتلوا *** كتاب الله لاسيما في حندس الظُلمِ
حَكّم براهينه واعمل بمحكمه *** حِلًا وحضرًا وما قد حده أقمِ
واطلب معانيه بالنقل الصحيح ولا *** تخذ برأيك واحذر بطش منتقمِ
وعن مناهيه كن يا صاح منزجرا *** والأمر منه بلا ترداد فالتزمِ
هو الكلام الذي مَن قام يقرأه *** كأنما خاطب الرحمن بالكلمِ
و"لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم".
الدرس الخامس: سماحة الشريعة ويُسرها وسهولتها ورفع الحرج فيها (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة:184]، وما خُيّر نبينا بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وكثيرًا ما يقول: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".
وهكذا عباد الله وكان يبعث رسله فيقول لهم: "بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا"، فرمضان جاء يُعلمنا سماحة الشريعة وسهولتها، فلا إفراط ولا تفريط، هي الشريعة السمحة هي الحنيفية السمحة، هي الشريعة التي عباد الله مَن عمِل بها استقام ومَن قام بها استفاد ودخل جنة المقام بإذن الملك العلام.
الدرس السادس: ذكر الله -عز وجل- (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) [البقرة:185]، إنه الذكر عباد الله؛ يشمل تلاوة القرآن ويشمل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، والاستغفار والتوبة إلى الله -عز وجل- (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ).
وكن ذاكرًا لله على كل حالةٍ *** فليس لذكر الله وقتٌ مُقيدُ
فذكر إله العشر سرًا ومُعلنًا *** يُزيل الشقاء والهم عنك ويطردُ
ويجلب للخيرات دنيًا وأجلًا *** وإن يأتك الوسواس يومًا يُشردُ
ولو لم يكن في الذكر غير أنه *** طريقٌ إلى حب الإله ومُرشدُ
وينهى الفتى عن غيبةٍ ونميمةٍ *** وعن كل قول للديانة مُفسدُ
لكان لنا حظًا عظيم ورغبةٌ *** بكثرة ذكر الله نعم الموحدُ
ولكننا من جهلنا قل ذكرنا *** كما قل منَّا للإله التعبدُ
فأكثروا من ذكر الله في شهركم فإن الذكر يُليّن القلوب ويُزيل العيوب ويُرضي علام الغيوب، يُسهل على المرء العبادة، أكثر من لا إله إلا الله.. جاء رجلٍ إلى رسول الله وقال: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فبابٌ أتمسك به جامع. قال: "لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله".
وذات مرة يمر النبي -صلى الله عليه وسلم- على جبلٍ أشم أصم كبير عظيم فقال: "سبق المفردون" قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات" فأكثر من الذكر لاسيما في شهر الصوم، فالذكر أكبر عونٍ على طاعة الله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152].
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو التواب الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده.. وبعد:
أحبتي في الله فمن الدروس في آيات الصيام: شكر الله -عز وجل-، ألمح ربنا -عز وجل- إلى هذا الدرس بقوله: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185]، بالشكر تدوم النعم، الشكر يكون عمليًّا (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13].
الشكر قيدٌ للنعمة ودفعٌ للنقمة، الشكر يكون باللسان، ويكون بالجَنان، ويكون بالجوارح:
أفادتكم النعماء مني ثلاثةً *** يدي، ولساني، والضمير المحجبا
(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]، فإذا جلست على مائدة الإفطار وفيها ما لذ وطاب من باردٍ وحار، وفيها ألوان المأكولات والحلويات والمشروبات المتنوعات، إذا جلست على مائدة الإفطار وفيها من الخيرات والأنواع ما الله به عليم فيها ما تشتهيه وفيها ما لا تشتهيه، فيها النعم الغزيرة والمنن الوفيرة بدون مشقة ولا كُلفة، تذكر ثم تذكر إخوانًا لك لا يجدون كُسرة خبزٍ ولا جرعة ماءٍ باردٍ، تذكر مَن يقضون الليل صيامًا، تذكر مَن ينتظرون وينظرون عبر الحس والمشاهدات والمرئيات يرون إخوانهم المسلمين المأكولات وقلوبهم تتفطر حزنًا وشغفًا، تذكر وذكِّر أولادك بهذه النعم، واجعل شعارك عند إفطارك الحمد لله بلسانٍ عالٍ حامدٍ شاكرٍ (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى:11].
تحدث بهذه النعمة فيما تأكل وتشرب، تحدث أنك في أمنٍ لا في قلقٍ وأرق ولا خوفٍ وحرق، تذكر إخوانًا لك الآن يعيشون في أصقاع المعمورة جياعًا لا طعام ولا شراب يقفون في الشمس لكُسرة خبزٍ، يقفون الكيلوات لحفنة بُرٍ فانظرهم في الصومال وانظرهم هنا وهناك، كادت أرواحهم أن تخرج وأبدانهم كالهياكل والصور المجسمة، فما يسمع العالم أو يرى من المُحزن المُبكي في أطفالٍ يبكون ونساءٌ يتجرعنَّ الأسى والحزن ينتظرون وهم ينظرون إلى أطفالهم بكل عبرةٍ ودمعةٍ حانية.
فلهذا نحمد الله على هذه النعم العظيمة والمنن الكبيرة، تذكر مَن الخوف أقلقهم، تذكر مَن العدو أحرقهم، تذكر مَن هم في خوفٍ وهمٍ وغمٍ وأنت ولله الحمد تأكل وتشرب تتسحر مطمئنًا، وتفطر مطمئنًا وما بين ذلك أمنًا؛ فالحمد لله لا نُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
الدرس الثامن: دعاء الله كما أخبر الله –سبحانه- في كتابه بين آيات الصيام (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:186]، الله أكبر إنه الدعاء، للصائم -عباد الله- في صومه له دعوة وفي إفطاره له دعوة، فوصيتي لك في كل لحظة اجعل لك دعوة سواءً كنت مفطرًا أو صائمًا..
أتهزأ بالدعاء وتزدريه *** وما تدري بما صنع الدعاءُ؟!
سهام الليل لا تُخطئ ولكن *** لها أمدٌ وللأمد انتهاءُ
سئل الإمام أحمد عباد الله عن مسألة غريبة وأغرب منها جوابها، فمَن كان بالله أعلم فهو به أعرف، سئل كم بيننا وبين العرش الرحمن؟ قال: "دعوةٌ صادقة من قلبٍ صادق". فأكثروا من الدعاء في شهر الدعاء لاسيما في لحظات الأسحار وما أدراك ما لحظات الأسحار!
مَن ألِف النوم أوان السحرِ *** فهو بالحرمان ما زال حري
وعكسه مستيقظ الأسحارِ *** لاسيما أن كان ذا استغفارِ
فقم قبل سحورك أو بعد سحورك قبل الصلاة وارفع أكف الضراعة إلى ربك، فهذا الموطن من أعظم المواطن لإجابة الدعاء؛ إنه الثلث الأخير، إنه السحر، إنه أوقات اللحظات وأوقات الرحمات والهبات والعطيات، فالله ينزل نزولاً يليق بجلاله وعظمته فيقول حينما يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟
وقد روى الثقات عن خير الملأ بأنه -عز وجل- وعلا في ثلث الليل الأخير ينزل يقول: هل من سائل فيُقبل؟ هل من مُسيءٍ طالبٍ للمعذرة يجد كريمًا قابلًا للمغفرة يمنّ بالخيرات والفضائل ويستر العيب ويعطي السائلِ، والله ينزل كل آخر ليلة في سمائه الدنيا بلا كتمانِ فيقول: هل من سائلٍ فأجيبه فأنا القريب أجيب مَن ناداني. فأكثروا من الدعاء عباد الله في شهر الدعاء.
الدرس التاسع: الاستمتاع بما أباح الله فربنا حرَّم علينا ما كان مباحًا لنا من الطعام والشراب والجِماع وغير ذلك ولهذا قال سبحانه: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة:187]، حينئذٍ عباد الله امتنعنا امتثالاً وأكلنا وشربنا امتثالاً، فهكذا المؤمن عباد الله يأخذ درسًا في الامتثال والاستجابة لله (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر:54].
الدرس العاشر والأخير وختامها مسك: المحافظة على حدود الله، ولذلك قال ربنا في ختام آيات الصيام قال جل في علاه: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا) [البقرة:187]، ومن ذلكم الصيام فحافظوا على واجباته، وحافظوا على أركانه، وحافظوا على آدابه، وحافظوا على شعائره ومشاعره (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ).
إياكم والتساهل بالصيام أو خدش الصيام، أو غير ذلك مما يقع للصائم من الرفث والفسوق والسباب "الصيام جُنة فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق فإن سابه أحدٌ فليقل: إني امرؤٌ صائم"؛ ولهذا جاء الصيام ليُعلمك ويُدرسك درس الأخلاق الجميلة والآداب السامية، ويُعلمك كيف تصبر (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].
فهو صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على أقدار الله، وجاء أيضًا يُعلمك كيف تراقب الله فتمتنع عما حرم الله في نهارك، فليكن هذا ديدنك في ليلك، فالذي نهاك وقت الصيام هو الذي نهاك وقت الإفطار..
وإذا خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى الطغيانِ
فاستحيي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي