ها هي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في عامها السابع تتعاظم يومًا بعد يوم، ويعلو شأنها، ويتعالى شأوها، وانتقل المسلمون من حياة الكتمان والاستخفاء إلى مرحلة الجهر بالتوحيد والاستعلاء، فطاش من قريش صوابها، واضطربت حبالها واشتعلت أفران الحمم في صدورها، وبالأخص بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، اللذين قلبا موازين القوة
الحمد لله معزِّ الإسلام بنصره، ومُذِلِّ الكفر بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومُديم النعم بشكره، ومستدرج الكفار بمكره، الذي قدَّر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله.
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، داحض الشرك، ورافع الإفك، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
معاشر المسلمين: ذبلت الأجساد، وجفَّت الأكباد، قرقرت البطون، وظمأت الأجواف، أطفال يصرخون، وشيوخ يئنون، مرضى يتوجَّعون، ورجال حائرون، إنه مشهد من مشاهد الحصار، وصورة من أثره وآثاره.
ونحن نشاهد اليوم فصلاً من فصول مآسينا في غزة نسترجع بالذاكرة إلى الوراء، ونقطع حجب الزمان؛ لنقترب من صفحة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا تُنسى؛ لنسلّي بذلك مصابنا، ولنصحِّح في الحياة مسيرنا.
إنها قصّة المقاطعة الباغية والحصار الظالم الذي تعرّض له خير البشر وأصحابه الكرام -رضي الله عنهم- في شعب أبي طالب.
إخوة الإيمان: ها هي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في عامها السابع تتعاظم يومًا بعد يوم، ويعلو شأنها، ويتعالى شأوها، وانتقل المسلمون من حياة الكتمان والاستخفاء إلى مرحلة الجهر بالتوحيد والاستعلاء، فطاش من قريش صوابها، واضطربت حبالها واشتعلت أفران الحمم في صدورها، وبالأخص بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، اللذين قلبا موازين القوة، وأصبح المشركون بعدها يضربون للفئة المستضعفة حسابات أخرى.
أجمعت قريش أمرها على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك أبا طالب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، فجمع أبو طالب بني هاشم مؤمنهم وكافرهم، وأخبرهم بمكيدة قريش، فتحركت فيهم حميَّة الدم والنسب، فقرَّروا أن ينحازوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في شعب بمكة يقال له: شعب أبي طالب، وانحاز معهم حميَّةً أيضًا بنو المطلب بن عبد مناف.
رأت قريش هذه الحمية والمنعة، فعرفت أن دون ذلك دماء وأشلاء ورؤوسًا ونفوسًا، فقررت قريش معاقبة هذه الفئة المسلمة المارقة ومن تعاطف معها، فاجتمع رؤساؤهم في خيف بني كنانة (ويسمّى اليوم بالمعابدة)، اجتمعوا على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب اقتصاديّاً واجتماعياً، وكتبوا في ذلك كتاباً ألاّ يزوّجوا إليهم ولا يتزوّجوا منهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم شيئاً، ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلّموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعُلّقت هذه الصحيفة الظالمة في جوف الكعبة تأكيداً على التزام بنودها. وكان الذي كتب هذه الصحيفة منصور بن عكرمة العبدري، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فشلت أصابعه.
سارع المشركون في تطبيق هذا الحصار عملياً، فلم يتركوا طعاماً يدخل مكة ولا بيعاً إلا بادروا فاشتروه بأضعاف ثمنه؛ حتى لا يشتريه بنو هاشم ولا يبيعونهم شيئاً مما عندهم أبدا، وهكذا قل الطعام، ونقص الزاد، وجهد المسلمون وأقاربهم وحلفائهم من هذا الحصار والتضييق الاقتصادي.
أما أبو طالب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم فقد وقف موقفاً عظيماً شريفاً في حماية النبي صلى الله عليه وسلم، كان يبيت الليل مستيقظاً، يحمل سلاحه، ويطوف في الشعب مع جماعة من بني هاشم، ثم ينامون النهار، وكان أبو طالب يأمر حمزة والعباس أن يرابطا على مدخل الشِّعب ليرصدا تحركات المشركين، خوفاً من غدره أو غيلة تستهدف حياة ابن أخيه، بل بلغ من خوفه وحرصه على حياة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينام على فراشه، ويأمر أحد بنيه أن ينام مكان النبي صلى الله عليه وسلم.
مضت الأيام والأشهر، وحال المسلمين المحاصرين يزداد من سوء إلى أسوء، وعمّ الجوع بين أهل الشِّعب، وندر الكلام، وقلت الحركة، وكان يُسمع من وراء الشِّعب أصوات النساء والصبيان يتضاعون من الجوع، وبلغ بالناس من الخماصة شيئًا لا يكاد يصدَّق حتى أكلوا كلّ ما يمكن أكله.
ولعل موقفاً واحداً يصوّر لنا شيئاً من حالة الجوع التي عانى منها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المحصورين؛ فها هو سعد بن عبادة بن أبي وقاص يذكر لنا موقفاً لا ينساه في الشِّعب، فيقول: "خرجت ذات يوم ونحن في الشعب لأقضي حاجتي، فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا هي قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها فغسلتها، ثم أحرقتها، ثم رضضتها وسففتها بالماء، فتقويت بها ثلاث ليال"، يحدث هذا في الشِّعب، وأهل مكة مقيمون في ديارهم مطمئنون منعّمون.
ومن المواقف المذكورة أيام الحصار: أن بعض المشركين كان يتعاطف مع أرحامه المحصورين هناك، فكانوا يرسلون إليهم حملات إغاثية ليلاً, يستخفون بها عن أعين قريش، فكان أحد المشركين وهو هشام بن عمرو العامري يحمل البعير بالطعام والثياب، ويأخذ بخطام البعير حتى يقف على رأس الشِّعب، ثم يخلع خطام البعير ويطلقه في الشعب.
وكان حكيم بن حزام يرسل الطعام لعمته خديجة بنت خويلد سرًا، فرآه أبو جهل يومًا، فجعل يمانعه عن إيصال الطعام، ويهدد بفضحه والتشهير به، فجاء أبو البختري بن هشام، فوقف مع حكيم بن حزام، وحصلت مشادة بينه وبين أبي جهل انتهت برضّ رأس أبي جهل بحجر حتى أدماه، وانطلق حكيم إلى عمته بالطعام، الشاهد من هذه المواقف أن المعونات الغذائية كانت تدخل إلى الشعِّب سرًا، وكانت قليلة جدًا.
إخوة الإيمان: مع ما أصاب المسلمين من الجهد والبلاء في الشِّعب إلا أن هذا البلاء لم يكن شرًا محضًا، بل كان يحمل في طياته من الخيرية للدعوة المحمدية ما لا يدركه البشر بعقولهم، فمع ما في هذا البلاء من رفعة الدرجات وتكفير السيئات لأهل الإيمان، إلا أن هذه المقاطعة والتجويع القهري كانت حدثًا إعلامياً تسامَع له العرب.
وتساءلوا عن سبب هذه المحاصرة الاقتصادية والتي أخرجت قريشاً عن رشدها ووقارها، فجعل العرب في غير مكة يتلقّطون أخبار هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ويتلهّفون لمعرفة حقيقة دعوته، فكان ذلك الحصار سبباً في أن تخرج الدعوة المحمدية من إقليمية مكة، إلى عالمية الجزيرة العربية آنذاك.
عباد الله: ومضت ثلاثة أعوام من عمر ذلك الحصار الآثم، والمسلمون يستعينون على مدافعة ذلك القدر الإلهي بالصبر والمصابرة وانتظار الفرج من الله تعالى، انشقت السماء ونزل الوحي من الله تعالى على قلب سيد المرسلين؛ ليخبره بأن تلك الصحيفة قد سلّط الله عليها دويبة ضعيفة، فأكلت ورقتها إلا ما كان فيها من ذكر الله -عز وجل-.
أخبر المصطفى عمّه أبا طالب بخبر السماء، فانطلق أبو طالب إلى قريش ليخبرهم بأمر الصحيفة، وأن الأرضة قد أكلتها إلا اسم الله، ثم ساومهم أبو طالب على هذه المعلومة الغائبة عنهم فقال: "إن كان كلام ابن أخي حقًا فانتهوا عن قطيعتنا، وإن يك كاذبًا دفعته إليكم"، فقالوا: "قد أنصفتنا"، ومشى الجميع إلى جوف الكعبة فوجدوا الصحيفة كما أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى العناد والاستكبار إلا أن يركب رؤوس رؤسائهم، فأبوا إلا المضي في المقاطعة والمحاصرة.
بعد هذا الموقف وطول المقام على بني هاشم في الشَّعب تحركت مروءة رجال من قريش، فاجتمع نفر منهم ليلاً، وتلاوموا على هذه الصحيفة الظالمة والرحم المقطَّعة، وتحركت فيهم وشائج النخوة والشهامة، فقرروا نقض الصحيفة وإنهاء حياة الضرّ التي قاساها بنو هاشم طوال أعوام ثلاثة، فلم يصبحوا من ليلتهم تلك إلا ويمّموا شطر تلك الصحيفة ومزقوها؛ ليعلنوا بعدها إنهاء أزمة الحصار، وإخراج بني هاشم وبني عبد المطلب من هذا الشِّعب.
في السنة العاشرة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ يخرج سيد البشر هو ومن معه من الشِّعب ومحنة الحصار، وهم أصلب إيمانًا وأشدّ ثباتا على الدين، وهكذا الأحداث والابتلاءات تصنع للأمة الرجال، وتخرج للمستقبل الأبطال.
إخوة الإيمان: كانت أيام الشِّعب وأحداثها عالقة في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينسَها مع الأيام، ولم يتجاهل أكرم الخلق لأهل الوفاء فضلهم، فكان عليه الصلاة والسلام بعد ذلك يشرك بني المطلب مع بني هاشم من خمس الغنيمة، ويقول: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد"، وكان يقول: "إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام". وفي يوم بدر كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي صحابته مرارًا أن يتركوا أبا البختري بن هشام ولا يقتلوه، لمواقفه أيام المقاطعة ودوره في نقض الصحيفة.
وبقيت معالم الشّعب في ذكريات النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة فاتحاً، فحينما كسر الأصنام، وأزال الوثنية الجاهلية، وأدانت له مكة؛ أمر أصحابه أن تضرب له خيمة في شعب أبي طالب حتى ترى البشرية صدق وعد الله لنبيه، فهذه البقعة التي شهدت يوماً من الدهر تأوهات الجائعين، وصبر المستضعفين، ها هي اليوم تشهد مقام نبي الله عزيزاً شامخاً، ولا أثر للشرك ولا آثار للمشركين، وصدق الله وعده: (إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128]
وبقيت أطياف الحصار وأطلال الشِّعب ماثلة للنبي قبل أن يودّع الدنيا بأشهر معدودات، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يرمي جمرة العقبة في اليوم الثالث عشر ثم دفع إلى مكة، فأقام عمدًا بالمحصَّب وهو خيف بني كنانة الذي اجتمعت فيه قريش قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة على المقاطعة والحصار.
أقام النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان حتى يربِّي الأمة على اليقين بصدق موعود الله تعالى, فهذه الأماكن كانت يوماً ما موقع معاهدات وتوقيع اتفاقيات على محاصرة الفئة المسلمة، ها هو اليوم ليشهد على بقعته مقام أولئك المستضعفين المضطهدين وهم في عزٍ ومنعة وكمال نعمة، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف: 9]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اجتبى.
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان: ها هو التاريخ يعيد نفسه، وها هي السنن الكونية تتكرر، وها هي سياسة تجويع الشعوب، وتجفيف البطون يشاهدها العالم رأيَ العين، في عصر المباهاة بالديمقراطية والمفاخرة بالقيم الإنسانية.
ها هم اليهود اليوم ومن حالفهم من عبّاد الصليب وطواغيت البيت الأبيض يتحالفون على إبادة جماعيّة على أهل غزة؛ بفرض حصار كامل عليها حتى ضاقت بهم الأرض، وأظلمت عليهم الدنيا، وأصبحت بطون الأرض خيرًا لكثير منهم من هذا الوضع المأساوي الذي لا يطاق.
لقد صورت عدسات الإعلام حجم المعاناة والشظف المعيشي هناك، انقطعت الكهرباء، وعم الظلام بالليل، وعزّ الطعام، وقلّ الماء النقي، وتقاسم الناس الخبز، وتعطلت المستشفيات، وحرم المرضى من الدواء، بل حتى الأكفان لمواراة الموتى عدمت عندهم.
صار الناس يتحركون هنا وهناك بحثًا عما يسكت بطونهم وأجوافهم، أكثر من مليوني مسلم يعيش هذه المعاناة في هذا السجن، بُحَّت أصواتهم وتعالت صيحاتهم، وتتابعت استغاثاتهم بدول الإسلام وأمم الكفر لإنقاذهم من هذه الكارثة والموت الذي ينتظرهم. إنها والله حالة تدمي القلب، وتفتّ الفؤاد فتًّا على هذا المصير المأساوي الذي يلاقيه إخواننا في فلسطين.
إخوة الإيمان: إن ما يزيد جراحاتنا جرحاً؛ حياة الغفلة واللامبالاة بقضايا المسلمين، وقلّب نظرك في قنوات الإعلام العربي؛ ترَ الرقص والتعرّي في الوقت الذي يتضاغى فيه أطفال غزة ونساؤها من الخصاصة، ويتألمون من قرس البرد ولذعاته.
ومما يزيد مآسينا إيلامًا -أيضاً- تلك المفاهيم المنكوسة، والأقلام الموبوءة التي تحمّل كارثة الحصار على المظلوم، ويصمتون عن الجلاد الغاصب الذي أسّس للظلم وأتى به هناك، ناهيكم عن تلك الأقلام التي لا يعنيها شأن القضية الفلسطينية في شيء، ولم تحبِّر لنا يوماً مقالاً في نصرتهم ورفع معاناتهم، وإنما هي مشغولة بتحرير المرأة، وخلع حجاب المرأة وقيادة المرأة، ورفض محرم المرأة.
وأخيراً -عباد الله- فإن نصرة إخواننا المظلومين المحاصرين واجب شرعي، ولئن حاصر بنو صهيون الماء والغذاء والعلاج والدواء، فإنهم لن يحاصروا مدد السماء، فارفعوا -أيها المسلمون- أكفَّ الضراعة في أوقات الإجابة، وألحّوا وألظّوا إلى الله أن يرفع المعاناة ويكشف الحصار، مع التعاون والتواصي على إيصال الإعانة والإغاثة لهم بأسرع وقت، فالأمر لا يحتمل مزيداً من التأخر والتردد.
ولا ننسَ -عباد الله- مع هذه الأحداث أن نرتبط بالله، وأن يزيد يقيننا ثقة بموعود الله، فالمصائب مدرسة لصياغة رجال المجد، وجيل التمكين لن يخرج إلا من رحم الفواجع، فأمِّلوا -أيها المسلمون- وأبشروا خيراً، وأصلحوا أنفسكم ومجتمعاتكم؛ تصلح لكم أوطانكم وبلدانكم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي