فمن يخاف الله كيف يأخذ الرشوة, ويُجبر الناس على دفعها ويلزمهم بها؟! بل كيف يُعطل مصالح المسلمين؟! وكيف يأكل هذا السُحت ويُطعمه زوجته وأبناءه وبناته؟!. قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا تولوا اليهود ولا النصارى فإنهم يقبلون الرشا, ولا يحل في دين الله الرشا", قال الشهيدي: "وأصحابنا اليوم أقبل للرشا منهم...
الحمد لله الذي جعل الأرض قرارا, وأرسل السماء , وسخر ليلا ونهارا, وقدر آجالا وأعمارا, وخلق الخلق أطوارا, وجعل لهم إرادة واختيارا, وأوجد لهم تفكرا واعتبارا, وتعاهدهم برحمته صغارا وكبارا. نحمده حمد من يرجو له وقارا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، ونبرأ ممن عانده استكبارا وألحد في آياته سفاهة واغترارا, وصلى الله على سيدنا محمد السامي فخارا, صلى الله عليه وعلى آله الطيبين آثارا واختبارا, وعلى أصحابه الكرام مهاجرين وأنصارا, صلاة نواليها إعلانا وإسرارا, ونرجو بها مغفرة ربنا إنه كان غفارا.
أما بعد:
فيا أيها الناس: نافسوا في التقوى وسارعوا إلى الفلاح, واشتروا التقوى بالجد ولا تخسروا بالمطل, (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
أيها المسلمون: إن أمراض الكبائر تسري في الأمم سريا؛ يفتك بهم فيهلكهم ولايذرهم على طريق يقومون ولا على منهج يسيرون، ولا لحق يحفظون ويحافظون, وإن من أكبر الكبائر أكل الأموال بالباطل وأخبثها أخذ الرشوة أو إعطاءها, فذلكم الداء الخطر داء السرطان الذي ما خالط جسماً إلا وقضى عليه ما لم يُستأصل, فما خالطت الرشوة عملاً إلا أفسدته، ولا نظاماً إلا قلبته, ولا قلباً أو طريقاً منيراً إلا أظلمته, فما فشت في أمةٍ إلا وأطاحت بسلطانها, ما وُجدت في أمةٍ إلا وحل الغش فيها محل الإخلاص, والخيانة محل الأمانة؛ ولا غرو فكم لله من ألسنةٍ ناطقة أخرستها وضمائر وأدتها.
لذا وغيره من أضرارها السيئة وعواقبها الوخيمة لم يقف النظم القرآني بإدخالها في الباطل فقط, بل قال بعد ذلك مؤكداً لتحريمها ومُحذراً من سوء عاقبتها, قال الله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 188], أي: لا تدلوا بأموالكم إلى الحكام أي لا تصانعوهم بها ولا ترشوهم؛ ليقتطعوا لكم حقا لغيركم وأنتم تعلمون أنه لا يحل لكم.
وبيّن الله حال اليهود بأنهم كذّابون وآكلون الرشوة (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة: 42], قال الحسن: "يسمعون الكلام ممن يكذب عندهم في دعواه فيأتيهم برشوة فيأخذونها".
والرشوة و(الرشوة) بكسر الراء وضمها والجمع (رشا) بكسر الراء وضمها. و(ارتشى) أخذ الرشوة و(استرشى) في حكمه طلب الرشوة عليه و(أرشاه) أعطاه الرشوة.
أيها الموحدون: إن الرشوة إذا استُطيبت أُكلت وزُينت فأهلكت ودمرت, وأججت العداوات ودمرت المجتمعات, وأذهبت الصالحات كثُرت الويلات, وتذمرت البريات وحلت المثلات, لذا حذّر منها رسولنا -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "لعن الله الراشي و المرتشي في الحكم", وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "لَعنَ رسول الله الراشي والمرتَشِي". قال العلماء: "فالراشي: هو الذي يعطي الرشوة والمرتشي هو الذي يأخذ الرشوة".
قال الشيخ الألباني رحمه الله: "الرشوة: الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة. وما يعطى توصلاً إلى أخذ الحق، أو دفع ظلم، فغير داخل فيه". والله أعلم. وقال: (الراشي): "أصله من الرشا الذي يتوصل به إلى الماء، فـ (الراشي) من يعطي الذي يعينه على الباطل". وقال: "(المرتشي): الآخذ، والذي يسعى بينهما. يسمى (رائش)، يستزيد لهذا ويستنقص لهذا".
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه– قال: "لعن رسول الله الراشي والمرتشي في الحُكْمِ", وقال: "من شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها هدية فقد أتى بابا كبيراً من أبواب الربا".
أيها المتقون: إن المسلم يعيش يراقب الله ويخافه ويتقيه ويعلم أن الله مطلع عليه (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء: 108], (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19].
فمن يخاف الله كيف يأخذ الرشوة, ويُجبر الناس على دفعها ويلزمهم بها؟ بل كيف يُعطل مصالح المسلمين؟ وكيف يأكل هذا السُحت ويُطعمه زوجته وأبناءه وبناته؟. قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا تولوا اليهود ولا النصارى فإنهم يقبلون الرشا, ولا يحل في دين الله الرشا", قال الشهيدي: "وأصحابنا اليوم أقبل للرشا منهم".
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "الرشوة في الحكم كُفْرٌ، وهي بينَ الناسِ سُحْتٌ", وقال ابن خويزمنداد: "من السحت أن يأكل الرجل بجاهه، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها". ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام.
وعن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "السحت الرشوة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية". قال القرطبي -رحمه الله-: "اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك، وأنه محرم عليه أخذه". قال البستي -رحمه الله-: "الرشوة رشاء الحاجة".
أيها القانتون: تعاونوا على تطهير نفوسكم ومجتمعكم من داء الرشوة فإنه مُهدر للحقوق مُعطل للمصالح, فحذار منه فإن فشوه في أُمةٍ مؤذن بهلاكها, كيف لا؛ وهي مُساعدة على الإثم والعدوان, تقدم الجهلاء وتؤخر الأكفاء, ترفع الخامل وتضع المُجد العامل, فحذار من الرشا فإنها فخ المروءة وقبر الأمانة والشرف, لا يقدم عليها إلا خائن وضيع دنيء النفس سافل المروءة, مساوم في دينه وكرامته.
أيها الإخوة: تدبروا العواقب, واحذروا قوة المناقب, واخشوا عقوبة المعاقب, وخافوا سلب السالب, فإنه -والله- طالب غالب, أين الذين قعدوا في طلب المنى وقاموا وداروا على توطئة دار الرحيل وحاموا؟! ما أقل ما لبثوا وما أوفى ما أقاموا! لقد وبخوا في نفوسهم في قعر قبورهم على ما أسلفوا ولاموا, فأين هم ورشاواهم؟! فهي في القبور جليسهم ويوم القيامة ستكون أمام حسيبهم, فأين سيفرون وإلى أين يذهبون؟ ففروا على الله من الرشاوي واحذروا أخذها؛ فإن غبها وخيم ومرتعها عظيم وعذابها أليم.
يا من بأقذار الخطايا قد تلطخ, وبآفات البلايا قد تضمخ, يا من سمع كلام من لام ووبخ, يعقد عقد التوبة حتى إذا أمسى يفسخ, يا مطلقا لسانه والملك يحصى وينسخ, يا من طير الهوى في صدره قد عشش وفرخ, كم أباد الموت ملوكا كالجبال الشُمخ, كم أزعج قواعد كانت في الكبر ترسخ, وأسكنهم ظلم اللحود ومن ورائهم برزخ, يا من قلبه من بدنه بالذنوب أوسخ, يا مبارزا بالعظائم أتأمن أن يخسف بك أو تمسخ؟! يا من لازم العيب بعد اشتماله الشيب ففعله يؤرخ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي