فما ظنُّكم بالربِّ العظيمِ الوَدُود، ذي العرشِ المجِيد، الفعَّالِ لما يُريد، قيُّوم السماواتِ والأرض؟! وإننا نظُنُّ بربِّنا غُفرانًا وعفوًا، ومُعافاةً وسِترًا، وهدايةً ونصرًا، ورِزقًا وتوفيقًا، وفرَجًا قريبًا وحُسن خاتِمةٍ. قال ابن مسعُودٍ - رضي الله عنه -: "قسَمًا بالله ما ظنَّ أحدٌ بالله ظنًّا إلا أعطاه ما يظُنُّ"، وإذا أنعَمَ الله على العملِ والعبدِ بالقَبُولِ حلَّت البركةُ فتضاعَفَت ثِمارُه، وازدهرَت آثارُه.
الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي أودعَ شهرَ رمضان مَزيدَ فضلٍ وأجرٍ، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه على التوفيقِ للصيامِ والقِيامِ وليلةِ القَدرِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الخلقُ والأمرُ، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه كلما أضاءَ قمَرٌ وانشَقَّ فَجر.
أما بعدُ: فأُوصِيكم ونفسِي بتقوَى الله، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
سعادةٌ غامِرةٌ تملَأُ جوارِحَنا إذ بُلِّغنا هذا الشهر العظيم؛ فالألسنُ تلهَجُ بشُكر الله على نعمٍ منَّ الله بها علينا: نعمةُ بلوغ هذا الشهر وإتمامِه، نعمةُ التوفيقِ للصِّيام والقِيام، وما أجلَّها مِن نعمٍ في موسِمٍ لا تُستقصَى خيراتُه، ولا تُعدُّ نفَحَاتُه، ولا تنقَضِي نَسَماتُه.
بدأُ رمضان يحزِمُ أمتِعتَه، ويجمَعُ أمرَه مُؤذِنًا بالرَّحِيل، وهنا يقِفُ المرءُ مشدُوهًا كيف مضَت الأيام، وانقَضَت الساعات! كنا بالأمسِ نستقبِلُه، واليوم نُودِّعُه، وهذا مِن عُمر الإنسان.
كلما اقترَبَت نهايةُ رمضان اشتَدَّ المُسلمُ في طلبِ ثِمارِه، وعمِلَ في تحصِيلِ حصادِه، وأكثَرَ مِن سُؤالِ قَبُولِ طاعاتِه، قال الله تعالى على لِسانِ نبيِّه إبراهيم - عليه السلام -: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127].
رمضان مدرسةٌ تعلَّمنا في ظِلالِها دروسًا ناجِعة، ومواعِظَ بليغَة؛ فالرِقابُ خضَعَت، والقلوبُ خشَعَت، والعيُونُ دمَعَت، والنُّفُوسُ سكَنَت.
رمضان رفعَ الهِمَم، وزكَّى النُّفوسَ، وغذَّى القلوبَ بالإيمان، فنزَغَاتُ الشيطان مصدُودة، ومنافِذُ الهوَى موصُودَة، ودوافِعُ الفُرقةِ والخِلافِ مأسُورَة.
في رمضان تراصَّت الصُّفُوف، وتقارَبَت الأجسَاد، واصطفَّت الأقدام في منظرٍ بَهِيجٍ ترَى فيه جلالَ الموقِف، وجلالَ المشهَد الذي يُعبِّرُ عن تلاحُمِ الأمةِ وقُوَّة بُنيانِها ووحدَتِها.
يعلُو مُحيَّا الصائِمين سَمتُ الصالِحِين، ووجَلُ الطائِعِين، وخشيَةُ المُقصِّرين؛ ذلك أن المُؤمنين السبَّاقِين إلى ربِّهم تزدادُ خشيَتُهم، وينمُو وجَلُهم مِن الله، فلا يركَنُون إلى أعمالِهم، ولا يمُنُّون بها إلى ربِّهم، بل يزدَرُون أعمالَهم، ويُظهِرُون الافتِقارَ التامَّ لعفوِ الله ورحمتِه خشيةَ أن تُردَّ أعمالُهم، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60].
هذه التربيةُ الإيمانيَّةُ تحُدُّ مِن الزهوِ بالنفسِ، والعُجبِ بالأعمال، وتجعَلُ العبدَ دائِمَ الافتِقار لربِّه، مُقيمًا على الانكِسارِ بين يدَيه، لا يتعاظَمُ بعملِه، ولا يُعجَبُ بجُهدِه.
ومِن أشدِّ عقَبَاتِ القَبُول وموانِعِه: الاغتِرارُ بالنَّفس، والإعجابُ بالعملِ واستِكثارُه. وكيف يُعجَبُ المرءُ بعملِه ولا يدرِي ماذا يخرُجُ مِن كتابِه يوم القِيامة، قال الله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) [النور: 21].
ومع ذلك يُبشِّرُ القرآنُ المُؤمنين أن الله - سبحانه - يقبَلُ طاعتَهم كلما أقبَلُوا عليه صادِقين مُنِيبين راغِبِين، قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 104]، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى: 25]، وقال: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 87].
فما ظنُّكم بالربِّ العظيمِ الوَدُود، ذي العرشِ المجِيد، الفعَّالِ لما يُريد، قيُّوم السماواتِ والأرض؟! وإننا نظُنُّ بربِّنا غُفرانًا وعفوًا، ومُعافاةً وسِترًا، وهدايةً ونصرًا، ورِزقًا وتوفيقًا، وفرَجًا قريبًا وحُسن خاتِمةٍ.
قال ابن مسعُودٍ - رضي الله عنه -: "قسَمًا بالله ما ظنَّ أحدٌ بالله ظنًّا إلا أعطاه ما يظُنُّ".
وإذا أنعَمَ الله على العملِ والعبدِ بالقَبُولِ حلَّت البركةُ فتضاعَفَت ثِمارُه، وازدهرَت آثارُه.
إخوة الإسلام: لئِن انقضَى شهرُ رمضان ففضلُ القِيام في كلِّ حِينٍ مُتاح، وأجرُ الصِّيام على مدارِ العامِ قائِم، وصَوتُ الداعِي إلى السماءِ مسمُوع، والمُوفَّقُ مَن قوَّى غرسَه، وتعاهَدَ ثمَرَه، وثبَّتَ قدَمَه بالمُداومَة على الطاعة.
ومِن الأعمالِ الصالِحةِ: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «مَن صامَ رمضان ثم أتبَعَه بستٍّ مِن شوال، فكأنَّما صامَ الدَّهر».
للصائِمِ فَرحةٌ عند فِطرِه، وفَرحةٌ عند لِقاءِ ربِّه، فرحةٌ في الدنيا العاجِلة، وفرحةٌ في الآخرة الباقِية لمَن داوَمَ على العبادة والطاعة؛ حيث ينالُ النَّعيمَ المُقيمَ الذي لا يحُولُ ولا يزُولُ، ألا وهي الجنَّة التي فيها ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذُنٌ سمِعَت، ولا خطَرَ على قلبِ بشَر.
وكأنِّي بأقوامٍ مِن بينِنا سيُنادَون: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 24]، ويُنادَون: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72]، جعلَني الله وإياكُم مِن أهلِها.
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه مِن الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ لي ولكم، فاستغفِروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيم.
الحمدُ لله على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وصحبِه وإخوانِه.
أما بعد: فأُوصِيكُم ونفسِي بتقوَى الله.
تحتَفِلُ الأمةُ قريبًا بنعمةِ إتمامِ شهرِ رمضان، فتَفرَحُ بالعِيد، وهناك أمورٌ يُستحبُّ فِعلُها أو قولُها في ليلةِ العيدِ ويومِه:
يُشرعُ التكبيرُ مِن غُروبِ شمسِ ليلةِ العيدِ إلى صلاةِ العيد.
وزكاةُ الفِطر طُهرةٌ للصائِمِ مِن اللَّغو والرَّفَث، وطُعمةٌ للمساكِين، وتكونُ صاعًا مِن تمرٍ، أو شَعيرٍ، أو زَبيبٍ، أو أُرزٍ، أو نحوه مِن الطَّعام، عن الصَّغير والكَبير، والذَّكَرِ والأُنثَى، والحُرِّ والعبدِ مِن المُسلمين.
وأفضلُ وقتٍ لإخراجِها قبل صلاةِ العيد، ويجُوزُ قبل يومِ العيدِ بيومٍ أو يومَين، ولا يجوزُ تأخيرُها عن صلاةِ العيدِ بغير عُذرٍ.
ويُستحبُّ الاغتِسالُ والتطيُّبُ للرِّجالِ قبل الخُروجِ للصلاةِ، أما النساءُ فيبتَعِدنَ عن الزِّينةِ إذا خرَجنَ، ويحرُمُ على مَن أرادَت الخُروجَ أن تمسَّ الطِّيبَ أو تتعرَّضَ للرِّجالِ بالفِتنةِ.
وأكلُ تمراتٍ وِترًا قبل الذَّهابِ إلى المُصلَّى سُنَّةٌ نبويَّة، وتُستحبُّ التهنِئةُ بالعيدِ؛ لثُبُوتِ ذلك عن الصحابةِ - رضي الله عنهم -.
العيدُ مُناسَبةٌ للإحسانِ إلى الوالدَين وبرِّهما، وتقوِيَة الصِّلةِ مع الأقارِبِ والزَّوجَين والجِيران.
العيدُ مُناسَبةٌ لنَبذِ الشَّحناء والبَغضاء، والانتِصار على المشاعِرِ التي ينزَغُ بها الشيطان.
ولا يفُوتُنا في هذا المقامِ أن نُبايِعَ الأميرَ مُحمدَ بنَ سَلمان بن عبد العزيز ولِيًّا للعهد على كتابِ الله وسُنَّة رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، نسألُ اللهَ أن يحفظَه ويُوفِّقَه ويُسدِّدَه وينفَعَ به البلادَ والعبادَ، وينصُرَ به الإسلامَ والمُسلمين، ويرزُقَه البِطانةَ الصالِحةَ النَّاصِحةَ التي تدُلُّه على الخير وتُعينُه عليه، إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
ونسألُه - سبحانه - أن يُوفِّقَ وليَّ أمرِنا خادِمَ الحرمَين الشريفَين لما يُحبُّ ويرضَى، وأن يأخُذ بناصِيتِه للبرِّ والتقوَى.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر اللهم أعداءَك أعداءَ الدين، واجعَل اللهم هذا البلدَ آمِنًا مُطمئنًّا، وسائِرَ بلاد المُسلمين.
اللهم إنك عفُوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا، اللهم إنك عفُوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا، اللهم إنك عفُوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا.
اللهم إنا نسألك الجنةَ، ونعوذُ بك من النار، اللهم إنا نسألك من الخير كلِّه، عاجِلِه وآجِلِه، ما علِمنا منه وما لم نعلَم، ونعوذُ بك من الشرِّ كلِّه، عاجِلِه وآجِلِه، ما علِمنا وما لم نعلَم.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عِصمةُ أمرِنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعَل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍّ يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألُك فواتِحَ الخيرِ وخواتِمَه وجوامِعَه، وأوَّلَه وآخرَه، وظاهِرَه وباطِنَه، ونسألُك الدرجاتِ العُلَى من الجنةِ يا ربَّ العالمين.
اللهم ارحَم موتانا، واشفِ مرضانا، وتولَّ أمرَنا، واختِم لنا بخيرٍ يا رب العالمين.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
اللهم صلِّ على مُحمدٍ وعلى آل مُحمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمدٍ وعلى آل مُحمدٍ، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشِدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحبِ الكرام، وعنَّا معهم بعفوِك وكرمِك يا أكرَم الأكرَمين.
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي