رأينا أننا قادرون على تغيير مسار حياتنا, لقد تغَيَّرَتْ حالي وحالُك في رمضانَ غيرَ الحالِ التي كُنا عليها، رأيناك قانتاً آناءَ الليل مع جموعِ المصلينَ، تَحْذَرُ الآخرةَ، وتَرْجُو رحمةَ ربِّك, رأيناك أَنِيْسَاً مع القرآن، لهَّاجَاً بتلاوتِه، عِشْتَ معه أيامٌ وأيُّ أيام. كنت أخي الصائم سخَّاءً بيمينك، تُعْطِي بِطِيبِ نَفْسٍ، وتَجُودُ بيمينِك، وتصَّدَّقُ وأنت صَحِيْحٌ شَحِيْحٌ، تخشى الفقرَ وترجوا الغِنَى. إنها حالٌ من الهُدَى والتُّقى يُحِبُّها اللهُ، ويَجْزِي أهلَها الجزاءَ الأَوْفَى...
الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزِّز بعظمة الربوبية، القائمِ على نفوس العالم بآجالها، والعالم بتقلبها وأحوالها، المانّ عليهم بتواتر آلائه، المتفضل عليهم بسوابغ نعمائه؛ أَحمَدُهُ حَمدًا لا انتِهَاءَ لأَمَدِهِ، وَأَشكرُهُ شُكرًا لا إِحصَاءَ لِعَدَدِهِ، وَأَشهَدُ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَردٌ صَمَدٌ، لا شَرِيكَ لَهُ وَلا صَاحِبَةَ وَلا وَلَدَ.
وَأَشهَدُ أَنَّ محمدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، اختَصَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَحَبَاهُ، وَأَولاهُ مِنَ الكَرَامَةِ مَا حَازَ بِهِ الفَضلَ وَحَوَاهُ، بَعَثَهُ عَلَى حِينِ فَترَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَخَلاءٍ مِن وَاضِحِ السُّبُلِ، فَجَاهَدَ بمن أَطَاعَهُ مَن عَصَاهُ، وَبَلَغَ في الإِرشَادِ غَايَتَهُ وَمُنتَهَاهُ.
الله أكبر كلما صحت الأنواء، وأشرق الضياء.
الله أكبر عدد ما ذكره الذاكرون, الله أكبر عدد ما تلا القرآنَ التالون.
اللهُ أَكبَرُ مِلءَ السَّمعِ رَدَّدَهَا *** في مَسمَعِ البِيدِ ذَاكَ الذَّرُّ وَالحَجَرُ
اللهُ أَكبَرُ مَا أَحلَى النِّدَاءَ بها *** كَأَنَّهُ الرِّيُّ في الأَروَاحِ يَنتَشِرُ
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله..
عباد الله: نعم هذا هو العيد, أدركناه وما كنا نؤمل, عشنا ومُدّت أعمارنا حتى بلغناه, فاللهم اجعل أعمارنا في طاعتك.
اليوم تفرحون بالعيد وتلبسون الجديد, تلتقون والكلّ سعيد, لكم الظواهر, ولله البواطن, وهو العليم –سبحانه- بالمقبول والطريد, أتيتم لبيته يحدوكم حسنُ ظنّكم به أنه قَبِلكم, فطوبى لكم, أتممتم العدة وكبّرتم ربّ العزة, وأحسنتم الظن, وهو سبحانه عند حسن ظنّ عبده به.
يا أهل العيد: يأتي العيد كل عام ليبعث في نفوسنا الفرحة، الفرحةَ بإتمام العدةِ والعونِ على الطاعة, والمهلةِ في العمر, وإدراكِ خَتم الشهر, وللعيدِ فرحةٌ ينبغي أن نعيشها, ويُندب أن نُظهِرها, ومع هذا فقلوبنا نحن المسلمين كبيرة, نفرح هنا, وقلوبنا مع المسلمين في كل مكان, نحمل همّهم ولا ننسى عناءهم, ونحزن لمصابهم, ولعمر الله لا يتنافيان, ولنا في الرسول –صلى الله عليه وسلم- أسوة, وهو الذي كان يفرح في العيد في المدينة, وصدره يضيق مما يقول الكفار.
ولئن كنا نرى اليوم فرحة الناس بالعيد, فإن هذه هي الفرحة الظاهرة, ونحن نؤمّل من ربنا أن يُنيلنا الفرحة المخفاة في الآخرة, حين نلقاه وقد قَبِل صومنا وعملنا, وغفر ذنبنا ورضي عنا, حين ينادى بأهل الصيام من عند باب الريان, وحين يفرح الصائم بلقاء ربه, فيا بشرى من نال الفرحة الحقّة.
يا أهل العيد: ليهنكم الشرف, ومن يُدانيكم فيه, ليهنكم الفخر ومن يساميكم فيه, شرفُ الإسلام والانتسابِ إليه, فمهما حاول الأعداء طمس نوره, وإخفاء شمسه, يعود لهم ساطعاً, ويبرز لهم جذَعاً.
حين ترى الجهود المبذولة لحرب الدين ووأد الإسلام والمسلمين, وتبهرك قوتها, وتهولك طرائقها, فلن تجد أبلغ من مَثَلِ القرآن حين شبَّه هؤلاء الواقفين في طريقه فقال: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) [التوبة: 32]، إنه نورٌ يملأ الكون كله, ويحاول هؤلاء أن يطفئوا النور العظيم بنفخ بأفواههم, فأنَّى لهم!
رأينا في رمضان ملايين المصلين في كلّ مكان, في شرق الأرض وغربها, تنتصب أقدامهم لربهم, تهطِل دموعهم, وتخرّ جباهم لربهم, فتتحطم تحت تلك الأقدامِ كلُّ جهود أهل الشر.
في الحرمين الشريفين ملايين المسلمين يصلون بأمنٍ وأمان, من كل لون وجنس, وبكل لسان ولغة, نعم هو ذاك المكان الذي خرج منه النبي –صلى الله عليه وسلم- قبل أربعة عشر قرناً متخفياً يخشى سطوة قريش, لكنه الإسلام فمن يقف أمامه؟!
في القدس حيث الأقصى رأينا كيف صلى المسلمون بأعداد رهيبة رغم الحصار والمنع, وتسلط بني صهيون, في جموع ملأت الساحات, معلنة أن مسرى الأنبياء لا تزال للمسلمين.
في صربيا؛ حيث معقل النصارى المتعصبة يقوم في الليالي الماضية عشرت الآلاف من المصلين.
قبل أيام يقوم إرهابي بدهس مصلين خارجين من مسجد في أوروبا, فتتهاطل على المراكز الإسلامية أعداد كبيرة تريد أن تدخل الإسلام، صرح بذلك رئيس المركز الإسلامي قبل أمس.
في مخيمات التفطير كل يوم في هذه البلاد المباركة أرواح تعود لربها, وتعلن الدخولَ في حياض الإسلام.
سلوا الدعاة عن رسائل التائبين, سلوا المساجد عن أنّات المنيبين.
ينفق أهل الضلال الملايين لصرف تدين الناس, وتشويه الدين وأهل الدين, فلا يزال الناس مستمسكين, ولأهل الصلاح والاستقامة مجلّين.
يريدون قلوبنا غرابيبَ سود فتعود بحمد الله جدداً بيض.
يسعى المفسدون لتغريب المجتمع, وإغراقه بالآثام, فتأتي ليلة القدر تحط عنهم الأوزار, وليخرجوا خفافاً من الآصار.
إنه دين الله, إذا حُورِب اشتد, وإذا تُرِكَ امتد, وصدق ربنا (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 8].
نعم نمرّ بمكدِّرات كثيرة, وتحيط بنا أطماعٌ رهيبة, ولكن هذا لا يُنسينا أن نتفاءل بمستقبل الإسلام.
لكن هذا التفاؤل لا ينبغي أن يكون مجرد شعورٍ بلا عمل, بل تفاؤل يعقبه عمل ثم أمل.
التفاؤل ينبغي أن يصحبه رضا بربنا ويقين بديننا، فالله ناصرٌ دينه حافظٌ أولياءه, معزٌ ملّته, وهذا ما ينبغي أن لا يغيب عن البال.
التفاؤل ينبني عليه أن نستمسك بالدين, فالعاقبة للمتقين, ولئن نالهم ما نالهم, لئن تجبّر الكافر، وتجلّد الفاجر، وتطاول المنافق فالعقبى لأهل الإيمان في الدنيا وفي الآخرة.
التفاؤل ينبني عليه أن نسعى لنشر الدين بكل وسيلة, وأن نتحلى به بكل تفاصيله, ففي اعتقادنا لا نعبد إلا رباً واحداً, إليه نقصِد, وعليه نتوكل, وله نعبد.
وفي علاقاتنا, فنحب المؤمن لإيمانه, ونبغض الكافر لكفرانه, نوالي المؤمنين ونعادي الكافرين, هكذا يملي علينا ديننا, وبهذا نأتسي بنبينا –صلى الله عليه وسلم-.
وفي أخلاقنا, فنعفو عمن ظلم, ونحلم عمن أساء, ونحسن إلى من قابلنا, ولنا في هذا كلِّه أسوةٌ وقدوة, نبينا –صلى الله عليه وسلم-.
التفاؤل يا كرام لا يعمينا عن الحذر من مكر الماكرين, ويحتِّم علينا العمل لمناكفة جهود المبطلين, فهذا بدعوته, وهذا بإغاثته, وهذا بقلمه وهذا بدعائه.
التفاؤل يا كرام يجعلنا نحافظ على مكتسباتنا, ومن أعظمها نعمة الأمن التي نتفيؤها, وتلك تستوجب منا أن نكون يداً واحدة مع ولاة أمرنا, نتقرب بالطاعة في غير معصية لربنا.
التفاؤل يستقيم يا كرام, حين نتعاون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فالمنكرات اليوم بدأت تظهر, وظهورنا ليس نذير خير, فكم من بلادٍ كانت أقوى وأغنى, وحين شاع فيهم المنكر اختلت الموازين, ولا عجب فالأمن من ربنا, وينقص منا بقدر إخلالنا بحقه, ولن تزول المنكرات إلا إذا حمل كلٌّ منا نصيبه في الإنكار, وفي هجر أماكن الباطل.
ومن استنار قلبُه في رمضان يعرف المنكر ولو سُمِّيَ زوراً ترفيهاً, فالترفيه لا يكون عبر بوابة الغناء والحفلات المحرمة, ومع هذا ففي كل بيئةٍ منكراتها, في عائلتي, في بيتي, مع أصحابي, منكرات تقلّ وتكثر, فطوبى لمن كان لسانه منكراً, وقلبه للمعصية كارهاً, ولأماكن المنكر مفارقاً, ولمن تحت يده عن أماكن الزور والمنكر حافظاً، فأولئك هم المفلحون.
وأما حين تشيع المنكرات بلا نكير, وتُعلن بلا تحذير, فإن المغبّة حينها خطيرة, ليست على الفاعل فحسبِ, بل على المجتمع بأجمع, وفي الصحيح "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم؛ إذا كثر الخبث"، وفي التنزيل (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25].
اللهم صلِّ على محمد...
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، ورادّ الناس إلى معاد, إن الله لا يخلف الميعاد, والصلاة والسلام على صفوة العباد, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم التناد.
أما بعد: معاشر المسلمين: قضي الشهر, ودروسنا منه لا تحصر, واحدٌ منها أنا رأينا أننا قادرون على تغيير مسار حياتنا, لقد تغَيَّرَتْ حالي وحالُك في رمضانَ غيرَ الحالِ التي كُنا عليها، رأيناك قانتاً آناءَ الليل مع جموعِ المصلينَ، تَحْذَرُ الآخرةَ، وتَرْجُو رحمةَ ربِّك, رأيناك أَنِيْسَاً مع القرآن، لهَّاجَاً بتلاوتِه، عِشْتَ معه أيامٌ وأيُّ أيام.
كنت أخي الصائم سخَّاءً بيمينك، تُعْطِي بِطِيبِ نَفْسٍ، وتَجُودُ بيمينِك، وتصَّدَّقُ وأنت صَحِيْحٌ شَحِيْحٌ، تخشى الفقرَ وترجوا الغِنَى.
إنها حالٌ من الهُدَى والتُّقى يُحِبُّها اللهُ، ويَجْزِي أهلَها الجزاءَ الأَوْفَى، وتحسن هذه الحالُ وتجمل, بأمرين اثنين لابد أن يكونا منك على بال:
أولهما بالدوام ولو على بعض تلك الحال, فمن ذاق لذة العبادة وجنة التقلب في الطاعة قمن به أن لا يتنازل عنها, وخير العمل ما دام عليه صاحبه.
وثانيهما بأن لا تهدم تلك الحسنات, ولا تكدر تلك القربات, ولا يسوَّدُ القلبُ بعدها بقبيح السيئات, ومواحقِ الحسنات, فبين أيديكم أيام عيد, وأيام استجمام وأسفار, فالله الله في رصيدكم العبادي, اذكروا ركعات الليل, ومناجاة السحر, وظمأ الهواجر, الذي تقلبتم فيه في رمضان, لا تهدموه بالعود للعصيان, فتكونوا كمن غزلت ثم نقضت, ومن بنى فأحسن ثم عاد فهدم, زادنا ربي وإياكم حرصاً وثباتاً، وتغيُّراً للأحسن واستمساكاً.
أختنا المباركة, يا ابنة الإسلام: صلاح الرجل قد يكون صلاحًا لنفسه فحسب, ولكن صلاح المرأة يعني صلاحَ جيل ومجتمع, إنه صلاح لها ولولدها ولزوجها.
ولن يحصل للإسلام عزّ ومَنَعَة إلا إذا استقامت نساؤهم, وعرفن قدرهن في المجتمع, لا تقولي ذهب الرجال بالحمل كله, وقاموا بالأمر جلّه, بل على يديك بإذن الله سيجري خيراً كبيراً.
أيتها المسلمة: الجهودُ الضخمة لصدِّك عن دينه, وحرفِ مسيرتك, وسلخِك من هويتك تتكسر أمام ثباتِك على الدين, وتمسُكِك بحشمتك وحجابك, أنتِ حرّةٌ نعم, حرّةٌ من عبودية البشر, ومِن تلاعب المفسدين, ومن خطط العلمانيين والمنافقين, أنت حُرّةُ من عبودية دهاقنة الفساد, وأَمَةٌ لكن لله رب العباد, ولذا: فله أطيعي ولو خالف أمرُه هواكِ, وما الدنيا إلا ليبلونا ربنا أينا يطيع أمره ويحسِنُ عملَه ويصبر عن المعصية وعلى الطاعة, وستمضي الحياة سريعاً, فطوبى لمن على دينها ثبتت, ولنبيها اتبعت, ولأوامر ربها أذنت.
عبد الله: يوم العيد هو يومُ التّصافي والتهاني، فاليوم تناس خلافاتٍ وقعت, وزلاتٍ حصلت, وإساءات إليك بدرت، واجْعَلْهَا خلفَ ظهرِك، وأَصْدِرْ عفواً عاماً لكلِّ من أساءَ إليك، أو أخطأ عليك، وليكن حالك كما قال القائل
من اليوم تَعَارَفْنَا *** ونَطْوِيْ ما جَرَى مِنَّا
فَلاَ كانَ ولا صَارَ *** ولا قُلْتُمْ ولا قُلْنَا
وإنْ كانَ ولا بُدٌّ *** من العَتَبِ فبالحُسْنَى
وقُلْ كما قالَ النَّبيُّ الصالحُ –عليه السلام-: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 92].
كن الواصلَ المبادر, صل رحمك اليوم إرضاءً لربك, وطمعاً في إيصاله الخير لك, فهو القائل سبحانه –كما في الحديث القدسي: "الرحم معلَّقة بالعرش فمن وصلها وصلته".
هنيئًا في العيد لمن عفا عمن هفا, ومن أحسن لمن أساء, هنيئاً لموسِرٍ يزرعُ البهجةَ على شفَةِ محتاج، ومحسِنٍ يعطِفُ على أرمَلةٍ ومسكينٍ ويتيمٍ، وصحيحٍ يزور مريضًا، وقريبٍ يصِل قريبًا.
وبعد؛ فهذه عباد الله شمس العيد قد أشرقت، فلتشرق معها شفاهكم بصدق البسمة، وقلوبكم بصفاء البهجة، ونفوسكم بالمودّة والمحبة، جدّدوا أواصر الحبّ بين الأصدقاء، والتراحمَ بين الأقرباء، والتعاونَ بين الناس جمعاء, وامضوا لعيدكم وكلكم أمل بربكم, أسأل الله أن يفرحكم برضوانه، وأن يكرمكم بالفوز بجنته والنجاة من ناره, وأن يسعدكم بلقائه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي