حسن الخلق

رضا بن خالد بوشامة
عناصر الخطبة
  1. الخلق الحسن أعظم منة ربانية .
  2. دعاء النبي ربنا تعالى لهدايته لأحسن الأخلاق .
  3. منزلة حسن الخلق .
  4. فضله .
  5. ثمراته .
  6. معناه .
  7. من مجالاته .
  8. عظمة خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم .

اقتباس

والمؤمن إذا أضاف إلى إيمانه جمال القول وحسن الفعل ارتفعت درجته، وبلغ الدرجات العالية؛ ففي حديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم".

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد: عباد الله، إن من أعظم منن الله على عبده أن يكمل له إيمانه بالخلق الحسن، ويهدي قلبه إليه، ويدله عليه، ويرزقه كريم الخصال، وجميل الخلال، حتى يكون قريبا من الكريم المتعال.

ولك أن تنظر -أيها المسلم- إلى سيرته -عليه الصلاة والسلام- وطريقته في سؤال ربه أن يهديه لأحسن الأخلاق وهو ينادي ربه في أعظم عبادة وأجل وقت يكون فيه العبد قريبا من ربه، خاشعا متذللا لمولاه، وهي صلاة الليل، حيث كان -عليه الصلاة والسلام- يستفتحها بدعاء الله أن يرزقه حسن الخلق، ويصرف عنه سوءه؛ وما ذاك إلا لعظيم قدره عند الله -سبحانه وتعالى-.

روى الإمام مسلم في الصحيح، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي، وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ، وَمَمَاتِي، لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ، وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ"، ثم يشرع في القراءة، عليه الصلاة والسلام.

بل كانت بعثته -صلى الله عليه وسلم- ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ويبين لهم الإيمان والتوحيد، ويحذرهم من الكفر والشرك والنفاق، وليتمم لهم مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وجميل العادات والخلال، ومحاسن الأفعال؛ روى الإمام أحمد في المسند، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"، وفي رواية: "مكارم الأخلاق".

والمؤمن إذا أضاف إلى إيمانه جمال القول وحسن الفعل ارتفعت درجته، وبلغ الدرجات العالية؛ ففي حديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم".  قال الإمام المالكي -عليه رحمة الله-: يريد -والله أعلم- أنه يدرك بحسن خلقه درجة المتنفل بالصوم والصلاة؛ لصبره على الأذى، وكفه عن أذى غيره، والمعارضة عليه، مع سلامة صدره من الغل. اهـ.

عباد الله: فكم من مؤمن بالله زينه الله -عز وجل- وجمله بحسن الفعال وكريم الخصال سيدرك بكريم أخلاقه وجميل خصاله رحمة ربه فيفوز بالدرجات العظيمة وينال أعظم الحسنات، وقد وصف الله -عز وجل- في كتابه أهل الجنة بمعاملة الخَلق بالإحسان بالمال واحتمال الأذى، وهذا كله من حسن الخلق، قال -سبحانه-: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:133-134].

فالإنفاق في السراء والضراء يقتضي غاية الإحسان بالمال كثرة وقلة، وكظم الغيظ والعفو عن الناس يقتضي عدم المقابلة على السيئة بالقول أو الفعل، وذلك يتضمن إدانة القول واجتناب الفحش والإغلاظ في المقال، وهذا نهاية الإحسان في الأخلاق؛ لذا قال -سبحانه-: (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

وحسن الخلق هو الذي يجمل الإيمان ويكمله، وهو من خير ما يعنى به المرء بعد الإيمان؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا".

وذكر -أيضا- أن الله يحب مكارم الأخلاق ومعاليها، فقال: "إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الأَخْلاقِ، وَيَكَرْهُ سَفْسَافَهَا".

وأخبر أن أكثر ما يدخل الجنة بعد الإيمان بالله وعبادته هو "حسن الخلق"، روى الترمذي والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما أكثر ما يدخل الجنة؟ قال: "تقوى الله، وحسن الخلق".

وهو أثقل شيء يوضع في الميزان يوم القيامة، وخير ما يعطاه العبد؛ فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير"، أثقل شيء في ميزان المسلم يوم القيامة حسن الخلق وإن الله ليبغض الفاحش البذيء.

بل إن المؤمن صاحب الخلق الحسن في الدنيا يكافئه الله -تعالى- يوم القيامة بأن يكون أحب الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقربهم منه مجلسا، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون". قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارين والمتشدقين؛ فما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون".

والأحاديث في بيان فضل حسن الخلق كثيرة، ويجمع ذلك الإحسان إلى الخَلق، وأن تأتي إلى إخوانك ما تحب أن يؤتى إليك.

وقد ذكر علماء السلف رحمهم الله تفسيرات ومعاني كثيرة لحسن الخلق، وكلها حسنة، تجتمع في الإحسان، والإيثار، ولين الجانب، وطلاقة الوجه، وقلة النفور، وطيب الكلام، وحب الخير للناس، كما قال سلام بن أبي مطيع -رحمه الله-:

تراه إذا ما جئته متهللاً *** كأنك تعطيه الذي أنت آمله

هو البحر من أي النواحي أتيته *** فلجته المعروف والبر ساحله

وصاحب الخلق الحسن قبل أن ينال الأجر والمثوبة يوم الحساب يحبه الناس ويوادونه، ويوضع له القبول بينهم، فإذا حسنت أخلاق المرء كثر أصدقاؤه وقل معادوه، فسهلت عليه الأمور الصعاب، ولانت له القلوب الغلاظ.

أُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ جَهْدِي *** وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا

وَأَصْفَحُ عَنْ سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا *** وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا

وَمَنْ هَابَ الرِّجَالَ تَهَيَّبُوهُ *** وَمَنْ حَقَرَ الرِّجَالَ فَلَنْ يُهَابَا

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم. والحمد لله رب العالمين...

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد: أيها المسلمون، إذا كانت مكانة الأخلاق في الدين ما ذكر، وقدر محاسن الأخلاق في الدين ما ذكر، وقدر محاسن الخصال والخلال ما عرف؛ فاعلموا أن خير من اتسيت به في أخلاقه وخلاله وخصاله النبي محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان أحسن الناس خلقا، ووصفه ربه بقوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].

بل إن خلقه القرآن، كما أخبرت بذلك أمنا عائشة الصديقة بنت الصديق -رضي الله تعالى عنهما-، ومعنى ذلك، كما قال العلماء، صار امتثال القرآن أمراً ونهيا سجية له وخلقا تطبعه، وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه تركه، هذا ما جبل عليه من الخلق العظيم، من الحياء، والكرم، والشجاعة، والصفح، والحلم، وكل خلق جميل.

فكان فيه من هذه الأخلاق والشيم وسائر الخلال الكاملة ما لا يمكن وصفه، ويكفينا في هذا الموضع أن نذكر مثالا واحدا من أمثلة أخلاقه في القرآن -عليه الصلاة والسلام- وهو قول بارئنا -سبحانه-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159].

ومن أعظم المواقف التي تجلى فيها عظيم عفوه -صلى الله عليه وسلم- موقفه مع أهل مكة حينما دخلها فاتحا، فقد كانوا لا يشكّون أنه سيستأصلهم ويبيدهم؛ وذلك لما فعلوه به وبأصحابه من الأذى والمحاربة، آذوه بألسنتهم وأيديهم، أخرجوه من بلده، حاربوه وأدموه وكسروا رباعيته؛ فهل انتقم منهم لنفسه؟ يبين هذا الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-، قال: لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزبير بن العوام على إحدى المجندتين، وخالد بن الوليد على الأخرى، قال: فبصر بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كبكبة فهتف بي، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "اهتف لي بالأنصار"، فهتفت بهم، فطافوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسلّم كأنهم كانوا على ميعاد، قال: "يا معشر الأنصار، إن قريشا قد جمعوا لنا، فإذا لقيتموهم فاحصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا، الصفا ميعادكم"، قال أبو هريرة: فما لقينا منهم أحدا إلا فعلنا به كذا وكذا. وجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن"، ولجأت صناديد قريش وعظماؤها إلى الكعبة، يعني دخلوا فيها، قال: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى طاف بالبيت، فجعل يمر بتلك الأصنام فيطعنها بسية القوس ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، حتى إذا فرغ وصلى جاء فأخذ بعضادتي الباب، ثم قال: "يا معشر قريش، ما تقولون؟"، قالوا: نقول ابن أخ وابن عم رحيم كريم. ثم عاد عليهم القول، قالوا مثل ذلك، قال: "فإني أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين"، فخرجوا فبايعوه على الإسلام.

ثم أتى الصفا لميعاد الأنصار، فقام على الصفا على مكان يرى البيت منه، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر نصره إياه، فقالت الأنصار، وهم أسفل منه: أما الرجل فقد أدركته رأفة لقرابته ورغبته في عشيرته! فجاءه الوحي بذلك، قال أبو هريرة: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جاءه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى ينقضي الوحي عنه. فلما قضي الوحي قال: "هيه يا معشر الأنصار! قلتم: أما الرجل فأدركته رأفة بقرابته ورغبة في عشيرته؟! والله إني لرسول الله! لقد هاجرت إلى الله ثم إليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم"، قال أبو هريرة: فرأيت الشيوخ يبكون حتى بل الدموع لحاهم، ثم قالوا: معذرة إلى الله ورسوله، والله ما قلنا الذي قلنا إلا ضنا بالله وبرسوله! قال: "فإن الله قد صدقكم، ورسوله، وقبل قولكم".

فانظر -عبد الله- إلى عفو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورفقه ورأفته ورحمته، فكان كما قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "ما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء يؤتى إليه حتى ينتهك من حرمات الله فينتقم لله".

فلم ينتقم من قريش وقد فعلوا به ما فعلوا، بل عفا عنهم، وصفح عنهم، وألان لهم القول، فكان ذلك سببا في إسلامهم ودخولهم دين الله أفواجا، ولم يعنف الأنصار في قولهم: أما الرجل فأدركته رأفة بقرابته ورغبة في عشيرته!.

ولك أن تنظر -عبد الله- في تصرفه مع الأنصار وعذره لهم من الكلمة التي خرجت من أفواههم ولم يريدوا منها إلا الخير، ولكنها لا تليق بمقام سيد المرسلين، وذلك أن الأنصار لما رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- قد آمن أهل مكة وأقرهم على أموالهم ودمائهم مع دخوله عليهم عنوة وقهرا وتمكنه من قتلهم وأخذ أموالهم لو شاء خافوا أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يستوطن مكة وقريشا؛ لأن البلد بلده والعشيرة عشيرته، وان يكون نزاع النفس إلى الوطن والأهل يوجب انصرافه عنهم، فقال من قال منهم ذلك، ولم يقله الفقهاء وأولو الألباب الذين يعلمون أنه لم يكن له سبيل إلى استيطان مكة، فقال ذلك لا طعنا ولا عيبا؛ ولكن ضنا بالله وبرسوله، أي: تمسكا بالله وبرسوله، والله ورسوله قد صدقاهم أن ما حملهم على ذلك الضن بالله ورسوله، وعذراهم فيما قالوا؛ لما رأوا وسمعوا، ولأن مفارقة الرسول شديدة على مثل أولئك المؤمنين الذين هم شعار، وغيرهم دثار، والكلمة التي تخرج عن محبة وتعظيم وتشريف وتكريم تغفر لصاحبها؛ بل يحمد عليها، ولو كان مثلها صدر بدون ذلك استحق صاحبها النكال. كما قال شيخ الإسلام عليه رحمة الرحمان.

فهذا موضع واحد -عباد الله- ظهر فيه عظيم خلقه الكريم، وصفحه الجميل، لفريقين من الناس: لقريش، وللأنصار؛ غفر لهم، وصفح عنهم -صلى الله عليه وسلم-.

فنسألك اللهم أن ترزقنا الخلق الحسن...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي