الحمد لله رب العالمين، موفق العاملين، ومثيب الطائعين، من عمل له جازاه، ومن قصده حماه، ومن توكل عليه كفاه، يعلم من عبده الرغبة في الخير فيهديه سبله، وطلبَ الرضا فيعطيه سؤله، وسؤالَ الثبات فيثبتُه حتى يوفيَه أجلَه، أنعم به من رب عظيم، من تقرب إليه شبرا تقرب إليه ذراعا، ومن تقرب إليه ذراعا تقرب إليه باعا، يرضى من عبده بالعمل، وأن يفزع إليه بالرغبة والأمل، ولله في كمال ذلك العمل أجل، قضاء قضاه وعلينا الطاعة، ورزق وفَّاناه فلا نتأخر عنه ولا نستقدم ساعة، فإليه المفزع في كل حين، وعليه التوكل وبه اليقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
أيها الأحبة في الله: اتصل بي شاب يبدو من ملامح حديثه أنه حديث عهد بصلاح، وأنه من أسرة جذورها صالحة، بل كانت قدوة للناس في العلم والخلق والفضل والورع، ولكن الشاب تدفق عبر الأثير بعبرات الألم، وآهات القهر، إنه يشكو من ظلم ذوي القربى.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند
إنهم لم يبخلوا عليه بمال، ولم يردوه عن رغبة، بل أسبغوا عليه من النعم، وأضفوا على حياته مزيدًا من الرفاهية ورغد العيش، وكل ما طلبوه منه: أن يكون مثلهم، ولكن في أي شيء؟ أن يقبل بالاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، إنه ليس الاختلاط الذي قد يتبادر إلى الذهن في التعليم والعمل وقيادة المرأة للسيارات ومشاركتها في الأندية الرياضية الرجالية، ونحو ذلك، فهو أمر سلم الله بلادنا منه، ولله الحمد والمنة، ثبتنا الله على هداه، وكفانا والمسلمين الشرور والآثام.
ولكنه اختلاط من نوع آخر أشد خطورة وخفاء؛ فعن عقبة بن عامر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والدخول على النساء" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت" (رواه البخاري)، والحمو هو قريب الزوج أو الزوجة، حيث يؤمن دخوله على النساء لقرابته منها، وهو ليس من محارمها.
ومن ذلك: كشف زوجات الإخوة وجوههن ونحورهن ورؤوسهن وربما أكثر من ذلك لإخوة الزوج، وقد يقع بين بعض أولاد الأعمام والعمات، وأولاد الأخوال والخالات، وربما أبت بعض الزوجات ذلك، فيتشدد في الإبقاء على هذه العادة الجاهلية بعض كبار السن من الآباء والأمهات بحجة جمع الشمل، وعدم التفرق في المجالس، ولكن ذلك لا يجوز قطعا، وأي إنسان يصرح بغير ذلك فقد شرع غير شرع الله -عز وجل-، ولا يجوز إطاعته حتى ولو كان أبا أو أما، يقول الله -جل وعلا-: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت: 8]، فإن عورات زوجات الإخوة أو زوجات الأعمام والأخوال ونحوهن حرام على إخوة أزواجهن أو أقاربهم من الرجال الأجانب عنهن كحرمة ذلك مع الرجال الأجانب بل أشد.
ويحتج بعض الناس بأن النيات سليمة، وأن الشخص حين ينظر إلى زوجة شقيقه فإنه يعدها في مكانة شقيقته، ونساء جيرانه يعدهن في مكانة محارمه اللاتي يحرم الزواج منهن، وأنه يغار على عرض أخيه، ولكن الواقع فيه من الحوادث ما تشيب له النواصي والقلوب.
وقد مرت بي من خلال الاستشارات مصائب وابتلاءات وقعت في بعض البيوتات التي استهانت بهذا الأمر، ما إذا تذكرته اضطربت نفسي ألما، فقد مست أعراض، واختلطت مياه، وغص الجاني بجنايته، وتتابعت الحسرات بكسر ما لا يمكن أن يجبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وربما لم يعلم بذلك صاحب العرض نفسه.
وما ذلك كله إلا بسبب التهاون في أمر من أوامر الله -تعالى-، أراد عز وجل ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يحفظ بها العرض والنسل والنسب والنفس.
ومن صور الاختلاط المحرم كذلك: ما يسمى بسائق العائلة والنساء، حيث توسع الناس في ذلك، فعندما يستقدم السائق تكون النية أن يقوم بمهام لا تتعلق بالنساء، وأنه لا ينقل النساء إلا مع محرم، وأنه لا يدخل البيت وإنما يبقى في بيته الصغير في ملحق المنزل، ثم تتوسع الأمور، فيبدأ التساهل شيئا فشيئا، حيث يبدأ الأمر بتوصيل النساء وهن في الخلف ومعهن طفل صغير لا تخرق به خلوة، ثم يتوسع أيضا فتذهب المرأة وحدها مع السائق بحجة قرب المكان، والثقة الكبيرة في هذا السائق. واقلبي من هذه الثقة التي أعقبت حسرات لا يباح بها، أو بحجة الضرورة التي لا ضابط لها، أو بحجة الذهاب إلى أماكن مكشوفة من مدارس وأسواق، ثم تجد المرأة والسائق أصبح بينهما من العلاقة ما لا يوجد مثلها بين الرجل وزوجته. أقصد من حيث كثرة الحديث معه، وإسقاط هيبة الحديث مع الأجنبي. وكم من الحوادث الدامية وقعت بسبب تفريط الرجل في عرضه بحجة الثقة؟ يا رب عفوك! أوَ يُوثق في النار إذا جاورت الحطب؟ أَوَ يثِق مسلم بخلوة محرمه مع أجنبي بعد حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" (والحديث صححه الألباني)، فالخلوة عامة في البيت والسيارة والسوق والمتجر ونحوه، ومع ما يوجد من بعض النساء أو الرجال من الورع والخوف من الله وكراهية المعصية والخيانة فإن الشيطان يتدخل بينهما ويهون عليهما أمر الذنب ويفتح لهما أبواب الحيل فالبعد عن ذلك أحفظ وأسلم كما أفتى بذلك العلماء الأجلاء.
وشبيه بذلك أن تترك المرأة تعمل أو تدرس في بلد لا محرم لها فيه، ويقوم بتوصيلها سائق أجنبي عنها، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ؟ فَقَالَ: "اخْرُجْ مَعَهَا" (رواه البخاري).
وإني لأناشد كل من لديه بنت أو زوجة أو امرأة من محارمه تدرس أو تعمل خارج بلده، وأخاطب غيرتهم وكرامتهم: أن يتقوا الله في أعراضهم، فإما أن يذهبوا مع نسائهم وبناتهم، أو يعودوا بهن إليهم، فالحياة ليست كلها أموال ووظائف ودرجات علمية، والعِرْض لا يعوَّض، والثقة لها حدود، ومن تثق في دينه وإيمانه لا تثق في أن يسول له الشيطان الرجيم، فكم عفيف سقط في وهدة الجريمة الخُلقية في لحظة ضعف، فكيف بامرأة ضعيفة يبعد عنها زوجها مسيرة كذا وكذا، وإن كنا نعلم بوجد الحرات العفيفات اللاتي يؤثرن الموت الزؤام على اقتراب رجل منهن، وهن الأصل في مجتمعنا المبارك، ولكني أتحدث عن الضعف البشري، والفتنة التي لا تؤمن على بشر.
أسأل الله -تعالى- أن ينشر ستره على عباده، توبوا إلى الله واستغفروه.
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن للاختلاط آثار سلبية كثيرة، منها: ضعفُ الحجاب والوقوعُ في التبرج من بعض النساء؛ فإن المرأة ضعيفة: "عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ" (أخرجه الترمذي بسند صحيح)، فأول الأمر نقاب، ثم لثام ومكياج خفيف، ثم كشف الناصية، ثم كشف الوجه، ثم كشف الرأس كاملاً.
وقد حدث ذلك في بلاد مجاورة لنا، وبدأ فعلاً في بلادنا -أجارنا الله-.
والتدرج يحصل كذلك في نوع اللباس من اللون الأسود إلى الألوان الزاهية الجميلة ومن الساتر إلى السافر.
أيها الإخوة المؤمنون: لنعلم جميعًا أن الخير كل الخير في الأخذ بهذا الدين العظيم والعمل به في كل جوانب الحياة، صغيرها وكبيرها كما يريد الله -سبحانه وتعالى-، والخطر كل الخطر، والضياع والخسران هو في البعد عنه وتركه، أو العمل ببعضه وترك بعضه؛ إذ كيف للمسلم أن يطيع الله في الصلاة والزكاة والحج والعمرة والصيام، بينما يعصيه في الأمور الأخرى التي تتعلق بالحياة.
إن مثل هذا التصرف قد بينه الله الحكم فيه بقوله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85].
إن المطلوب منا هو الأخذ بالإسلام كله وليس لنا خيار في ذلك، قال تعالى: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [البقرة: 208].
لهذا فالحذر الحذر من الخلوة بالنساء ولو حتى من الأقارب أو الخدم والسائقين بالنسبة للنساء، ولا ندري أين نحن من قوله تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23]، فكيف يسمح بعض الذكور لنسائهم وبناتهم بالخلوة بالسائق أو الخادم، أين شرفهم؟ وأين شهامتهم؟ وكيف يسمح بعض الرجال لأنفسهم بالخلوة بالخادمات والجلوس معهن؟ وكم سمعنا من حكايات غريبة في هذا المجال -نسأل الله السلامة والعافية- كان منها أن اتصل بي أحد الشباب وأنا لا أعرف من هو، وسألني ماذا يصنع مع الخادمة التي تدخل عليه غرفته وتغريه بنفسها حتى يواقعها، وقد فعل ذلك مرات عديدة، وهو يريد التوبة والتخلص منها. وأما أبواه فهما في غطيط لا يدريان ماذا يحدث في بيتهما. والثقة متورمة في الأولاد وفي الخادمة سواء.
نعم كم من شاب وقع ضحية كلمة مائعة أو ضحكة فاجرة سمعها من أمثال هؤلاء الفاجرات اللاتي فسحنا لبعضهن في دورنا وبين أولادنا وبناتنا ونحن نظن فيهن خيرًا.
ونوع آخر من الاختلاط المحرم حين يسمح بعضنا لبناتهم أو زوجاتهم بحضور حفلات أعراس يدخل فيها العريس مع عروسه إلى داخل مكان فيه نساء أجنبيات وبكامل زينتهن، وروائح العطور تفوح منهن، وقد يكون معه أقرباؤه، وقد يصور الحفل عن طريق الفيديو، وقد ينشر الشريط بين الناس كما حدث ذلك من قبل.
ورغم هذا فبعضهم يعتبر الأمر عاديًا جدًّا، وقد يقول: هذا الأمر لا شيء فيه. وإني -والله- لأقول من هذا المنبر إنه لمنكر عظيم، وخيانة كبرى من هذا الزوج وأهله لأعراض المسلمين الذين أتوا بأهلهم ليفرحوا مع أهله من أجله، وأسأل الله أن يهدي الجميع للصواب، إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله يغار، وإن المؤمن يغار" فأين الغيرة يا أهل الغيرة؟
لنحذر -أيها الإخوة- أن نغتر بأحوال بعض الناس ووقوعهم في هذا البلاء العظيم. فمتابعة الناس في مثل هذه المعاصي أمرٌ خطير؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يكن أحدكم إمعة، إن أحسن الناس أحسن، وإن أساؤوا أساء، ولكن ليوطن نفسه على أن يحسن إذا أحسنوا، وعلى أن يمسك عن الإساءة إذا أساؤوا" نسأل الله أن يصلح البلاد والعباد.
اللهم إنا نعوذ بك من التبرج والاختلاط. ومن كل ما يغضبك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر كل عدو للإسلام والمسلمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، واحم حرمات المسلمين في كل مكان، وارحم ضعفاءهم، وأطعم جائعهم، واكس عاريهم، واحفظ عليهم دينهم وأعراضهم وأموالهم، وأصلح ولاة أمورنا، واحفظهم بحفظك، واكتب على أيديهم الخير لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم اجعل غدونا إليك مقرونا بالتوكل عليك، ورواحنا عنك موصولا بالنجاح منك، اللهم أعذنا من جشع الفقير، وريبة المنافق، وطيشة العجول، وفترة الكسول، وحيلة المستبد، وتهور الغافل، وطمأنينة المغرور.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
واغفر لنا ولوالدينا ولمن لهم حق علينا من المسلمين، ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي