المسلم في هذه الدنيا يطلب مرضاة ربه، ويسعى إلى جناته بالعمل الصالح الخالص لوجهه، وإن لم يكن العمل على هذه الصفة فهو الرياء، الذي حذر الله -عز وجل- ونهى عـنه، وهو من الشرك الأصغر. لكن يخشى إذا تمادى معه الإِنسان أن ينتقل به إلى الشرك الأكبر
الحمد لله، المتعزز بعظمة الربوبية، المتفرد بوحدانية الألوهية، القائم على النفوس بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، أحمده -سبحانه- وأشكره، وهو المتفضل بجزيل آلائه، المنان بسوابغ نعمائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فارتفعت به راية الإِيمان، وانقمع به أهل الأوثان، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله: فاتقوه، والزموا مراقبته، واعلموا أنكم ملاقوه، واستيقظوا من الغفلة، فلا زلتم في دار المهلة، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، وإنكم قادمون على ما قدمتم، ومجزيون على ما أسلفتم، فرحم الله امرءًا تأهب للقدوم على مولاه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاه.
عباد الله: المسلم في هذه الدنيا يطلب مرضاة ربه، ويسعى إلى جناته بالعمل الصالح الخالص لوجهه، وإن لم يكن العمل على هذه الصفة فهو الرياء، الذي حذر الله -عز وجل- ونهى عـنه، وهو من الشرك الأصغر. لكن يخشى إذا تمادى معه الإِنسان أن ينتقل به إلى الشرك الأكبر، ولما كان خلوص العمل من الشرك والرياء شرطًا في قبوله، لا بد أن يحرص المسلم على معرفته؛ ليحذر منه ويبتعد عنه.
والرياء: هو أن يُظهر العبد عبادته أو يحسِّنها ليراه الناس فيمدحونه عليها. قال الحافظ: "الرياء إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها؛ فيحمدونه عليها".
والفرق بين الرياء والسُمعة: أن الرياء لما يُرى من العمل، كالصلاة والصدقة، والسمعة لما يُسمع كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك التحدث به، والشرك في النية، وهو بحر لا ساحل له، فمن أراد بعمله غير وجه الله، أو نوى شيئًا غير التقرب إلى الله وطلب الجزاء منه؛ فقد أشرك في نيته وإرادته، والإِخلاص: أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإراداته ونياته.
قال تعالى في محكم التنزيل: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [الكهف: 110]، يأمر الله -جل وعلا- نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للناس: إنما أنا بشر مثلكم، وهو قَصْر النبي -صلى الله عليه وسلم- على البشرية، فليس لي من الربوبية ولا من الإِلهية شيء، بل ذلك لله وحده لا شريك له، أوحى إليَّ أن توحدوه.
(فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ) يخاف المصير إليه، ويأمل لقاء الله ورؤيته، (فَلْيَعْمَلْ عملاً صالحاً) وهو ما كان موافقًا لشرع الله، مقصودًا به وجهه، (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) أي: لا يرائي بعمله، بل لا بد أن يريد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتُقبل: أن يكون خالصًا لله، وأن يكون صوابًا على شريعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
قال ابن القيم: "أي؛ كما أنه إله واحد لا إله إلا هو، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، فكما تفرد بالإِلهية، يجب أن يتفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء، المقيد بالسنة، والآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث به رسوله -صلى الله عليه وسلم- هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وتضمنت النهي عن الشرك كله، قليله وكثيره، صغيره وكبيره".
وعن أبي هريرة مرفوعًا: "قال الله -تعالى-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم.
أي: أنا أغنى الشركاء عن المشاركة، وذلك أنه لما كان المرائي قاصدًا بعمله الله وغيره، كان قد جعل لله شريكًا، فإذا كان كذلك؛ فالله هو الغني على الإِطلاق، وجميع الخلق فقراء إليه بكل اعتبار، فلا يليق بكرمه وغناه التام أن يقبل العمل الذي جُعِل له فيه شريك، فإن كماله وكرمه وغناه يوجب أن لا يقبل ذلك.
وأخرج أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس: "من صلى يرائي؛ فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، فمن أشرك بي شيئًا فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني".
أي: من قصد بعمله غيري من المخلوقين تركته وشركه، وفي بعض الأصول وشريكه، وبعضها وشركه، ولابن ماجه: "فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك" أي: فمن عمل شيئًا لي ولغيري لم أقبله، بل أتركه لذلك الغير، فعمل المرائي باطل لا ثواب له، ويأثم به.
قال ابن القيم: "وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل: ما شاء وشئت، وهذا من الله ومنك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولـولا الله وأنت لم يكـن كذا وكذا، وقد يكون هذا أكبر بحسب حال قائله ومقصده".
ولا خلاف أن الإِخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذا المتابعة، كما قال الفضيل في قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك: 2] قال: "أخلصه وأصوبه"، فإن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة.
عباد الله: عن أبي سعيد مرفوعًا: "ألا أُخبركم بما هو أَخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟" قالوا: بلى يا رسول الهك؛ قال: "الشرك الخفي يقوم الرجل فيُصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" رواه أحمد.
حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته من فتنة المسيح الدجال، وبين أنه رجل كذاب كافر، يخرج في آخر الزمان، ويدعي الربوبية ويحصل على يديه خوارق كثيرة، فيغتر به كثير من الناس ويتبعونه، ويطوف جميع البلاد عدا مكة والمدينة، ثم يقتله عيسى -عليه السلام-، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله منه في صلاته فيقول: "وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال" رواه البخاري.
وأمر بالاستعاذة منه في آخر كل صلاة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تشهد أحدكم فليتعوذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال" رواه مسلم.
وفي هذه دلالة على شفقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أمته، وأنه يخافه عليهم خوفًا عظيمًا، وكان -صلى الله عليه وسلم- يخاف على أصحابه وأمته من الدجال، فأنذرهم وحذرهم منه، إلا أنَّه بين في هذا الحديث ما هو أخوف عليهم من المسيح الدجـال، وهو الشرك الخفي: لأنَّه في القلوب لا يطلع عليه الناس، وهو من الشرك الأصغر.
وقد فسره -صلى الله عليه وسلم- بأنه: أن يقوم الرجل فيُصلي، فيُحسن صلاته بطول القيام والطمأنينة ونحو ذلك، يقصد بذلك ثناء الناس ومدحهم، وأفاد الحديث: قبح الرياء، وأنه شرك، وقد خافه -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه مع قوة إيمانهم وعلمهم، فكيف لا يخافه من هو دونهم بمراتب لا تحصى؟!
والعمل إذا خالطه الرياء لا يخلو من إحدى حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون الباعث للعمل هو الرياء والسمعة، فهذا باطل من أصله.
والحالة الثانية: أن يكون العمل لله ثم يطرأ عليه الرياء.
فإن جاهد نفسه ودافعه، فهذا لا يضره ولا يكون مرائيًا؛ وإن لم يجاهد نفسه واسترسل فيه، فهذا يُحبط ما قارنه من العمل.
وليس من الرياء أن يعمل المسلم عملاً خالصًا لوجه الله -تعالى-، ثم يُلقي الله له في قلوب المؤمنين محبته والثناء عليه، فيفرح بفضل الله ورحمته ويستبشر بذلك، فقد سُئل -صلى الله عليه وسلم-: "أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ وفي رواية: "ويحبه الناس عليه؟ فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" رواه مسلم.
قال النووي -رحمه الله-: "قال العلماء: معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير هي دليل رضا الله عنه ومحبته له، فيحببه إلى الخلق، وهذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض لحمدهم وإلا فالتعرض مذموم".
وقال الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "وليس من الرياء أن يفرح الإِنسان بعلم الناس بعبادته؛ لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162 – 163]
بارك الله لي ولكم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالرياء آفة عظيمة، ويحتاج إلى علاج شديد وتمرين النفس على الإِخلاص، ومجاهدتها على ذلك؛ ومن طرق علاجه للتخلص منه:
مجاهدة النفس في الخلاص من الرياء، ولا يضر صاحبه ما دام كارهًا له، وكذلك تذكر عظمة الله وجلاله واستحقاقه العبادة له وحده، ومعرفة خطورة الرياء؛ إذ أنه يُحبط العمل الذي قارنه ويأثم صاحبه.
ومما يُعين على التخلص منه: تذكر الموت وسكراته، والقبر وظلمته، واليوم الآخر وأهواله.
والملجأ والمهرب إلى الله -عز وجل- بالدعاء والالتجاء إليه، فقد ورد في الحديث الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه" رواه أحمد.
إن من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة: أن يرى سعيه ضائعًا بسبب فقد الإِخلاص، وقد سعُدَ أهل الإِخلاص بأعمالهم، فالواجب على المسلم إخلاص العبادة لله وحده، فالله غني كريم لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغُي به وجهه.
هذا، وصلوا وسلموا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي