العوازل الحرارية

محمد بن إبراهيم النعيم
عناصر الخطبة
  1. كُرَبُ الحشر من شمسٍ وعرَقٍ وانتظار طويل .
  2. أعمالٌ تقي صاحبها يوم الحشر من الحرّ .

اقتباس

إن الناس اليوم يحرصون على وضع عوازلَ حراريةٍ في بيوتهم لِتَقِيهم حرَّ شمسِ الظهيرة... وها هو رسولنا –صلى الله عليه وسلم- يخبرنا -وهو الصادق المصدوق- أننا سنحشر يوم القيامة ليوم مقداره خمسون ألف سنة تحت أشعة شمسٍ حارقةٍ لا تغْرُب أبدًا؛ فماذا أعددنا لذلك اليوم من عوازل حرارية؟.

الخطبة الأولى:

إن يوم القيامة يومٌ شديد، مليء بالكُرَب والأهوال، كُرَبٌ ستشيب منها الولدان، ويفر المرء فيها من الأهل والخلان.
فمن الكُرب التي سيواجِهُها الناسُ يوم القيامة؛ كَرْب الإغْراقِ بالعرق؛ فقد جاء في الحديث الصحيح أن الناس يحشرون يوم القيامة "حفاة عراة غرلا"، أي: غير مختونين،"في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة".
وقد روى عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: تلا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الآية: (يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ) [المطففين:6]، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "كيف إذا جمعكم الله كما يُجمَع النَّبْلُ من الكِنانة خمسين ألف سنة ثم لا ينظر إليكم؟" رواه الحاكم .
والذي سيزيد هذا الكَرب شدة الوقوف والانتظار تحت لهيب شمسٍ ستقترب من الرؤوس بمقدار ميل؛ حتى يغرق الناس بعرقهم، والعياذ بالله من ذلك الحال والمقام! فقد روى المِقْداد بن عمرو –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق؛ حتى تكون منهم كمقدار ميل؛ فيكون الناس على قَدْر أعمالهم في العَرق، فمنهم من يكونُ إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقويه، ومنهم من يُلجِمُه العرق إلجامًا"، وأشار رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بيده إلى فِيه. رواه الإمام مسلم.
ويزداد كَرْب الناس وضَنْكُهم بالعَرق ما لا يطيقون، إذ يغوصُ عَرقُهم في الأرض سبعين ذراعًا ثم يرتفع فيَصلُ عند بعضهم حتى رؤوسهم؛ فقد روى أبو هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهبَ عرقهم إلى الأرض سبعين ذراعًا، ويُلجِمُهم حتى يبلغ آذانهم" رواه البخاري.
فماذا أعددنا لذلك الكَرب الشديد من عمل؟! إن الناس في فصل الصيف لا يطيقون حرارة الشمس ويتذمرون منها؛ فتراهم يهربون من وهجها وحرارتها إلى أماكن الظل؛ سواء أكانت تلك الأماكن تحت مظلة أو شجرة أو سيارة، وقد يبقون في البيت أو يسيحون في بلاد باردة.
وإنك تسمع الناس، يوصي بعضهم بعضًا، بعدم المشي في الشمس لكيلا يتعرضَ الواحد منهم لضربة شمس تُخِلُّ بدماغه؛ بل ويُوصَى دوليًا وعلى مستوى العالم عبر منظمات حقوق الإنسان بمنع تشغيل العمال ميدانيًا، إذا تجاوزت الحرارة خمسين درجة مئوية؛ حفاظًا على صحة الإنسان وعقله من حرارة الشمس الشديدة والملتهبة صيفًا، ونسي أولئك الناس أن هذه الشمس التي يهربون منها سيلاقونها يوم القيامة بأشدّ وأقرب ما يكون!.
ألا ينبغي أن نسأل عما يقينا من حر تلك الشمس التي سنقف تحت وهجها ليس ليوم أو يومين ولا لسنة أو سنتين، وإنما لخمسين ألف سنة؟ نعم! لخمسين ألف سنة، حتى إنه رُوي أن الناس في ذلك اليوم يتمنون لو بدئ بالحساب ليستريحوا من هَمِّ ما هُمْ فيه، ولو ذُهِبَ بهم إلى النار؛ عياذًا بالله من ذلك المقام! فماذا أعددنا لذلك الكرب الشديد من عمل؟!.
إن الناس اليوم يحرصون على وضع عوازلَ حراريةٍ في بيوتهم لِتَقِيهم حرَّ شمسِ الظهيرة؛ لِيَنْعموا بجوّ بارد منعِش طوال يومهم، وإن الواحد منّا إذا قرّر بناء منزل تراه يبحث عن أفضلِ وأجودِ العوازلِ الحراريةِ التي توضع في الجدران، والتي توضع على الأسطح، ولو كلّفه ذلك عشرات الآلاف من الريالات؛ وفوق ذلك كله تراه يضع المُكيِّفات المركزية في كل البيت؛ ليعيش في جو بارد وهادئ لا يعرف فيه الحرارة؛ كل ذلك من أجل أن يتقي حَرّ شمسٍ تبعُد عنا مسافة تُقدَّر بحوالي ثلاثة وتسعين مليون ميل، ولا تستغرقُ ذروةُ أشعتِها أكثر من ثمانِ ساعات يوميًا على سطح الأرض، خلال فصل الصيف.

ولو حسب إجمالي هذه المدة بمتوسط عمر الإنسان نجد أنها لا تزيد على ثمانِ سنوات متواصلة؛ ومع ذلك يدفع الإنسان مبالغَ طائلة تصل إلى عشرات الآلاف ليتقي حر هذه الشمس.
وها هو رسولنا –صلى الله عليه وسلم- يخبرنا -وهو الصادق المصدوق- أننا سنحشر يوم القيامة ليوم مقداره خمسون ألف سنة تحت أشعة شمسٍ حارقةٍ لا تغْرُب أبدًا؛ فماذا أعددنا لذلك اليوم من عوازل حرارية؟.
ألا يجدرُ بنا أن نسأل عن عوازلَ تقينا شمسَ الآخرة؟! وما هي العوازل التي يمكنها مقاومة حرارة تلك الشمس يا ترى؛ التي ستقترب منا بمقدار ميل؟! والميل الشرعي يُقدّر بحوالي أربعة آلاف ذراعًا. وهل يمكن أن ننقل معنا العوازل الحرارية التي صنعناها في دنيانا؟.

هل سألت -أخي المصلي- عن الأعمال والعوازل التي تنجّي صاحبَها من حر شمس يوم القيامة، وتحفظه في ظل الله، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه؟ إنها عوازلُ أخبر بها رسولنا الكريم –صلى الله عليه وسلم-، هي أعمالٌ صالحة أُمِرْنا بالتحلّي بها لنستظلّ بسببها تحت ظل عرش الرحمن في ذلك اليوم العصيب؛ ومن استظل تحت ظل العرش، سيمر عليه يوم القيامة كقَدْرِ الانتظار ما بين الظهر والعصر! فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يوم القيامة على المؤمنين كقدْر ما بين الظهر والعصر".
أيها الإخوة الحضور: إذا كنتم تسألون عن أفضل العوازلِ الحرارية لبيوتكم، فإني سأنبئكم عن أفضل عوازل حراريةٍ ضد شمس يوم القيامة.
سأذكر لكم طرفًا من الأعمال الموجبة لظل عرش الرحمن؛ لعلنا نسارع إليها بعد أن أدركْنا وتصورْنا وآمنا بأهميتها يوم القيامة.
العازل الأول: إنظارُ المعسِر حتى يسدد دينه أو تخفف الدين عنه؛ فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من أنظر معسرًا، أو وضع له، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه" رواه الإمام أحمد والترمذي. وفي رواية أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أول من يستظلُّ في ظل الله يوم القيامة لرَجُلُ أنظر معسرًا، أو تصدق عنه" رواه الطبراني بإسناد حسن. وروى أبو قتادة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ نَفَّسَ عن غزيمه أو مَحَا عنه؛ كان في ظل العرش يوم القيامة" رواه الإمام مسلم.
العازل الثاني: الجهاد في سبيل الله بالمال؛ فقد روى سَهل بن حُنَيف عن أبيه –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من أعان مجاهدًا في سبيل الله، أو غارمًا في عُسْرَتِه، أو مكاتَبًا في رَقَبَتِه، أظله الله يوم لا ظل إلا ظله" رواه أحمد والحاكم.
العازل الثالث: التحابّ في الله -عز وجل- وليس لأجل مصلحة دنيوية؛ فقد روى أبو هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله -تعالى- يوم القيامة: أين المتحابون لجلالي؟ اليوم أظِلُّهم في ظلِّي يوم لا ظل إلا ظلي" رواه الإمام مسلم. وروى معاذ بن جبل –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يومَ لا ظلَّ إلا ظله" رواه أحمد، والطبراني.
العازل الرابع: حفظُ سورتي البقرة وآل عمران؛ فقد روى بُرَيْدَة الأسْلَمي –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "تعلموا البقرةَ وآلَ عمران؛ فإنهما الزَّهْراوان، يُظلاّن صاحبَهما يوم القيامة كأنهما غَمامَتان أو غَيايَتان أو فِرقان من طيرٍ صوافّ" رواه الإمام أحمد.
وروى النواس بن سمعان –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-قال: "يأتي القرآنُ وأهلهُ الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمُه سورةُ البقرة وآلُ عمران يأتيان كأنهما غَيايتَان وبينهما شَرْقُ أو كأنهما غَمامَتان سَوداوان، أو كأنهما ظُلَّتان من طَيرٍ صَوَافَّ يجادلان عن صاحبهما" رواه الإمام مسلم.
فاحفظ -أخي المصلي- هاتين السورتين بدلاً من حفظ الأغاني التي لا تزيد القلب إلا نفاقًا وفسقًا وبعدًا عن الله.
العازل الخامس: الصدقة على الفقراء والمحتاجين؛ فقد روى عُقْبَة بن عامر –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "الرجل في ظل صدقته حتى يُقْضَى بين الناس" رواه أحمد وابن خزيمة. وفي رواية قال–صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ امرئ في ظلّ صدقتِه حتى يُقضى بين الناس".
فَحَرِيٌّ بكل مسلم أن يكثر من الصدقات ليستظل بها في يومٍ شديدٌ كرُبه؛ يغرق فيه الناسُ في عَرقهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية:


الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا خسارة إلا على المتقاعسين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصَفِيُّه من خلقه؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وسارعوا إلى مرضاة الله، وإلى الأعمال التي ستنجيكم من كُرب يوم القيامة؛ فإن رسولنا –صلى الله عليه وسلم- لم يذكرْها لنا إلا رحمة بنا لعلنا نتشبث بها؛ فإن كل أمر وكل عمل أمرنا الله ورسوله به في الدنيا، فإنه فضل ومنجاة لنا من كرب يوم القيامة.
ولقد ذكرت لكم خمسة أعمال؛ ستنجي أصحابها من كُرب الإغراق وتظله في ظل عرش الرحمن، ولا يزال هناك مزيد من الأعمال والعوازل؛ التي تنتظر من يشتريها ويعمل بها؛ فإن الأمر جِدٌّ وليس بالهزل.
أما العازل السادس: حكم الرعية بالعدل.

والعازل السابع: تنشئة الشاب على طاعة الله.
والعازل الثامن: تعلق القلب ببيوت الله.

والعازل التاسع: تجنب دواعي الزنا التي تبثها بعض وسائل الإعلام ليلَ نهار.
والعازل العاشر: البكاء عند ذكر الله -عز وجل-.
والعازل الحادي عشر: إخلاص العمل لله وخشيته.
ويجمع هذه الأعمال الجليلة حديث واحد رواه أبو هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبهُ معلَّقٌ بالمسجد إذا خرج منه حتى يعودَ إليه، ورجلان تحابَّا في الله فاجْتَمَعا على ذلك و افْترقا عليه، ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأةٌ ذاتُ منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِمالُه ما تنفق يمينُه" رواه البخاري ومسلم.
إنها لأعمال جليلة يستحق كل عمل منها وقفة بل خطبة كاملة.
فحري بك أخي المصلي، يا من تحرص على عدم التعرض للهيب الشمس المحرقة في الدنيا، وتوصي أبناءك بذلك؛ أن تحرص كل الحرص على أن تقي نفسك وأهلك حر هذه الشمس يوم القيامة؛ قال أبو موسى الأشعري –رضي الله عنه-: "الشمس فوق رؤوس الناس يوم القيامة، وأعمالهم تظللهم وتصحبهم".
هذه بعض الأعمال التي تظلل صاحبها، وتعزله من حر شمس يوم القيامة، فالأمر جد خطير ولا وقت للمسلم ليضيعه فيما لا ينفع، (فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَـٰبَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوٰزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوٰزِينُهُ فأُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـٰلِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ ءايَـٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ * قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ *رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ * قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرحِمِينَ * فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِى جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ) [المؤمنون:101-111].
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الدين...

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي