"برِّدْ عليهم"، شعار حاول أن تلتزمه خلال هذه الإجازة، أو خلال هذا الشهر، أو خلال هذا الأسبوع، أو خلال يوم واحد على الأقل؛ لنقدم أفضل صدقة يحبها الله -تعالى-: صدقة الماء. فـ "برد عليهم"، أي: بردوا على العمالة بسقيهم الماء البارد، و"برد عليهم"، أي: بردوا على أمواتكم وعلى أنفسكم بالصدقة عنهم وعن أنفسكم؛ لأن الصدقة تطفئ عن أهلها حر القبور.
من نعم الله -تعالى- على العبد أن يرزقه منبرا إعلاميا ليبث من خلاله الخير، وُيعلمَ الناس ما ينفعهم ويقربهم إلى ربهم.
وتتفاوت هذه المنابر الإعلامية في الأهمية بتفاوت أعداد من يشاهدونها أو يسمعونها، فمن المنابر من يشاهدها ملايين الناس كمثل القنوات الفضائية، ومن المنابر من يقرؤها آلاف الناس كمثل الصحف اليومية، ومن المنابر من يسمعها مئات الناس كمثل منبر الجمعة، ولكن بعض أولئك الناس الذين تبوؤوا تلك المنابر، أساؤوا استخدامها، وضيعوا عليهم فرصة جمع ملايين الحسنات، لأنهم بثوا من خلالها الفساد والخنا، وحاربوا الدين والفضيلة، فجمعوا لأنفسهم ملايين السيئات؛ لتكون عليهم وزرا ووبالا يوم القيامة.
إن كلمة واحدة طيبة من رضوان الله يبثها المرء عبر هذه المنابر، قد يحصد منها ملايين الحسنات، وإن كلمة واحدة من سخط الله، أو صورة خالعة يبثها عبر هذه المنابر، تجر عليه ملايين السيئات بعدد من رآها وأعاد نشرها.
فما أكثر الحمقى من أولئك الذين تراهم يعرضون صورا لممثلات ومغنيات وعارضات أزياء! ويكتبون موضوعات تافهة لا تهم المجتمع المسلم ولا تغرس فيه فضيلة.
قرأت مرة -بل مرات عديدة- في بعض الصحف: الممثلة الفلانية تضع مولودها الأول، المطربة الفلانية تستعد لإصدار ألبومها الغنائي، وغيرها من موضوعات تضر ولا تنفع، وتضل ولا تهدي، وتهدم ولا تبني.
ولكن رأيت مرة صورة ملونة معبرة أعجبتني، وضعت في الصفحة الأولى من إحدى الصحف المحلية، كتب عليها جملة قصيرة من كلمتين اثنتين معبرتين، ولكنهما أغنتا عن مقالة مطولة، وخطبة منمقة، أسأل الله -تعالى- أن يثيب واضعها، وأن يكثر من أمثاله، وهي التي دعتني أن أجعل خطبة الجمعة عنها. أتدرون ما هاتان الكلمتان؟ "برِّدْ عليهم"، ماذا يُقصد بها؟ وما مغزاها؟.
إنها كلمة قصيرة المبنى، كبيرة المعنى، كتبت أسفل صورة ملونة لرجل ممسكٍ بزجاجةِ ماء، ويقدمها لأحد العمالة الذي كان يعمل في عز الظهيرة تحت أشعة الشمس المحرقة؛ وكأنه يقول لنا: "برِّدْ عليهم" بإعطائهم الماء البارد، "برِّدْ عليهم" بالتصدق بالماء البارد، فهو أفضل الصدقات في هذا الموسم الحار. وهذا صحيح.
"برِّدْ عليهم" شعار جميل، دعونا نلتزمه خلال هذه الإجازة، أو خلال هذا الشهر، أو خلال هذا الأسبوع، أو خلال يوم واحد على الأقل؛ لنقدم أفضل صدقة يحبها الله -تعالى-: صدقة الماء.
لنبرد على العمالة التي تعمل في الميدان في عز الظهيرة، خصوصا أننا نمر بطقس حار جدا تصل فيه درجة الحرارة إلى أكثر من خمسين درجة.
أتدرون ما أول النعم التي سيسألُ عنها المرءُ يومَ القيامة؟ إنهما أمرانِ مهمانِ يغفلُ عنهما الكثير: الصحةُ والماءُ البارد، هل تصدقون ذلك؟ دعونا نسمع حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ماذا يقول لنا؟ وما دلالة ذلك؟ عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ العبد يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيَكَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟" رواه الترمذي والحاكم. وفي رواية أخرى له أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أولَ ما يحاسبُ به العبدُ يومَ القيامةِ أن يقالَ له: ألم أصح لك جِسمك وأروِّك من الماء البارد؟" رواه ابن حبان.
إننا نرفل في نعم الله، ولله الحمد، وإن نعم الله -تعالى- على عباده تترا ولا تحصى؛ لقوله -تعالى-: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل:18]، هذه النعم سنسأل عنها بلا شك. فعن الزبير بن العوام –رضي الله عنه- قال: لما نزلت: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم)، قال الزبير: يا رسول الله، فأي النعيم نسأل عنه وإنما هو الأسودان التمر والماء؟ قال: "أما إنه سيكون" رواه الترمذي.
وعندما جاء جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- برطب وماء للنبي –صلى الله عليه وسلم- فأكلوا وشربوا قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "هذا من النعيم الذي تسألون عنه" رواه النسائي.
فكيف سيكون حالنا ونحن نجلس على موائد بها عشرات الأصناف من الطعام وبعضنا قد لا يحمد الله عليها، والبعض قد لا يعرف حتى دعاء الطعام، والبعض قد يشكر الناس على حسن الضيافة والإطعام بقوله: سفرة دائمة، أو: الله ينعم عليكم، وينسى أن يشكرَ الله -تعالى-؟!.
فقد قال –صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ" رواه أحمد وأبو داود، بل إن من وسائل كسب رضا الله -تعالى- أن تحمده على الأكل والشرب، حيث قال –صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا" رواه مسلم.
والبعض قد يحمد الله -تعالى- على الطعام بلسانه، ولكنه يكفر بالنعمة بعمله؛ وذلك بإسرافه فيه.
ولكن أول النعم التي سنسأل عنها يوم القيامة الصحة والماء البارد. هذا ما أخبرنا به النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ العبد يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوّيَكَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟".
إن أقربَ النعمِ الظاهرةِ لدينا: أجسامُنا، فهل تفكرنا في هذه النعمة؟ ومن نعم الله على العبد في جسمه إلباسه ثوبَ الصحة؛ لأن الصحة عون للعبد على الطاعة، فقد قال: –صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" رواه البخاري، ومعنى مغبون، أي: خاسر محروم الأجر، فمن سخر صحة بدنه وفراغه في طاعة الله فهو المغبوط، ومن أساء استخدامهما وسخرها في غير ذلك فهو المغبون. فهل اغتنمت صحة بدنك خاصة فترة الشباب؟
وهل اغتنمت شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك؟ فكل هذه نعم أُمرنا باغتنامها؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم-: "اغتنم خمسا قبل خمس".
ومن أراد أن يعرف نعمة الصحة فلينظر إلى المصابين بشتى الأمراض، وليزر المستشفيات، لا سيما أن النبي –صلى الله عليه وسلم- حثنا على عيادة المرضى وأخبر بأن الله -تعالى- يوكل سبعين ألف ملك يستغفرون طوال اليوم لمن عاد مريضا. فمن وسائل شكر نعمة الصحة إذاً: استغلال هذا البدن وهذه الصحة في مرضاة الله -تعالى-.
ثانيا: أن تؤدي صدقة يومية بعدد مفاصلك شكرا لله -تعالى- على هذه النعمة، فقد روى أبو بريدة –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلا، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة، قالوا: ومن يطيق ذلك يا نبي الله؟ قال: النخاعة في المسجد تدفنها، والشيء تنحيه عن الطريق، فإن لم تجد فركعتا الضحى تجزئك" رواه أحمد وأبو داود.
ثالثا: من وسائل شكر نعمة الصحة أن إذا رأيت مبتلى؛ أن تقول الدعاء المأثور الذي رواه أبو هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رأى أحدكم مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني عليك وعلى كثير من عباده تفضيلا، كان شكر تلك النعمة" رواه البيهقي.
هذه هي النعمة الأولى التي سنسأل عنها يوم القيامة، أما النعمة الثانية فهي الماء البارد، والماء البارد لا غنى لنا عنه خاصة في بلادنا الحارة، فنحن نشربه من البرادات كل يوم، وكثير من الناس لا يقدر هذه النعمة قدرها، ويغفل عن حمد الله -تعالى- عقب شربه.
فقد روى أبو هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مِنْ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ظِلٌّ بَارِدٌ، وَرُطَبٌ طَيِّبٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ" رواه الترمذي.
وعَنْ أَبِي عَسِيبٍ –رضي الله عنه- قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- لَيْلاً فَمَرَّ بِي فَدَعَانِي إِلَيْهِ فَخَرَجْتُ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الأَنْصَارِ-أي: بستانا- فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: "أَطْعِمْنَا بُسْرًا"، فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ فَقَالَ: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ الْعِذْقَ فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَئِنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: خِرْقَةٍ كَفَّ بِهَا الرَّجُلُ عَوْرَتَهُ، أَوْ كِسْرَةٍ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ حَجَرٍ يَتَدَخَّلُ فِيهِ مِنْ الْحَرِّ وَالْقُرِّ" رواه أحمد.
وجاء رجل إلى الحسن البصري فقال: إن لي جارا لا يأكل الفالوذج –نوع من أنواع الحلوى- فقال: ولِمَ؟ قال: يقول: لا يؤدي شكره، فقال الحسن: أفيشرب الماء البارد؟ فقال: نعم، فقال: إن جارك جاهل، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد، أكثر من نعمته عليه في الفالوذج.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عقيل بن شهر الرياحي قال: شرب عبد الله بن عمر ماء باردا فبكى، فاشتد بكاؤه، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت آية في كتاب الله: (أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله)، فعرفت أن أهل النار لا يشتهون إلا الماء البارد، وقد قال الله -عز وجل-: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون)!.
فالماء البارد أول النعم التي سنسأل عنها يوم القيامة، فهل تفكرنا بهذا كلما شربنا كأس ماء بارد؟ وإذا كنا سنسأل عن نعمة الماء البارد، فما نقول في بقية النعم التي نرفل فيها؟ أدع لكم الجواب، لتزدادوا شكرا وحمدا لرب الأرباب.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البيان والحكمة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى-، واعرفوا نعم الله -تعالى- عليكم، وأدوا شكرها، وإننا نمر بموسم صيفي حار، وقد أخبرنا النبي –صلى الله عليه وسلم- بأن أفضل الصدقة الماء، فلنغتنم هذه الفرصة لنتصدق بالماء، خصوصا الماء البارد، على العمالة التي في الشوارع، إنها لفرصة لنتقرب إلى ربنا -عز وجل- بأحب الصدقات إليه في هذا الموسم، فتصدقوا عن أنفسكم، وتصدقوا عن أمواتكم، وعن آبائكم وأمهاتكم، فقد روى عقبة بن عامر –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور" رواه الطبراني.
وقد روى سعد بن عبادة –رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: (الماء)، فحفر بئرا وقال: هذه لأم سعد، رواه أبو داود والنسائي.
وروى أبو هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس صدقة أعظم أجرا من ماء" رواه البيهقي.
حاول أنت مع بعض أقربائك أن تساهموا في حفر بئر في إحدى الدول الإسلامية الفقيرة، فلن يكلفك الكثير، ولكن سيدر عليك من الحسنات الكثير التي قد تمتد إلى بعد وفاتك.
"برِّدْ عليهم"، شعار حاول أن تلتزمه خلال هذه الإجازة، أو خلال هذا الشهر، أو خلال هذا الأسبوع، أو خلال يوم واحد على الأقل؛ لنقدم أفضل صدقة يحبها الله -تعالى-: صدقة الماء. فـ "برد عليهم"، أي: بردوا على العمالة بسقيهم الماء البارد، و"برد عليهم"، أي: بردوا على أمواتكم وعلى أنفسكم بالصدقة عنهم وعن أنفسكم؛ لأن الصدقة تطفئ عن أهلها حر القبور.
أسأل الله -تعالى- أن يبرد علينا جميعا وأن يبلغنا حب الله -تعالى-.
اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا ومن الماء البارد، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي