ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان

عبد الملك بن محمد القاسم
عناصر الخطبة
  1. عبادة اليهود للأوثان .
  2. غلو النصارى في تعظيم صالحي أهل الكهف .
  3. النهي عن التشبه باليهود والنصارى .
  4. الدروس والعبر من حديثي المعجزات .

اقتباس

ثم بعثهم الله -سبحانه- من نومتهم الطويلة؛ فاطلع الناس على أمرهم وبقوا على قيد الحياة زمنًا، ثم توفاهم الله بعد ذلك، فاختلف الناس في أمرهم، فقال أصحاب الكلمة والنفوذ: لنتخذن عليهم مسجدًا؛ ليُعْرَفوا فيقصدهم الناس ويتبركون بهم، وفي هذه القصة بيان لغلو النصارى في تعظيم الصالحين ببناء المساجد على قبورهم؛ ليتذكروهم ويتأسوا بهم، إلى أن أدى بهم هذا الغلو إلى عبادتهم من دون الله

 

 

 

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، وراقبوه في السر والعلن.

أيها المسلمون: إن التوحيد هو أوجب الواجبات، والشرك أعظم المحرمات، فالواجب الحذر منه واجتنابه، كيف لا؟! وقد ورد في بعض الآيات والأحاديث أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان؛ فمن دعا غير الله أو عبده؛ فقد اتخذه وثنًا وخرج بذلك من الدين، ولم ينفعه انتسابه إلى الإِسلام؛ فكم انتسب إلى الإِسلام من مُشرك وملحد وكافر ومنافق، والعبرة بروح الدين وحقيقته، لا بمجرد الأسامي والألفاظ التي لا حقيقة لها.

تأملوا -رحمكم الله- قول الله -عز وجل- في كتابه الكريم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) [النساء: 51]

نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف وحيي بن الأخطب -وهما من علماء اليهود- لما قدما إلى أهل مكة، فسألوهم: "أنتم أهل الكتاب وأهـل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد؟ فقالا لهم: أنتم خير وأهدى سبيلاً، قالا ذلك بغيًا وحسدًا، وإلا فهما يعلمان أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على الحق، فأنزل الله -سبحانه-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً)".

ويخبر الله -سبحانه- نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- عن اليهود الذين أعطوا علمًا من كتاب الله وهما التوراة والإِنجيل، وما فيهما من استحقاق الله وحده للعبادة ومع ذلك يصدقون بالباطل من عبادة الأصنام، والكهانة، والسحر، يطيعون الشيطان في ذلك، ويفضلون أهل الباطل على أهل الحق حسدًا وبغيًا، وفي هذا ذمٌ لهم وتحذير لنا أن نصنع كما صنعوا.

وقال -سبحانه وتعالى-: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) [المائدة: 60]

أضاع اليهود دينهم، وطعنوا في دين الإِسلام الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادة. فقال الله -سبحانه- لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: قل لهؤلاء العائبين لدينكم: "هل أخبركم بمن ينال شر الجزاء عند الله يوم القيامة؟ هم اليهود الذين لعنهم الله وغضب عليهم غضبًا لا يرضى بعده أبدًا.

وقد عوقب أصحاب السبت منهم بالمسخ إلى قردة وخنازير، وجعل منهم من يعبد الطاغوت من دون الله بالنذر والذبح، والدعاء والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادة، فإذا كان في اليهود من عبد الطاغوت؛ فكذلك يكون في هذه الأمة من يعبد الطاغوت من دون الله".

عباد الله: لما ذكر الله -عز وجل- قصة أصحاب الكهف؛ ذكر قول أصحاب النفوذ والغلبة فيهم؛ قال سبحانه: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا) [الكهف: 21]

قصة أصحاب الكهف -رحمكم الله- قصة عظيمة جديرة بالتأمل والتفكر، فأصحاب الكهف فتية صالحون فروا بدينهم من قومهم المشركين لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا منهم ولجؤوا إلى الكهف، ناموا فيه تسع سنين وثلاثمائة سنة، وهذه من آيات الله العجيبة، فهم نائمون لا يحتاجون إلى أكل وشرب، ومن حكمة الله أنه يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال.

ثم بعثهم الله -سبحانه- من نومتهم الطويلة؛ فاطلع الناس على أمرهم وبقوا على قيد الحياة زمنًا، ثم توفاهم الله بعد ذلك، فاختلف الناس في أمرهم، فقال أصحاب الكلمة والنفوذ: لنتخذن عليهم مسجدًا؛ ليُعْرَفوا فيقصدهم الناس ويتبركون بهم، وفي هذه القصة بيان لغلو النصارى في تعظيم الصالحين ببناء المساجد على قبورهم ليتذكروهم ويتأسوا بهم، إلى أن أدى بهم هذا الغلو إلى عبادتهم من دون الله.

ذمهم الله بذلك تحذيرًا لهذه الأمة أن تسلك طريقة النصارى، وقد وقع في هذه الأمة تعظيم قبور الصالحين ببناء المساجد عليها إلى أن آل الأمر إلى عبادتهم وقد شابهوا بذلك النصارى.

وقد حذر -صلى الله عليه وسلم- أمته أن تتبع طريق من كان قبلها؛ فعن أبي سعيد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة؛ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" رواه البخاري ومسلم.

دل الحديث -عباد الله- على أن ما من شيء يفعله أهل الكتاب مما ذمهم الله به؛ إلا ويفعله جُهال هذه الأمة، وهو خبر معناه النهي عن متابعتهم، وقد وقع ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذه من علامات نبوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعجزاته.

في الحديث الآخر حذر -صلى الله عليه وسلم- من التشبه بالمشركين، فقال: "من تشبه بقوم فهو منهم" لأن التشبه بهم في عباداتهم وعاداتهم يؤدي إلى فساد دين المسلمين ومحبة أعداء الدين وتعظيمهم والإعجاب بما هم عليه.

عباد الله: من المؤسف اتّباع جُهَّال هذه الأمة طريق اليهود والنصارى كعبادة الطاغوت، وتفضيل أهل الباطل على أهل الحق، وتعظيم قبور الصالحين وبناء المساجد عليها، والإِعراض عن كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والإِقبال على كتب البدع والضلال وأكل الربا وأكل السحت، والاحتفال بأعيادهم الباطلة كعيد رأس السنة الميلادية وعيد الحب وعيد الأم وغيرها، واستعمال التاريخ الميلادي بدلاً من التاريخ الهجري، والتشبه بهم في اللباس وقصات الشعر، والحديث بلغتهم لغير حاجة، وغير ذلك؛ حذو القُذة بالقُذة.

فالواجب -عباد الله- الحذر من التشبه باليهود والنصارى، ولزوم الطريق المستقيم مع دعاء الله -سبحانه- بالثبات على هذا الدين إلى يوم أن نلقاه.

ولمسلم عن ثوبان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يُهلكها بسنة بعامة، وأن لا يُسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: "يا محمد إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها؛ حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا" رواه مسلم.

وزاد البرقاني في صحيحه: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يُرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة؛ لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى".

أيها المسلمون: اشتمل هذان الحديثان على أمور وأخبار صادقة ودلائل على نبوته -صلى الله عليه وسلم-:

الأول منها: أن الله زوى الأرض لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- حتى أبصر ما تملكه أمته من أقصى المشارق والمغارب، كما ينظر الإنسان الشيء في المرآة، وقد وقع مصداق ما أخبر به -صلى الله عليه وسلم- وذلك أن مُلك أمته اتسع حتى بلغ من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وأخبر أنه أُعطي الكنزين فوقع كما أخبر؛ فقد حازت أمته مُلكي كسرى وقيصر؛ بما فيهما من الذهب والفضة والجواهر في خلافة عمر -رضي الله عنه- الذي أنفق كنوزهما في سبيل الله.

الثاني: دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وهذا من كمال شفقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأمته أن دعا الله -سبحانه- بدعوتين خيريتين:

الأولى: دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- لربه -جل وعلا- أن لا يُهلك أمته جميعًا بجدب عام، وقد أجاب الله -سبحانه- دعوته، فقد كان في الأمم السابقة كقوم عاد وثمود عذاب الاستئصال بخلاف هذه الأمة، فإنَّ الله قد دفع عنها ذلك ببركة دعاء نبيها -صلى الله عليه وسلم-.

الثانية: دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- لربه -جل وعلا-؛ ألا يسلط عليها عدوًا من الكفار، يستولي على بلادهم، ويستأصل جماعتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض، وقد أجاب الله دعوته ما دامت الأمة مجتنبة الاختلاف والتفرق والتناحر فيما بينها، فإذا وجد ذلك سلط عليهم عدوهم من الكفار، وقد وقع كما أخبر -صلى الله عليه وسلم- حينما تفرقت الأمة.

الثالث: خوفه -صلى الله عليه وسلم- على أمته من الأئمة المضلين: فالأمراء والعلماء والُّعباد هم قادة الناس، وبسببهم يهتدي المهتدون: فالأمراء لأجل رئاستهم، والعلماء لأجل علمهم، والعباد لأجل عبادتهم.

وقد حصر -صلى الله عليه وسلم- خوفه على أمته من هؤلاء الأئمة إذا ضلوا عن طريق الحق، وقد حكى الله -سبحانه- ندامة أهل النار على اتباعهم الأئمة المضلين بقولهم: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب: 67]

الرابع: مما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-: وقوع فتنة القتال في هذه الأمة؛ إذ أخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا وقعت الفتنة والقتال في الأمة فإن ذلك يستمر فيها إلى يوم القيامة، وقد وقع كما أخبر، فمنذ حدثت الفتنة بمقتل عثمان -رضي الله عنه-، وهي مستمرة إلى اليوم.

الخامس: مما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-: ظهور الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة: فقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من هذه الأمة بالمشركين، فيرتدون عن الإِسلام برغبتهم، ويشاركون أهل الشرك في السكنى والإِقامة معهم، ولا تقوم الساعة -أيضًا- حتى يعبد خلق كثير من أمته الأوثان من دون الله، وقد وقع ما أخبر به -صلى الله عليه وسلم-، فعبد جهال هذه الأمة قبور الصالحين وغيرهم بأنواع من العبادة؛ كالذبح والنذر والدعاء والإِستغاثة والطواف وغير ذلك، وسموا ذلك توسلاً وتقربًا إلى الصالحين وهذا باطل، فمن عبد غير الله فقد إتخذه وثنًا، ووقع في الشرك الأكبر، ولا ينفعه انتسابه للإسلام وقول: (لا إله إلا الله).

السادس: مما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-: ظهور مدعي النبوة؛ فقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن ظهور مدعي النبوة وعددهم ثلاثون كذابًا، والمراد ممن تقوم لهم قوة وشوكة وإلا فهم أكثر من ذلك، وقد ظهر مصداق ذلك في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما بعده، فقد ادعى أناس النبوة كمسيلمة الكذاب، ومرزاً غلام القادياني، وغيرهما ممن فضح الله كذبهم وافتراءهم؛ فمحمد -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم النبين لا نبي بعده.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب: 40]

بارك الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

 الحمد لله، من اعتصم بحبله وفقه وهداه، ومن اعتمد عليه حفظه ووقاه، أحمده -سبحانه- وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن سار على نهجه وهداه.

أما بعد: يقول -عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام-: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة؛ لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله -تبارك وتعالى-".

بشر -صلى الله عليه وسلم- هذه الأمة أنه لا تزال فيها طائفة منصورة، حافظة لهذه الشريعة، قائمة بالعلم والجهاد والذب عن الدين، لا يضرهم من خذلهم وترك نصرتهم، ولا يضر ذلك الثابتين على الحق، فإن الله -سبحانه- ناصرهم، كما قال تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]

وهذه الطائفة الثابتة على الحق باقية إلى قيام الساعة، والمقصود إلى قرب قيامها؛ لما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قبض ما بقى من المؤمنين بالريح الطيبة ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الخلق اللذين عليهم تقوم الساعة، نسأل الله أن يجعلنا من الطائفة المنصورة التي تقوم بأمر الدين، وتتمسك به ظاهرًا وباطنًا.

ويتبين لنا بعد هذه الآيات والأحاديث السابقة؛ أن في هذه الأمة من يقع في الشرك بالله وعبادة الأوثان والطواغيت، فالواجب علينا عبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب عبادة الأوثان، وصرف العبادة له وحده دون ما سواه.

هذا، وصلوا وسلموا.

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي