اليهود في القرآن الكريم (1) كثرة ذكر اليهود في القرآن..لماذا؟

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. من اللافت لنظر قارئ القرآن كثرة تناول اليهود فيه .
  2. من الحكم الربانية في كثرة ذكر اليهود في القرآن: تحذير المؤمنين مما وقعوا فيه من العصيان .
  3. تحذير المؤمنين من حيلهم ومكايدهم، وفضح تزويرهم وتلبيسهم .
  4. كَشْفُ تحريفِهم لكتبهم، وتغييرهم لدينهم حسب أهوائهم .
  5. فساد الأمة المغضوب عليها في الأرض حقيقة نطق بها القرآن .

اقتباس

فَسَادُ الْأُمَّةِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهَا فِي الْأَرْضِ حَقِيقَةٌ نَطَقَ بِهَا الْقُرْآنُ وَأَثْبَتَهَا التَّارِيخُ وَالْوَاقِعُ، وَشَهِدَ عَلَيْهَا جَمْعٌ كَبِيرٌ مِنْ سَاسَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي وَصْفِهِمْ: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [الْمَائِدَةِ: 64]، فَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ صِفَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِذْ يُثِيرُونَ الْفِتَنَ، وَيُشْعِلُونَ الْحُرُوبَ، لَا يَقْصِدُونَ إِلَّا السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا.

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ؛ خَلَقَ الْبَشَرَ وَيَعْلَمُ دَخَائِلَ نُفُوسِهِمْ، وَمَكْنُونَ قُلُوبِهِمْ، وَمَا يَنْطَوُونَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ، نَحْمَدُهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْمَدَ؛ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلَى، وَلَا يُحْمَدُ أَحَدٌ كَحَمْدِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمٍ أَتَمَّهَا، وَعَافِيَةٍ أَسْبَغَهَا، وَمِحَنٍ دَفَعَهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِلْمُؤْمِنِينَ هَادِيًا، وَجَعَلَهُ عَلَى الْكُتُبِ مُهَيْمِنًا؛ فَهُوَ يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُ غَيْرُهُ، مَنِ اهْتَدَى بِهِ عَلِمَ وَرَشَدَ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ جَهِلَ وَضَلَّ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ عَالَجَ مَكْرَ الْيَهُودِ وَخُبْثَهُمْ، وَاحْتَمَلَ آذَاهُمْ وَكَيْدَهُمْ، فَأَظْهَرَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ، وَرَدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَكْرُهُمْ وَلَا كَيْدُهُمْ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَالْزَمُوا كِتَابَ رَبِّكُمْ، فَفِيهِ هُدَاكُمْ وَرُشْدُكُمْ، وَهُوَ سَعَادَتُكُمْ وَطُمَأْنِينَتُكُمْ؛ فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ -تَعَالَى- تَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَالْقُرْآنُ أَعْلَى الذِّكْرِ وَأَعْظَمُهُ (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [يس: 69]، وَمِنْ غَايَاتِ إِنْزَالِهِ الْبَيَانُ (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النَّحْلِ: 44]، وَالْبَيَانُ يُرْفَعُ بِهِ الْجَهْلُ، وَيُرَسَّخُ بِهِ الْعِلْمُ، وَبِهِ تَظْهَرُ الْحَقَائِقُ، وَيُكْشَفُ بِهِ كَذِبُ الْأَفَّاكِينَ، وَتَزْوِيرُ الْمُزَوِّرِينَ، وَلَا يُمْكِنُ إِخْفَاءُ مَا فِيهِ مِنَ الْحَقَائِقِ أَوْ مَحْوُهَا أَوْ تَبْدِيلُهَا أَوْ تَغْيِيرُهَا أَوْ تَحْرِيفُهَا، كَمَا تُحَرَّفُ وَتُغَيَّرُ الْمَنَاهِجُ وَالْكُتُبُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِأَمْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- إِلَى حِينِ رَفْعِهِ مِنَ الْأَرْضِ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الْحِجْرِ: 9].

وَمِنَ اللَّافِتِ لِنَظَرِ قَارِئِ الْقُرْآنِ كَثْرَةُ تَنَاوُلِ الْيَهُودِ فِيهِ، وَبَيَانُ أَوْصَافِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَنَقْلُ أَقْوَالِهِمْ وَحِوَارَاتِهِمْ، وَذِكْرُ عَنَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ، وَقَصُّ قَصَصِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، وَتَسْلِيطُ الضَّوْءِ عَلَى كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ؛ كَذِكْرِ حِوَارِهِمْ مَعَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي شَأْنِ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَفِي دُخُولِ الْبَلْدَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَفِي اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ وَجِدَالِهِمْ فِيهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاقِفِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَسْتَرْعِي انْتِبَاهَ قَارِئِ الْقُرْآنِ.

وَمَا كَانَ ذِكْرُ الْيَهُودِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِهَذِهِ الْكَثَافَةِ إِلَّا لِحِكَمٍ أَرَادَهَا اللَّهُ -تَعَالَى-، وَمَصَالِحَ يَجْنِيهَا قُرَّاءُ الْقُرْآنِ الْمُتَدَبِّرُونَ الْعَامِلُونَ. ثُمَّ رَأَيْنَا فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ كَثْرَةَ احْتِكَاكِ الْيَهُودِ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ، وَرَأَيْنَا فِي التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ أَثَرَ الْيَهُودِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سِلْمًا وَحَرْبًا، ثُمَّ رَأَيْنَا وَاقِعَنَا الْمُعَاصِرَ مُثْخَنًا بِالصِّرَاعِ مَعَ الْيَهُودِ؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ ذِكْرِهِمْ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا كَانَ لِلْعِلْمِ بِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى مَنْ يُحَاوِلُونَ تَحْسِينَ صُورَتِهِمْ، وَالتَّعَايُشَ مَعَهُمْ، وَالتَّدْلِيسَ عَلَى النَّاسِ بِقَلْبِ الْحَقَائِقِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَكْشِفُ ذَلِكَ وَيُوَضِّحُهُ، وَهُوَ مَحْفُوظٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَمْحُوَهُ أَوْ يُبَدِّلَهُ.

وَمِنَ الْحِكَمِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي كَثْرَةِ ذِكْرِ الْيَهُودِ فِي الْقُرْآنِ: تَحْذِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْعِصْيَانِ مِمَّا كَانَ سَبَبًا فِي غَضَبِ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ حَتَّى وُصِفُوا فِي الْقُرْآنِ بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الْفَاتِحَةِ: 6- 7].

وَضَرَبَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمُ الذُّلَّ وَالْهَوَانَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ تَمَامَ الظُّهُورِ فِي تَارِيخِهِمُ الطَّوِيلِ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا حِمَايَةَ أَنْفُسِهِمْ فِي أَيِّ حِقْبَةٍ تَارِيخِيَّةٍ؛ بَلْ كَانُوا يَحْتَمُونَ بِغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَقْوُوا وَيَسْتَأْسِدُوا إِلَّا بِسِوَاهُمْ، وَفِي هَذِهِ السُّنَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [الْبَقَرَةِ: 61].

وَلِذَا جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَحْذِيرُنَا مِنْ سُلُوكِ مَسْلَكِهِمْ، وَالِاتِّصَافِ بِصِفَاتِهِمْ؛ لِئَلَّا يُصِيبَنَا مَا أَصَابَهُمْ؛ فَإِنَّ سُنَنَ اللَّهِ -تَعَالَى- لَا تُحَابِي أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، وَمَنْ تِلْكُمُ الْآيَاتِ (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) [آلِ عِمْرَانَ: 105]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) [الْأَحْزَابِ: 69]، (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الْحَدِيدِ: 16]، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِنَ الْحِكَمِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي كَثْرَةِ ذِكْرِ الْيَهُودِ فِي الْقُرْآنِ: تَحْذِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حِيَلِهِمْ وَمَكَايِدِهِمْ، وَفَضْحُ تَزْوِيرِهِمْ وَتَلْبِيسِهِمْ، وَدَحْضُ بَرَاهِينِهِمْ وَحُجَجِهِمْ، وَكَشْفُ شُبُهَاتِهِمْ الَّتِي يُحَاوِلُونَ بِهَا لَبْسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَمِنْ تِلْكُمُ الْآيَاتِ (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) [آلِ عِمْرَانَ: 72- 73]، (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) [الْمَائِدَةِ: 18]، (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) [الْمَائِدَةِ: 64]، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِنَ الْحِكَمِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي كَثْرَةِ ذِكْرِ الْيَهُودِ فِي الْقُرْآنِ: كَشْفُ تَحْرِيفِهِمْ لِكُتُبِهِمْ، وَتَغْيِيرِهِمْ لِدِينِهِمْ حَسْبَ أَهْوَائِهِمْ؛ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِمْ غَيْرُهُمْ أَوْ يُقَلِّدَهُمْ فِي فِعْلِهِمْ. وَمَا نَخِرَ دِينَ النَّصَارَى إِلَّا الْيَهُودُ حِينَ دَخَلُوا فِيهِ نِفَاقًا فَحَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ، وَنَقَلُوهُ مِنَ التَّوْحِيدِ إِلَى التَّثْلِيثِ، وَمِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى إِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ وَانْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَصَارَ مُجَرَّدَ انْتِمَاءٍ لَيْسَ فِيهِ مِنْ دِينِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَيْءٌ. وَلِأَنَّ الْيَهُودَ سَيُحَاوِلُونَ فِعْلَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ، وَقَدْ فَعَلُوهُ بِإِنْشَاءِ الْفِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُتَدَثِّرَةِ بِالْإِسْلَامِ وَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنْهُ، وَلَا يَزَالُونَ يَفْعَلُونَهُ بِمُحَاوَلَةِ طَمْسِ الْإِسْلَامِ الْحَقِّ، وَإِبْدَالِ دِينٍ بَاطِلٍ بِهِ؛ فَكَثُرَ ذِكْرُهُمْ فِي الْقُرْآنِ لِيَحْذَرَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مُحَاوَلَاتِهِمْ تَحْرِيفَ دِينِ اللَّهِ -تَعَالَى- (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [النِّسَاءِ: 46]، (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) [الْمَائِدَةِ: 41]، فَمَا فَعَلُوهُ بِدِينِهِمْ وَدِينِ النَّصَارَى مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ سَيَفْعَلُونَهُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- حَافِظٌ دِينَهُ، وَإِنْ تَبِعَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ الْيَهُودَ فِي تَغْيِيرِ الدِّينِ وَتَحْرِيفِهِ، وَهُمْ يُضِلُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَضُرُّونَهَا، وَلَنْ يُضِلُّوا الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَلَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ -تَعَالَى- شَيْئًا (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 69]، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) [النِّسَاءِ: 44].

فَحَذَارِ حَذَارِ مِنَ اتِّبَاعِ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْيَهُودِ فِي تَحْرِيفِ الدِّينِ وَتَبْدِيلِهِ؛ فَإِنَّهُ سَيُذَادُ قَوْمٌ عَنْ حَوْضِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيُقَالُ: "إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَيَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي".

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى دِينِهِ الْحَقِّ الَّذِي ارْتَضَاهُ لَنَا، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِلْعَمَلِ الَّذِي يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

الخطبة الثانية:

 

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ:131-132].

أَيُّهَا النَّاسُ: وَمِنْ أَعْظَمِ الْحِكَمِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي كَثْرَةِ ذِكْرِ الْيَهُودِ فِي الْقُرْآنِ: بَيَانُ سُنَنِ اللَّهِ -تَعَالَى- فِيهِمْ وَفِيمَنْ نَاصَرَهُمْ، حَتَّى يَعِيَ الْمُؤْمِنُونَ سُنَنَ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي خَلْقِهِ فَيَعْمَلُوا بِمَا يُحَقِّقُ لَهُمُ النَّصْرَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَيَجْتَنِبُوا مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْهَزِيمَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الصِّرَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ الَّتِي رَضِيَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْهَا وَالْأُمَّةِ الَّتِي غَضِبَ عَلَيْهَا صِرَاعٌ دَائِمٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ، وَهُوَ صِرَاعُ عَقَائِدَ وَلَيْسَ صِرَاعَ مَصَالِحَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَقَّفَ أَوْ يَهْدَأَ إِلَّا بِعَجْزِ الْأُمَّةِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهَا وَخَوْفِهَا، وَضَعْفِ الْحِبَالِ الْمَمْدُودَةِ إِلَيْهَا مِنَ النَّاسِ؛ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَفَسَادُ الْأُمَّةِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهَا فِي الْأَرْضِ حَقِيقَةٌ نَطَقَ بِهَا الْقُرْآنُ وَأَثْبَتَهَا التَّارِيخُ وَالْوَاقِعُ، وَشَهِدَ عَلَيْهَا جَمْعٌ كَبِيرٌ مِنْ سَاسَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي وَصْفِهِمْ: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [الْمَائِدَةِ: 64]، فَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ صِفَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِذْ يُثِيرُونَ الْفِتَنَ، وَيُشْعِلُونَ الْحُرُوبَ، لَا يَقْصِدُونَ إِلَّا السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا. فَكُلَّمَا مُكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أَفْسَدُوا وَلَمْ يُصْلِحُوا، وَإِذَا عَلَوْا أَفْسَدُوا وَلَمْ يُصْلِحُوا، حَتَّى إِذَا طَغَوْا وَبَغَوْا أَرْسَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ شَدَائِدَ جَزَاءً لِفَسَادِهِمْ. فَكُلَّمَا عَادُوا إِلَى فَسَادِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ لِعُلُوِّهِمْ وَقُوَّتِهِمْ عَادَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ بِمَنْ يَقْهَرُهُمْ وَيُذِلُّهُمْ، وَيَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ، وَيَكْسِرُ قُوَّتَهُمْ، وَيَقْطَعُ الْحِبَالَ الْمَمْدُودَةَ إِلَيْهِ، وَهُوَ وَعْدٌ قُرْآنِيٌّ لَا يَتَغَيَّرُ، وَسُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ لَا تَتَحَوَّلُ (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) [الْإِسْرَاءِ: 8]، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) [الْأَعْرَافِ: 167]. وَإِفْسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ، وَعُلُوُّهُمْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِيذَاءُ أَهْلِهِ، وَمَنْعُهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ، وَقَتْلُ الْعُزَّلِ مِنَ الشُّيُوخِ وَالْأَطْفَالِ لَنْ يَكُونَ إِلَّا إِمْلَاءً لَهُمْ، وَإِمْدَادًا لَهُمْ فِي غَيِّهِمْ، حَتَّى تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ سُنَّةُ اللَّهِ -تَعَالَى- وَهُمْ فِي أَوْجِ نَشْوَتِهِمْ، وَاكْتِمَالِ قُوَّتِهِمْ (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا).

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَحْفَظَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنْ كَيْدِهِمْ، وَأَنْ يُطَهِّرَهُ مِنْ رِجْسِهِمْ، وَأَنْ يَقْطَعَ الْحِبَالَ الْمَمْدُودَةَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يُعِيدَهُمْ إِلَى ذُلِّهِمْ وَصَغَارِهِمْ، وَأَنْ يَنْصُرَ أَهْلَ الْإِيمَانِ عَلَيْهِمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي