حفظ الله لهذا الدين

صالح بن عبد الله الهذلول
عناصر الخطبة
  1. نعي الشيخ محمد الصالح العثيمين .
  2. التصبر بتذكر فقد النبي عليه الصلاة والسلام .
  3. التقرب لله تعالى بمحبة الصالحين .
  4. عدم تعلّق الدين والدعوة إليه بالبشر .
  5. دعوة طلبة العلم للمسارعة في الدعوة .

اقتباس

وقد نعى المسلمون عصر الأربعاء الماضي علماً من أعلامهم، وعالماً من خيار فقهائهم، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، هو الشيخ الصالح محمد الصالح العثيمين، قدس الله روحه في عليين، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. لكن الشيء الثابت لدينا نحن المسلمين المؤمنين بالله وقضائه وقدره، والمؤمنين بسريان سنة الله على كل حي، أن الدينَ دينُ الله -تعالى- الحي الذي لا يموت، والله خيرٌ حافظاً، وهو أرحم الراحمين...

الخطبة الأولى:

الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل مخلوق، وأكرمُ نبي، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.

وبعد: فيقول الله -جل شأنه-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [الرعد:41]. جاء في بعض كتب التفسير، ومنها القرطبي وابن كثير، أنه روي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بهذه الآية موت علمائها وصلحائها وأهل الخير منها. وكذلك نقل عن عطاء بن أبي رباح، قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها. قال الحافظ ابن عبد البر: قول عطاء في تأويل الآية حسن جداً، تلقاه أهل العلم بالقبول. اهـ. ويعضد هذا الرأي المعنى اللغوي، فمعنى الطَّرَف والطَّرْف: الرجل الكريم.

وقد نعى المسلمون عصر الأربعاء الماضي علماً من أعلامهم، وعالماً من خيار فقهائهم، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، هو الشيخ الصالح محمد الصالح العثيمين، قدس الله روحه في عليين، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

لكن الشيء الثابت لدينا نحن المسلمين المؤمنين بالله وقضائه وقدره، والمؤمنين بسريان سنة الله على كل حي، أن الدينَ دينُ الله -تعالى- الحي الذي لا يموت، والله خيرٌ حافظاً، وهو أرحم الراحمين، ولقد رزئ المسلمون بفقد نبيهم -صلى الله عليه وسلم- أيما رزية، ترجم مشاعرهم شاعرهم وشاعر الرسول حسان بن ثابت -رضي الله عنه- في قصيدته التي بكى بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفيها:

فبوركـت يا قبر الرســول وبوركــت *** بـلادٌ ثـوى فيــها الرشيــد المســددُ

وبورك لحـدٌ منــك ضُــمِّن طــيباً *** عليــه بنـاء مــن صفــيح منــضَّدُ

تهـيل علــيه التــرب أيــدٍ وأعـينٌ *** علــيه، وقد غـارت بــذلــك أسـعدُ

لــقد غيبـوا حــلماً وعــلماً ورحمةً *** عشـية علــوه الثـــرى لا يوســـدُ

وراحـوا بحــزن ليــس فيــهم نبيهم *** وقد وهـنت منــهم ظهــور وأعضــدُ

ويبكـون مــن تبــكي السماوات يومه *** ومـن قد بكــته الأرض فالنــاس أكـمد

وهـل عــدلت يــوماً رزيــة هالك *** رزيـة يــوم مـــات فيــه محــمد؟

تقطـع فيــه منــزل الــوحي عنهم *** وقــد كـان ذا نـور يغــور ويُنــجْد

يــدل عـلى الرحــمن مـن يقتدي به *** وينــقذ مـن هــول الخــزايا ويرشـد

إمـامٌ لهــم يهــديهم الحــق جاهداً *** معــلم صـدقٍ إن يطيــعوه يســعدوا

وما فقـد المــاضون مثــل محـــمد *** ولا مثـله حـــتى القيـــامة يفقــد

وليـس هـوائي نازعــاً عــن ثنـائه *** لعلــي بـه في جــنة الخــلد أخــلد

مــع المصـطفى أرجــو بذاك جـواره *** وفي نيـل ذاك اليــوم أســعى وأجــهد

اللهم ارزقنا محبته ظاهراً وباطناً، وأحينا على سنته، وتوفنا على ملته، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، واسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم أكرمنا بشفاعته، وأنزلنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

أيها المسلمون: إن الحزن على فقد الأخيار، من مفاخر هذه الأمة ومحاسن دينها، لما فيه من الوفاء لأهل الوفاء، والحب لمن يحبهم الله، وهذه صفات كريمة يحبها الله -تعالى-.

إننا نحب أنبياء الله ورسله، والصالحين من أتباعهم، ونشهد الله على حبهم، وفي قراءة التشهد الأخير من الصلاة، وفي كل صلاة، تجديدٌ لهذا العهد، وتأكيد لهذا المبدأ، وهو قولنا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قال أهل العلم: عباد الله الصالحين في الأرض والسماء. فاللهم احشرنا معهم، وأدخلنا الفردوس الأعلى في زمرتهم، يا جواد يا كريم يا منان يا ذا الجلال والإكرام.

عباد الله: أيها المؤمنون بالله ورسوله، إن هذا الدين دين الله تولى حفظه، وتكفل به، ولم يجعل امتداده ونشره وقبوله متوقفاً على إنسان مهما كان، يتوقف بموته، ويتأثر بمرضه، وكأن الله -سبحانه- لما قال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144]، كأنه أراد -سبحانه- بذلك أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حي بينهم، وأن يصلهم مباشرة بالنبع الذي لم يفجره محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن مهمة النبي وأتباعه من بعده أن يدعوا الناس إلى ذلك الفيض المتدفق، ودعوة القوافل إلى الارتواء منه.

وكأن الحق -جل جلاله- يُعدُّ المسلمين لتلقي هذه الصدمة الكبرى حين تقع في موت نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وهو -سبحانه- يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم، فشاء -سبحانه- أن يدربهم عليها هذا التدريب، وأن يصلهم به -سبحانه- وبدعوته الباقية، ودينه الخالد، قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول، أو تنالَ منهم أقاويل المنافقين وأراجيفهم، فليهلك الكافرون وليكبت المنافقون، فالله مولانا ولا مولى لهم، وموتانا في الجنة وموتاهم في النار.

ولقد أعقب الله -سبحانه- الآية السابقة من سورة الرعد: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، بقوله -سبحانه-: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:42]، فليسوا هم بأشد مكراً ولا تدبيراً ولا كيداً ممن كان قبلهم، فأخذهم الله وهو أحكم تدبيراً، وأعظم كيداً.

إخواني طلبة العلم والمهتمين بالدعوة، أيها المسلمون جميعاً: لئن مات فلان، ورحل فلان، فإن الكل سيموت: الصالح والطالح، ولكن؛ ماذا قدمنا نحن لهذا الدين؟ وما مدى الجهد الذي نبذله من أجل تعلمه وتعليمه والدعوة إليه؟ أهو أغلى أوقاتنا؟ أم فقط نجعل له الوقت الضائع.

روى البخاري في صحيحه وابن المبارك في كتاب الجهاد أن أنس بن النضر -رضي الله عنه- تأسف لعدم شهود غزوة بدر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "والله لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرين الله كيف أصنع"، فلما رَأَى في أُحد بعض المسلمين جلوساً محتارين، وقد انقلبت موازين الحرب من نصر للمسلمين في بداية المعركة إلى هزيمة، لما رآهم محتارين صاح: "واهاً لريح الجنة! أجدها دون أحد"، فقاتل حتى قتل، ووجد في جسده بضعٌ وثمانون أثراً من بين ضربة ورمية وطعنة، حتى ما عرفته أخته الربيع بنت النضر إلا ببنانه، ونزلت فيه وفي أمثاله من المجاهدين الصادقين هذه الآية: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].

وروى ابن إسحاق بسند رجاله ثقات أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل زيد بن ثابت بعد المعركة (معركة أحد) يتفقد أنس بن النضر، فوجده بين القتلى، وبه رمق، فما كان منه بعد أن ردَّ على سلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا أن قال: "أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي من الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيكم عين تطرف"، وفاضت عينه؛ فما أروعها من وصية! وما أقواه من التزام لا يؤثر فيه الموت وآلام الجراحات!.

فسراعاً أيها المصلحون وطلبة العلم إلى الدعوة إلى الله! (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33].

اللهم ارحم شيخنا وتغمده برحمتك، وأبدله داراً خيراً من داره، واخلفنا نحن خيراً منه يا منان، يا خير الراحمين.

اللهم إن الأمر أمُرك، والدين دينك، والعباد عبادك، وأنت على كل شيء قدير، يا لطيف يا حكيم يا عليم يا خير الراحمين، أكرمنا ومتعنا وشرفنا بنصرة دينك، ومُنَّ علينا بالاستقامة عليه والثبات عند الممات.

اللهم...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي