ينبغي لمن كان في حَرّ الشمس أن يتذكر حَرّها في الموقف، فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة، ويُزاد في حَرّها، وينبغي لمن لا يصبر على حَرّ الشمس في الدنيا أن يجتنب من الأعمال ما يستوجب صاحبه به دخول النار؛ فإنه لا قوة لأحد عليها ولا صبر، قال قتادة، وقد ذَكر شراب أهل جهنم، وهو ماء يسيل من صديدهم من الجلد واللحم، قال: "هل لكم بهذا طاقة؟ أم لكم عليه صبر؟ طاعة الله أهون عليكم يا قوم، فأطيعوا الله ورسوله".
الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار، الرحيم الغفار، مقلب القلوب والأبصار، مقدر الأمور كما يشاء ويختار، مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار.
أحمده -سبحانه- وهو للحمد أهل، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ربُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رفع الله ببعثته عن أمته الأغلال والآصار، وكشف بدعوته أذى البصائر وقذى الأبصار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المتقين الأبرار.
أما بعد: أيها المسلمون: في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفَسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم".
لقد جعل الله -تعالى- وتقدس في هذه الدار الفانية، دار الدنيا، أزماناً، وأمكنة، وأوقاتاً، تذكر بالدار الباقية دار الآخرة، فمن الأزمان فصل الربيع الذي يذكر طيبه بنعيم الجنة وطيبها، ومن الأوقات وقت السحَر الذي يذكر برده ببرد الجنة، وفي الحديث الذي خرجه الطبراني: "إن الجنة تفتح في كل ليلة في السحر، فينظر الله إليها، فيقول لها: ازدادي طيباً لأهلك، فتزداد طيباً؛ فذلك برد السحر الذي يجده الناس"، وروى سعيد الجريري عن سعيد بن أبي الحسن أن داود -عليه السلام- قال: "يا جبريل، أي الليل أفضل؟ قال: "ما أدري، غير أن العرش يهتز إذا كان من السحر". تلكم -عباد الله- تذكر بنعيم الجنة.
وأما ما يذكر بالنار، وحرها، وزمهريرها -أجارنا الله منها- فقد جعل الله -تعالى- في الدنيا أشياء كثيرة أيضاً تذكر بالنار المعدة لمن عصاه، وما فيها من الآلام والعقوبات، من أماكن وأزمان وأجسام، وغير ذلك.
أما الأماكن، فكثير من البلدان مفرطة الحر أو البرد، فبردها يذكر بزمهرير جهنم، وحرها يذكر بحر جهنم وسمومها.
وأما الأزمان، فشدة الحر والبرد يذكّر بما في جهنم من الحر والزمهرير، قال الحسن: "كل بردٍ أهلَكَ شيئاً فهو من نفَس جهنم، وكل حر أهلك شيئاً فهو من نفس جهنم".
وفي الحديث الصحيح أيضاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم".
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه النسائي والترمذي عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سأل الله الجنة ثلاث مرات، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة. ومن استجار من النار ثلاث مرات. قالت النار: اللهم أجره من النار".
عباد الله: إن اتقاء حرِّ الشمس أمرٌ فطري، والتعرضَ لَها والوقوف فيها غير مشروع إلا لحاجة، أما البروز للشمس في شدة حرها تعبداً فمنهي عنه إلا إذا كان للجهاد في الصيف مثلاً، قال الله -جل شأنه- معاتباً من ينهى عن ذلك: (وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة:81]، وكذلك المشي إلى المساجد للجمع والجماعات، وشهود الجنائز، ونحوها من الطاعات، فكلها مأجور المسلم على فعلها ولو كان الحر شديداً، ولو استدعى ذلك الانتظار في الشمس الحارة.
ولعل الرجوع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر بانصراف الناس من موقف الحساب فريق إلى الجنة، وآخر إلى النار، فإن الساعة والقيامة تقوم يوم الجمعة، ولا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قال ذلك ابن مسعود، ثم تلا قوله -تعالى-: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا) [الفرقان:24].
أيها المسلمون: ينبغي لمن كان في حَرّ الشمس أن يتذكر حَرّها في الموقف، فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة، ويُزاد في حَرّها، وينبغي لمن لا يصبر على حَرّ الشمس في الدنيا أن يجتنب من الأعمال ما يستوجب صاحبه به دخول النار؛ فإنه لا قوة لأحد عليها ولا صبر، قال قتادة، وقد ذَكر شراب أهل جهنم، وهو ماء يسيل من صديدهم من الجلد واللحم، قال: "هل لكم بهذا طاقة؟ أم لكم عليه صبر؟ طاعة الله أهون عليكم يا قوم، فأطيعوا الله ورسوله".
نســيت لظــى عند ارتكــانك للهوى *** وأنت تــوقى حـــر شــمس الهواجر
كــأنك لم تــدفن حميــماً ولم تكـن *** له في سيــاق المــوت يــوماً بحاضـر
رأى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- -تعالى- قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فبكى ثم أنشد:
مـن كـان حين تصـيب الشـمس جبهته *** أو الغبــار يخــاف الشــين والشـعثا
ويألـف الظــل كـي يبقـى بشـاشته *** فســوف يسـكن يـوماً راغـماً جـدثاً
في ظــل مقــفرةٍ، غــبراءَ مظلــمةٍ *** يطيــل تحــت الثـرى في غمـها اللـبثا
تجـــهزي بجـــهاز تبلغــين بــه *** يا نفــس قبـل الـردى لم تخـلقي عـبثا
والشيء الذي يفضل عمله من الطاعات في الأيام الحارة لمن لا يتضرر به، الصيام، لما فيه من ظمأ الهواجر. ووصى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ابنه عبد الله، فقال له: "عليك بخصال الإيمان"، وسمى أولها: "الصوم في شدة الحر في الصيف".
نزل الحجاج في بعض أسفاره بماءٍ بين مكة والمدينة، فدعا بغدائه ورأى أعربياً، فدعاه إلى الغداء معه، فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته، قال: ومن هو؟ قال: الله -تعالى-، دعاني إلى الصيام فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم، صمت ليوم أشد منه حراً، قال فأفطر وصم غداً! قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غدٍ؟! قال: ليس ذلك إليَّ. قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه؟!.
وفي الصحيحين، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر، وإن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعبد الله بن رواحة.
نفعنا الله بهدي الكتاب، وسنة الهادي والأصحاب. أقول قولي هذا وأستغفر...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي