في خضم غربة الدّين، وقلة الدراية والمعرفة بهدي سيد الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- ظهر في بعض الناس أمور عجيبة ومحدثات غريبة، قصد منها بعضهم إظهار المحبة للنبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-، فاتخذوا من يوم مولده -صلى الله عليه وسلم- عيداً، ويوم الإسراء به -صلى الله عليه وسلم- محتفلاً، ويوم هجرته إلى المدينة -أيضاً- موسماً
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله وأمينه على وحيه، ومبلغ الناس شرعه، فـ -صلوات الله وسلامه عليه-، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين عباد الله: اتقوا الله فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
عباد الله: إن من نعم الله العظمى ومننه الكبرى على عباده؛ أن بعث فيهم رسولاً أميناً، وناصحاً مشفقاً، ألا وهو محمد بن عبد الله، -صلوات الله وسلامه عليه- اختاره ربه واجتباه، واصطفاه -تبارك وتعالى-؛ ليكون رسولاً للبشرية ورحمة للعالمين.
شرح له صدره، ورفع له ذكره، وجعل الذّلة والصغار على من خالف أمره، بعثه -سبحانه وتعالى- بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بعثه -سبحانه وتعالى- بالمحجة البيضاء، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك".
عباد الله: إن الله -جلّ وعلا- افترض على العباد محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأوجبها عليهم؛ فمحبته -عليه الصلاة والسلام- من محبة الله، وطاعته -صلى الله عليه وسلم- من طاعة الله -تبارك وتعالى-.
ولقد تكاثرت الدلائل في الكتاب والسنة على فرضية محبته -عليه الصلاة والسلام-، ووجوبها وبيان ما يترتب عليها من الآثار المباركة، والعوائد الحميدة في الدنيا والآخرة للمحبين لرسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين"، وروى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه"، فقال عمر: والله لأنت الآن أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي، قال: "الآن يا عمر"؛ أي الآن يتحقق الإيمان ويتم.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس -رضي الله عنه- أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: متى الساعة، قال: "وماذا أعددت لها"، قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكنى أحب الله ورسوله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أنت مع من أحببت"، قال أنس: فواله ما فرحنا بشيء فرحنا بقوله -صلى الله عليه وسلم- "أنت مع من أحببت". قال أنس: "فأنا أحبُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحب أبا بكر وعمر وإني لأرجوا أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل مثل عملهم"، والأحاديث -عباد الله- في هذا الباب كثيرة.
ولهذا كان متأكداً في حقّ كل مسلم، وواجباً على كل مؤمن أن يحب النبي -صلى الله عليه وسلم- محبة تفوق محبته لنفسه ولوالده ولولده وللناس أجمعين؛ كيف لا ورب العالمين يقول: (النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم) [الأحزاب:6] فهو -صلوات الله وسلامه عليه- أولى بنفسك منك، فوجب عليك أن تكون محبتك له أعظم من محبتك لنفسك -صلوات الله وسلامه عليه-.
عباد الله: وهاهنا يتأكد بيان أمر عظيم يتعلق بمحبته -عليه الصلاة والسلام- ألا وهو -يا عباد الله- كيف نظهر محبتنا له -صلى الله عليه وسلم-؟، أو بعبارة أخرى: ما هي المظاهر الحقيقية الصادقة لمحبة النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام-؟
عباد الله: إن أولى وأهم ما يكون في إظهار محبتنا لنبينا -صلوات الله وسلامه عليه- أن نكون أتباعاً له، صادقين مأتسين بهديه، مقتدين بسنته متمسكين بما جاء به؛ فهذه علامة واضحة وأمارة صادقة على صدق المحبة للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، قال رب العالمين في كتابه: (قل إن كنتم تُحبُّون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) [آل عمران] قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذه الآية حاكمة على من ادّعى محبة الله دون الإتباع للشرع المحمدي والنهج النبوي بأن دعواه كاذبة".
ولهذا قال العلماء عن هذه الآية: "إنها آية المحنة"، بمعنى أن من ادعى محبة الله ومحبة رسوله -عليه الصلاة والسلام-؛ فليعرض نفسه على ضوء هذه الآية، فإن كان من أتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام- حقاً وصدقاً، فهذه هي العلامة البارزة والأمارة الواضحة لصدق المحبة للرسول -عليه الصلاة والسلام-.
ولهذا جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أحاديث عديدة في التحذير من الابتداع في الدين؛ غلقاً لباب المظاهر الزائفة، والدعوات الخاطئة التي يحاول من خلالها بعض الناس إبراز المحبة على غير بابها، وإظهارها على غير وجهها، قال -عليه الصلاة والسلام-: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
عباد الله: ومن علامات المحبة الواضحة ودلائلها الصادقة: توقير النبي -عليه الصلاة والسلام-، وتعظيمه -صلى الله عليه وسلم- والأدب معه، (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاءِ بعضِكم بعضًا) [النور: 63] (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) [الحجرات: 2]
إلى غير ذلك من الآيات التي توجب على العباد احترام النبي عله الصلاة والسلام، ومعرفة قدره وتعظيمه -صلى الله عليه وسلم- التعظيم اللائق به -عليه الصلاة والسلام-، تعظيماً بالقلب: حباً له -صلى الله عليه وسلم-، ومعرفة بقدره ومكانته -صلوات الله وسلامه عليه-.
وتعظيماً باللسان: بالثناء عليه -صلى الله عليه وسلم- بما هو أهله، دون غلو أو جفاء، أو إفراط أو تفريط، وتعظيماً له بالجوارح: وذلك بحسن الإتباع وتمام الائتساء، وكمال الاقتداء بالرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام-، قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم والآخر وذكر الله كثيرا) [الأحزاب: 21]
ومن علائم المحبة ودلائل كمالها: كثرة تذكره -عليه الصلاة والسلام-، وتمني رؤيته -صلى الله عليه وسلم-، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أشد أمتي لي حباً: أناس يأتون من بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله"، وكان بعض الصحابة يقول: "غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه -صلى الله عليه وسلم"-.
ومن علائم المحبة ودلائلها ومظاهرها: كثرة الصلاة والسلام عليه -صلى الله عليه وسلم-، ويتأكد ذلك عند ذكره -صلى الله عليه وسلم-، ويتأكد –أيضاً- في هذا اليوم الأغر يوم الجمعة، قال -صلى الله عليه وسلم: "أكثروا يوم الجمعة وليلتها من الصلاة والسلام علي"، حديث حسن، وكان الشافعي -رحمه الله- يقول: "أُحبُّ الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله في كل حال، وهو في ليلة الجمعة ويومها أحبّ إليَّ".
عباد الله: ومن علائم محبته -عليه الصلاة والسلام-: محبة آل بيته الطيبين، وزوجاته أمهات المؤمنين، وصحابته الغُرّ الميامين، قال الله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) [الأحزاب:6].
وجاء في صحيح مسلم عنه -صلوات الله وسلامه عليه- أنه قال: "أذكركم الله في أهل بيتي" قالها ثلاثا -صلوات الله وسلامه عليه-، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: "ارقبوا محمداً -صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته"، وجاء في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
وفي الصحيحين -أيضاً- عن أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسبوا أصحابي، فوا الذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
ومن علائم محبته -عليه الصلاة والسلام-: محبة سنته -صلى الله عليه وسلم-، ومحبة المتمسكين بها، ومحبة دعاة السنة دعاة الحق والهدى على بصيرة من الله ونور، جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: "يا رسول الله: ما تقول في رجل يحب قوماً ولم يلحق بهم؟، قال -عليه الصلاة والسلام-: "المرء مع من أحب".
فهذه -عباد الله- بعض العلائم الواضحات، والمظاهر الجليات الصادقات على صدق المحبة للرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام-، وإنا لنسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وبأنه الله الذي لا إله إلا هو الذي وسع كل شيء رحمةً وعلماً، أن يجعلنا من أحبّاء الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- حقاً وصدقاً، ومن أتباعه -عليه الصلاة والسلام-.
ونسأله -جلّ وعلا- أن يحشرنا في زمرته وتحت لوائه، وأن يجمعنا به في جنات النعيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفره يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى.
عباد الله: في خضم غربة الدّين، وقلة الدراية والمعرفة بهدي سيد الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- ظهر في بعض الناس أمور عجيبة ومحدثات غريبة، قصد منها بعضهم إظهار المحبة للنبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-، فاتخذوا من يوم مولده -صلى الله عليه وسلم- عيداً، ويوم الإسراء به -صلى الله عليه وسلم- محتفلاً، ويوم هجرته إلى المدينة -أيضاً- موسماً.
يجتمعون في مثل هذه الأيام على قراءة القصائد، وتلاوة المدائح وإنشاد الأراجيز؛ قاصدين من ذلك إبراز وإظهار محبتهم للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا القصد -عباد الله- وإن كان في ذاته قصد حسن، إلا أن إظهار محبتنا لنبينا -صلى الله عليه وسلم- يجب أن يكون بالطّريقة التي كان عليها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: فالصحابة -رضي الله عنهم- وأرضاهم لم يكن أحدٌ منهم على مثل هذه الأعمال، وحاشاهم أن يكون على شيء من ذلك؛ لأن إظهارهم للمحبّة لم يكن بالإحداث والاختراع، وإنما كان بالاقتداء والإتباع.
ولهذا وجب علينا أجمعين أن نكون في إظهارنا لمحبتنا لرسولنا وقدوتنا -عليه الصلاة والسلام- مقتدين بالصحابة الكرام وتابعيهم بإحسان.
والكيس -من عباد الله- من ألزم نفسه السنة، واقتدى بأولئك الخيار وبأولئك الأماثل من الصحابة الأبرار، ومن اتبعهم بإحسان، وأن يحذر غاية الحذر من الأمور المحدثات والمنشآت المبتدعات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وليس عليها في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- أي دليل أو برهان.
هذا عباد الله: وصلوا وسلموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) [الأحزاب: 56] وقال صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي واحدة، صلى الله عليه بها عشرا".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصلِّّ علي"، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين، -أبى بكر وعمر وعثمان وعلي-، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله، دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سِحاً طبقاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وديارنا بالمطر، اللهم إنا نسألك الغيث فلا تجعلنا من القانطين.
اللهم إنا نسألك الغيث فلا تجعلنا من اليائسين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا.
(ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفرلنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)، (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذب النار).
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي