وللإنصاف؛ فقد لقيت تلكم المؤتمرات معارضةً حتى من داخل المجتمعات الغربية، وهذا يؤكد تنكرها لكل فضيلة، واعتمادها وإقرارها لكل رذيلة، ومحاولة صبغها صبغة شرعية؛ لكن تلك الأصوات المعارضة لا زالت لم ترتق إلى المستوى الذي يعيق حركة المؤتمرات ومضيَّها في تدميرها للأخلاق.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فقد توالت في عشر السنوات الأخيرة المؤتمرات الدولية حول المرأة والسكان، وأحدثت صخباً كبيراً؛ فهل هي تمثل نساء العالم حقيقة؟ ولماذا تحاط بكثير من الجدية ومتابعة مقرراتها؟ هل التزمت الدول المشاركة ببنود اتفاقياتها؟ هل هناك تقويم دوري لما يتم إنجازه فيها على خلاف الحال في غيرها من الاتفاقيات الدولية؟ لماذا هذا كله؟ وما السرُّ فيه؟ وما خلفيات الاهتمام بقضايا المرأة؟ وإلى شيء تهدف؟ وما النجاحات التي حققتها؟ وما انعكاساتها على المجتمعات الإسلامية؟.
وللإجابة على هذه الأسئلة، أو الحكم على تلكم المؤتمرات، نقف في محطات تاريخية مهدت لهذه المؤتمرات.
أول اجتماع عقد في العصر الحديث من أجل المرأة كان في الدنمرك عام ثمانية وتسعمائة وألف للميلاد، وهو ما يقابل عام ثمانية وعشرين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة، وستكون التواريخ بالميلاد، لأنها كانت تعقد وفقاً للتاريخ الميلادي وتعقد في بلادٍ التاريخ المعتمد فيها هو الميلادي، وهذا المؤتمر الأول من حينها أصبح ذلك اليوم يوماً عالمياً للمرأة.
وفي عام ستة وأربعين وتسعمائة وألف أنشئت لجنة مركز المرأة في منظمة الأمم المتحدة، وهي تتألف من خمس وأربعين دولة، تجتمع سنوياً بهدف عمل مسودات وتوصيات وتقارير خاصة بالمرأة. ولا تسأل عن أعضاء هذه اللجنة ومؤهلاتهم!.
وفي عام اثنين وخمسين صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة للاتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للمرأة، وذلك بناء على توصية اللجنة الخاصة بالمرأة في المنظمة المشار إليها سابقاً.
وفي عام ستة وستين صدر عهد دولي ينص على التساوي بين الرجل والمرأة في حق التمتع في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسة.
وأكد هذا الحق في عام تسعة وسبعين في مؤتمر عقد، كان من أعجب مقرراته: تمنح الدول الأطراف في الاتفاقية المرأة أهلية قانونية في الشؤون الدينية مماثلة لأهلية الرجل، ولها نفس ممارسة تلك الأهلية.
ومن المعلوم أهلية الرجل من حيث العموم للإمامة في الصلاة والأذان وأن يكون قاضياً، وعليه، فيمنح المؤتمر المرأة أن تكون إماماً في الصلاة ومؤذنة وقاضية!.
ومن مقررات هذا المؤتمر أيضاً: للمرأة أن تقرر بنفسها عدد أطفالها، والفترة بين إنجاب طفل وآخر. كما أن لها الحقوق والمسؤوليات نفسها فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم.
وحتى عام خمسة وتسعين، أي قبل خمس سنوات، وقعت مائة وثلاثون دولة على هذه الاتفاقية، ومنها دول عربية.
وفي عام أربعة وثمانين عقد المؤتمر العالمي الثاني للسكان في المكسيك. وفي عام خمسة وثمانين عقد المؤتمر الدولي عن المرأة بكينيا، وفيه تأكيد على المقررات السابقة.
وفي عام أربعة وتسعين عقد المؤتمر الدولي الثالث للسكان والتنمية في القاهرة، وحصل فيه جدل كبير لما طرح فيه، كالدعوة إلى حرية الجنس للمرأة، مما يعني مشروعية الزنا، وقانونية الإجهاض، ولم يعد المسلمون بعيدين عن مقررات هذا المؤتمر لحضور وفود من الدول العربية والإسلامية، ولأن عقد المؤتمر كان في عقر دارهم.
وفي عام خمسة وتسعين عقد المؤتمر العالمي للمرأة في الصين، وحظي بتغطية إعلامية هائلة على مستوى العالم، ومن مقرراته: التأكد على التعليم المختلط، وتشريع الزنا، وغير ذلك من هذا القبيل.
ثم توالت بعد ذلك أربعة مؤتمرات سنوية، وفي العام المنصرم عقد المؤتمر الخامس في عاصمة الكفر والعهر ومصدر الشر، في أمريكا، إلا أنه هذه المرة أحيط بنوع من التكتم، نظراً للمعارضات التي سجلت على مؤتمر القاهرة، فاقتصرت قراراته على التأكيد على ما سبق، دون إحداث قرارات جديدة.
وللإنصاف؛ فقد لقيت تلكم المؤتمرات معارضةً حتى من داخل المجتمعات الغربية، وهذا يؤكد تنكرها لكل فضيلة، واعتمادها وإقرارها لكل رذيلة، ومحاولة صبغها صبغة شرعية؛ لكن تلك الأصوات المعارضة لا زالت لم ترتق إلى المستوى الذي يعيق حركة المؤتمرات ومضيَّها في تدميرها للأخلاق.
أيها المسلمون: ما الهدف الذي تسعى إليه تلكم المؤتمرات المعنونة بمؤتمرات السكان أو مؤتمرات المرأة؟ والجواب: إنها آليات لفرض النموذج الاجتماعي الذي يريد الغرب إقراره في العالم، بمعنى أن الغرب استطاع السيطرة على العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً، ولم يبق إلا الأعراف والتقاليد والقيم الاجتماعية، فجاءت تلكم المؤتمرات لتكمل الناقص حتى لا يتضايق الرجل الأبيض حينما يذهب للسياحة أو العمل في أي بلد، لا يتضايق من النظم الاجتماعية والقيم الدينية والعرقية والعرفية التي لم يألفها في بلاده، بل يريد أن تكون الأجواء الاجتماعية تناسبه وكأنه في بلده، وهذه هي الترجمة العملية لمعنى العولمة.
ولكن؛ هل نجحوا فيما يهدفون إليه من خلال ما سبق؟ والجواب: نعم، فهم ماضون في تحقيق توصيات مؤتمراتهم، وهي وإن لم تكن شراً محضاً؛ لأنها تعالج مشاكل تعاني منها المرأة في كثير من البلدان الكافرة أيضاً، إلا أن أبرز أهدافها كان الترويج للغرب وقيمه الاجتماعية، وهم يستخدمون في ذلك سياسة النفَس الطويل الهادئ، ففي كل مرحلة يتقدمون نحو الهدف المنشود، وقد بدأت مؤتمراتهم منذ عشرات السنين، وعقب كل مؤتمر تعلن نتائج محدودة، لكن الراصد لها منذ أول مؤتمر وحتى الآن يدرك مدى التقدم في تحقيقهم ما يريدون، وهم الآن قد تخطوا مرحلة الدعاية بقيمهم إلى محاولات فرضها والالتزام بها، وقد لا يكون بعيداً أن يصدر عن أحد مؤتمراتهم القادمة فرض عقوباتٍ ومقاطعةٍ لكل دولة تتحفظ أو ترفض الانصياع لمقرراتهم.
وكان المتعين على الدول الإسلامية أن يكون لها رأى وموقف متميز، وتشكل ضغطاً معاكساً ولا تكتفي بالتحفظات.
والحاصل -أيها المسلمون- أن تلك المؤتمرات ماضيةٌ بإصرار على تحقيق غايتها وهدفها في تغريب المرأة بصبرٍ وأناة، وهي بين فترة وأخرى تنجز اختراقاً للقيم والمبادئ المحافظة، وما صرخات أدعياء تحرير المرأة في صحفنا، والمنادين بقيادة المرأة للسيارة ومشاركتها في كل جوانب الحياة، ما كل ذلك إلا استجابة لمقررات مؤتمرات المرأة ومؤتمرات السكان الدولية.
أيها المسلمون: هذه الحملة ليست جديدة، إنما الجديد طريقةُ العرض فقط، فهي قديمة، وحاولوا مرات وكرات الانقضاض على قيمنا، ولكن المُصلحين والغيورين يقفون لها بالمرصاد.
وعلى المجتمع كافة الآن أن يعي دوره، ويعرف ماذا يكاد به، فيقوم بواجبه في التصدي لتلك الدعاوى، وأن يفضح خططهم ونواياهم، ويعلن رفضه لها.
ولا يهولنك -أيها المسلم- مكرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، فإن الله خير الماكرين، وهو القوي المتين.
وإن على المصلحين، من علماء ومدرسين ووعاظ ومدرسات وجمعيات خيرية، أن يقوموا بدورهم في صد الهجمات.
وعلى أصحاب الأقلام الغيورة الأمينة أن يدلوا بدلوهم في الكتابة عبر الصحف ومواقع الإنترنت، مترجمين رفض المجتمعات الإسلامية لكل ما يخالف مجدها وشرفها دين الإسلام، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].
وإننا -معاشر المسلمين- لعلى ثقة بنصر الله لنا، لكن ذلك ليس بالأماني، وإنما هو مشروط بنصرتنا لدينه، والغيرة عليه، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل حسب استطاعته؛ (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]، وقال -جل شأنه-: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الحمد لله الحكيم العليم، خلق الخلق وهو اللطيف الخبير، وجعل الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
وبعد: تبين لنا -معاشر المسلمين- أن مؤتمرات المرأة والسكان الدولية، تهدف فيما تهدف إليه إلى فرض السلوكيات الاجتماعية الغربية على كل بلاد العالم، وهي تعلم أن النظم الإسلامية تقف أقوى عقبة كأداء أمامها، ولذا فهي تحاول تذويب جليدها من خلال محاولات لاختراق المجتمعات الإسلامية، كما أنها تعلم أن هذه البلاد -حرسها الله- أقوى صخرة تنطحها، لذا تحاول عبر أقلام رخيصة، وأفواه مقلدة، بين حين وآخر، طرح قضية نسائية للمناقشة، لا تعبر إلا عن وجهة نظر كتابها وقليل من المعجبين بهم، لكن إتاحة الفرصة أمامهم بالكتابة في الصحف ونحوها، يُظهر الأمر وكأن كثيراً من أفراد المجتمع يتبناه.
ومن تلكم الأطروحات: قيادة المرأة للسيارة. ونحن هنا لا نطرح الموضوع طرحاً فقهياً يتناول الحكم: هل هو محرم أو مكروه أو مباح؟ لكن هناك تساؤلات تفرض نفسها في هذا الجو: مَن المتحمسون وراء قيادة المرأة للسيارة والمطالبون فيه؟ وهل دافعهم الحقيقي السعي في مصلحة المرأة والمجتمع؟وما خلفيتهم في ذلك؟.
إن الأنثى، بطباعها وطموحاتها وتفكيرها وهمها، تختلف عن الرجل، ولكل جنس مهمة في هذه الحياة، وإقحام جنس بممارسة اختصاصات الآخر تكلفٌ ترفضه الطباع السوية، حتى الكافرة، لولا أن الهدف الذي يرمي إليه أدعياء تحرير المرأة هدف مبطن، هو انحلال المجتمع، وإغراقه في دوامة الشهوات.
بلاد الغرب، منذ متى وهي واقعة في مستنقع الانحلال؟ ومع ذلك، كم تسمعون من امرأة اعتلت مناصب في الجيش هناك؟ بل ما دون ذلك من أعمال مدنية تكون هي في موقع متقدم من المسؤولية كالوزارات مثلاً، رغم أن عدد النساء لا يقل عن عدد الرجال، إن لم يزد عليه!.
نعم، يوجد عدد، لكنه قليل جداً قياساً إلى الرجال، مع أنه لم يمنعهم دين ولم يردعهم خلق ولا مروءة، وإنما طبيعة المرأة الضعيفة لا تتحمل تلك المسؤوليات، وقديما قال الشاعر:
كتب القتل والقتال علينا *** وعلى الغـانيات جرُّ الذيول
إن سَوق المرأة إلى أعمال لا تناسب أنوثتها بحجة مساواتها بالرجل جريمة في حق المجتمع والأجيال المقبلة، وفي حق المرأة نفسها، وسنةٌ سيئة يكون على الساعي فيها إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة؛ مصداقاً لحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
وأدعياء تحرير المرأة -أيها المسلمون- يدركون هذه المعاني تمام الإدراك، وليس هدفهم الذي يسعون إليه البحث الجاد عن مصلحة المرأة وإصلاح المجتمع، وإنما هدفهم الأول الفوضى الجنسية، وإشاعة الفاحشة في المجتمع، وتمزيق الفضيلة، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء:27]، ليس ميلا فقط، وإنما هو ميلٌ عظيم! لأن كل منهج سوى دين الله وشرعه فهو الضلال والبوار والاضطراب واللهث وراء الشهوة، وإطلاق الغرائز من كل عقال ديني أو أخلاقي أو اجتماعي، يطلقونها باسم الحرية، ولكنها الشهوة الفالتة، والنزوة البهيمية، بلا ضابط.
أيها المسلمون: وفي هذا الصدد أجرت إحدى الصحف المحلية حواراً مع أحد الأطباء المختصين، تحدث فيه عن اكتشاف ثلاثة ذكور من عائلة سعودية لديهم أعضاء أنثوية، ولم يعرف هذا إلا بعد بلوغ الكبير منهم، وعمره ستة عشر عاماً، وأجريت له عملية جراحية تحول بعدها إلى أنثى، وذلك بعد أن تأكد الأطباء من وجود الأعضاء الأنثوية الداخلية، وبعد موافقة المريض نفسه.
والعجب في الأمر، وهو ما له صلة بموضوعنا، أن الذي تحول إلى أنثى كان منذ طفولته يميل إلى كونه أنثى، فلا يحب أن يلعب أو يختلط مع أقرانه! انظروا نداء الفطرة كيف يرفض الانسجام مع حركات الأولاد الذكور وألعابهم؟ فيلعب مع الفتيات، ويلبس ملابس الفتيات، ويتحدث مع الفتيات، كل هذا قبل إجراء العملية. ويضيف قائلاً: إنه لم يجد الانسجام في الدراسة مع الأولاد، وكان يرغب دائماً أن يكون فتاة، وإنه سعيدٌ عند ظهور علامات الأنوثة لديه، ويحاول الآن تغيير اسمه إلى اسم أنثى، ويرغب في متابعة دراسته في مدارس البنات. انتهى كلام الطبيب.
إن هاجس الأنوثة داخل جسم الأنثى صبغة صبغها الله -تعالى- في المرأة لا تنفك عنها، صبغة الله، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) [البقرة:138]؟.
ولقد سافرت فتاة من إحدى الدول العربية الأكثر سفوراً سافرت لأمريكا للتدريب على السباحة، فعادت وقد اعتزلت السباحة وارتدت الحجاب، وقالت: لن يستفزني أحد للرجوع عن قراري في العودة إلى الحشمة والحياء!.
وتضرب الفتاة الفلسطينية مثلاً رائعاً حينما أوقفها الجنود وطلبوا منها خلع خمارها عن وجهها فرفضت، فمد أحدهم يده لنزع الخمار، فبصقت في وجهه، فانهال عليها هو وزملاؤه ضرباً على رأسها حتى فقدت وعيها وبصرها.
تلكم مشاعر ومواقف، هي ترجمة حقيقية وواقعية لإرادة وخيار المرأة المسلمة، فالأُولى في بلد يعد الحجاب نوعاً من الإرهاب، والثانية في بلد يحكمه يهود، ومع ذلك رفضتا إلا الحجاب! فهل يعي ذلك أدعياء تحرير المرأة المتسترون بالمناداة بقيادتها للسيارة، ونزع الخمار عن وجهها، بدعوى أنها مسألة خلافية؟!.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي