الزهور العبقة

عبد الله الواكد
عناصر الخطبة
  1. عقوق الأبناء للآباء في المجتمعات الغربية .
  2. منزلة الوالدين وفضل برهما في الإسلام .
  3. بعض واجبات الأبناء تجاه الآباء .
  4. حث الإسلام على رعاية كبار السن .
  5. بعض حقوق كبار السن في الإسلام .

اقتباس

هؤلاءِ الزهورُ العَبِقَةُ الذينَ دبَّ فيهِمُ المشيبُ، وسَعَتْ إليهِمْ أذيالُ العُمُرِ، وَهَنَتْ خُطَاهُم، وضَعُفَتْ أبصارُهُمْ، ولازَمَتْ فريقاً منهم العلةُ والدواءُ، هُمْ آباؤُنا وأمَّهَاتُنا، هُم الشموعُ المضيئةُ، والقناديلُ المؤنسةُ، تزدادُ بهِمْ البيوتُ بهجةً وسروراً، يشعرُ الأطفالُ والصغارُ بوجودِهِم، بِعُمْقِ اللُّحْمةِ، وعظيمِ المودةِ والرحمةِ، فهُمْ...

الْخُطْبَةُ الأُولَى:

الحَمْدُ للهِ ما امتدتْ لمسألتِهِ أكفُّ السائلينَ، وخرَّتْ لعبادتِهِ جباهُ العابدينَ، وطمَحَتْ لكرمِهِ أبصارُ الآملينَ، وتلهَّفَتْ لعفوِهِ قلوبُ المذنبينَ، فطُوبى لمنْ عبدَ، وويلٌ لمن جحدَ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى محمدٍ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وأَصْحابِهِ الغُرِّ المَيامِينِ، والتَّابعينَ لَهُمْ بإحسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أمَّا بعدُ:

فأوصيكُمْ ونفْسِي بتقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

أيُّها المسلمونَ: لو تأملتُمْ حالَ الآباءِ والأمهاتِ في الغربِ، وفي المجتمعاتِ الغارقةِ في الماديةِ،  لعلمْتُم أنَّنَا في نِعمةٍ، دولٌ هناكَ تدَّعي التقدمَ والرقيَّ والآباءُ والأمهاتُ فيها يُحالُونَ إلى دُورِ العجزَةِ والمسنينَ، الأبناءُ في مجتمعاتِهِم ينسونَ أمهاتِهِم فأرادُوا أنْ يجعَلُوا يوماً في السنةِ ليُذَكِّرُوا الأبناءَ بأمهاتِهم ويعتبرُ هذا اليومُ مكملاً ليومِ الأبِ عندَهُم.

أيها المسلمونَ: في هذا الأسبوعِ احتفلَ العالمُ الغربيُّ ومَنْ حذى حذوَهُمْ بيومِ الأُمِّ، ليُذَكِّرُوا الأبناءَ بأمهاتِهِمْ.

أماَّ نحنُ -أيها المسلمونَ- فالآباءُ والأمهاتُ يتحوَّلُونَ في بلادِناَ ومجتمعاتِنَا إلى إضاءاتٍ في المنازلِ، وعَبقَاتٍ في البيوتِ، وإشراقاتٍ في المجتمعِ، فكلُّ يومٍ في حياتِنَا هو يومُ أمٍّ وأبٍ، وأيُّ دنيا تحلو بغيرِ أمٍّ وأبٍ؟ قرنَ اللهُ عبادتَهُ بالإحسانِ إليهِما، وأمرَنا بذلكَ، فقالَ: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23 - 24].

أطالَ اللهُ في عُمُرِ الأحياءِ منهم، ورحمَ اللهُ الأمواتَ.

هؤلاءِ الزهورُ العَبِقَةُ الذينَ دبَّ فيهِمُ المشيبُ، وسَعَتْ إليهِمْ أذيالُ العُمُرِ، وَهَنَتْ خُطَاهُم، وضَعُفَتْ أبصارُهُمْ، ولازَمَتْ فريقاً منهم العلةُ والدواءُ، هُمْ آباؤُنا وأمَّهَاتُنا، هُم الشموعُ المضيئةُ، والقناديلُ المؤنسةُ، تزدادُ بهِمْ البيوتُ بهجةً وسروراً، يشعرُ الأطفالُ والصغارُ بوجودِهِم، بِعُمْقِ اللُّحْمةِ، وعظيمِ المودةِ والرحمةِ، فهُمْ -واللهِ- أُنسٌ لناَ وبهجةٌ لحياتِنا جميعاً، كباراً وصغاراً.

أيُّها المسلمُ الفخورُ بوالدَيْكَ: إذا وفَّقَكَ اللهُ لبِرِّهِما، والإحسانِ إليهِما، فأبشرْ فثَمَّ توفيقُ اللهِ سبحانَهُ ورضاهُ، فماذا قالَ القدوةُ الأسوةُ، رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-؟ قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ" [شُعَبِ الإيمانِ].

وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ فِي بِرِّ أَبِيهِ، قالَ لهُ: "لاَ تَمْشِ أَمَامَ أَبِيكَ، وَلاَ تَجْلِسْ قَبْلَهُ، وَلاَ تَدَعُوهُ بِاسْمِهِ" أيْ لاَ تنادِيهِ باسمِهِ، بلْ تنادِيهِ بأحبِّ الأسماءِ إليهِ [الجامع لابن وهب].

وبرُّ الوالدينِ  يكونُ فِي حياتِهِمَا وبعدَ مماتِهِمَا.

أيها المسلمُ الوفيُّ، أيها الشابُ الأبيُّ: أبواكَ، أمُّكَ وأبوكَ، بِرُّهُما وأحسنْ إليهِماَ، قلْ: ربِّ ارحمْ هذينِ الأبوينِ الكريمينِ كما تَعِبا في تربيَتِي، قلْ: ربِّ ارحمْهُما كماَ سهِراَ لأنامَ، وجاعاَ لأشبعَ، وضمئاَ لأروى، فكمْ منَ العناءِ بذلوهُ  ليرَوْا  البسمةَ على وجوهِكُم، ويمسحوا الدمعةَ مِن عيونِكُم، وكَمْ سَهِرُوا في مرضِكُم وأنتم نائمونَ؟ وكم قَلِقُوا في سفرِكُم وأنتم سادرونَ؟ وكم دَعَوْا لكم بظهرِ الغيبِ وأنتم لا تعلمون؟ كم شَقَوْا لتسعَدُوا؟ وكم حَزِنُوا  لتفرَحُوا؟ كلماتُكُم الرقيقةُ، وعباراتُكُم الشفيقةُ، شكرُكُم ووفاؤُكم، وتقديرُكم وثناؤُكم بما قدَّماهُ هذانِ الأبوانِ بِرُّ ورحمةٌ، تصرُّفُكَم الحاني وحنوُّكَم الداني، بهذينِ الوالدينِ إحسانٌ وشفقةٌ، دعاؤُكُم لهُما بالخيرِ وطولِ العُمُرِ والعافيةِ دليلٌ على طيبِ منبتِكُم، ورسوخِ كرامتِكُم، طلبُ الرضى، والإنفاقُ، وتقبيلُ الرأسِ، وقضاءُ الحاجاتِ، دليلٌ على تيمُّنِكَم وتواضُعِكَم، وكريمِ خصالِكَم، وطيبِ معدَنِكَم، قرأتُ منذُ سنواتٍ عديدةٍ عن إحدى الأخواتِ، وكانتْ ترافقُ معَ أمِّ زوجِهاَ في أحدى المستشفياتِ في الرياضِ، فكانتْ تتردَّدُ عليها في كلِّ يومٍ تُحْضِرُ لها ما تشتهيهِ من طعامٍ وشرابٍ، فسألَتْهاَ إحدى موظفاتِ الاستقبالِ، وكانتْ غربيَّةً غيرَ مسلمةٍ، سألَتْهاَ: مَنِ التي تترددينَ عليهاَ؟ قالتْ لهاَ: هي أمُّ زوجِي، فما كادتْ تصدِّقُ ذلكَ، قالتْ: يعني هيَ ليستْ أمَّكِ؟ قالتْ: لاَ، ولكنَّهاَ أمُّ زوجِي، قالتْ:وما علاقَتُكِ بأُمِّ زوجِكِ؟ قالتْ: دينُناَ دينُ الإسلامِ يحثُّناَ على ذلكَ، تقولُ: فطلَبَتْ مِنِّي كُتُباً تعريفيةً عنِ الإسلامِ، فأحضرْتُ لها كُتُباً بلُغَتِهاَ، ومنها كتبٌ عن حقوقِ الزوجينِ وحقوقِ الوالدينِ في الإسلامِ، تقولُ: فما لبِثَتْ أنْ أسلَمَتْ.

دينُنا -أيها المسلمون- دينٌ عظيمٌ، واللهِ لو قُمْناَ بما فيهِ وعَمِلْناَ بنصوصِهِ وتوجيهاتِهِ، لدخلَ الناسُ في دينِ اللهِ أفواجاً.

أيُّها المسلمونَ: الإحسانُ فِي الإسلامِ قَدْ شَمَلَ الوالدينِ وكبارَ السنِّ جميعاً، فالرجلُ المُسِنُّ والشيخُ الكبيرُ والمرأةُ العجوزُ أناسٌ أسلَمَتْهُم يَدُ الدهرِ إليكْم، وستُسْلِمُكُمْ يدُ الدهرِ إلى أبنائِكُم ومُجتمَعِكُم، وكَما تَدينُ تُدان.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولكُمْ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانيةُ:

الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أنَّ محمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلِّ الله عليه وسلِّمْ وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ الطيبينَ الطاهرينَ، والتَّابعينَ لَهُمْ بإحسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أيها المسلمونَ: لقدْ تميَّزَ الاسلامُ على غيرِهِ من الأديانِ والمللِ، بالحثِّ الشديدِ على رعايةِ الآباءِ والأمهاتِ خصوصاً، وكبارِ السِنِّ عموماً واحترامِهِم وتوقيرِهم.

نحنُ -يا عبادَ اللهِ- مجتمعٌ واحدٌ، ولحمةٌ واحدةٌ، وكلُّ منْ في هذا المجتمعِ من آباءٍ فهُم آباؤُنا، فإذا رأيتَ شيخاً كبيراً فاحملْ إليهِ رسالةَ المجتمعِ المتراحمِ، حادِثْهُ، ولاطِفْهُ، واطردْ عنهُ أشباحَ الوحشةِ، اجعلْ لهُ في قلبِكَ منَ المودةِ ما يجعلُهُ يحمَدُ اللهَ أنهُ في كَنَفِ خيرٍ يحتضنُهُ ويحمِلُهُ، ويسُدُّ ضعفَهُ، ويرحمُ شيبتَهُ، قَالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: "مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخاً لِسِنِّهِ إِلاَّ قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ" [رواه الترمذي].

افسحْ لهُ الطريقَ والمجلسَ، قُمْ من مكانِكَ ليجلسَ فيهِ ويستريحَ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللهُ عنهُ- أنه قَالَ: جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِي -صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِي -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا" [الترمذيِّ].

هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْه، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي