هل أقلقنا الخوف من النار؟! أم هل سعى كل منا في فكاك رقبته من النار طالما أنه في دار المهلة؟! إنَّ العبد الغافل في هذه الدار لا يفيق إلا مع سكرات الموت، حين لا ينفع ذلك.. فإنما هي أيام قلائل، ويكون الغيب شهادة، والموعود حاضرًا مشهودًا تتقشع الدنيا ببهارجها ويعاين الناس مصيرهم في يوم لا تُقبل فيه المعاذير، ولا تُقال فيه العثرات؛ إلا من رحمه ربه..
الحمد لله وكفى؛ أحمده سبحانه وأشكره وأسبحه وأقدسه، لم يزل بنعوت الجلال والكمال متصفًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقرًّا بوحدانيته ومعترفًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله النبي المجتبى والرسول المصطفى أكرم البرية أصلاً ومحتدًا، وأزكاها فضلاً وشرفًا صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه السادة الحنفاء أهل البر والصدق والوفا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، اتقوا يومًا تُرجَعون فيه إلى الله اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل، والحساب فيه ثقيل.
معاشر المؤمنين: إننا في أيامٍ يعلم الجميع أنها أعظم أيام السنة حرارة، ونرى الجميع يتأفف من هذه الحرارة، والبعض يفر هاربا منها إلى مناطق البرودة، لكن أين المعتبرون؟
عباد الله: هذه الحرارة الشديدة لها حكمة عظيمة لمن تأمل فيها !
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير".
أيها الناس: إن هذه الحرارة تذكِّرُ بنار الآخرة مع البون الشاسع، بل لا قياس البتة، وإنما هي مجرد تذكرة لمن اعتبر بذلك؛ قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140]، وقال سبحانه: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43].
أيها المؤمنون: إن مَن تذكر النار وعرف صفتها دعاه ذلك التفكر إلى العمل الصالح والتجافي عن دنيا الغرور؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في ذكر الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر، وفيه: "إن الله -عز وجل- يسألهم وهو أعلم بهم فيقول: مِمَّ يتعوذون؟ فيقولون: من النار. فيقول: وهل رأوها؟ قالوا: لا، والله ما رأوها. فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد منها مخافة. قال: فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم".
دلَّ الحديث أن من عرف النار كأنها رأي عين دعاه ذلك إلى الهرب منها بما يستطيع من عمل صالح، ولهذا سنمر سريعًا في هذ الخطبة على صفة النار، أعاذنا الله وإياكم منها .
ولهذا تكاثرت النصوص في التحذير من النار والأمر باتقائها فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]، وقال جل وعلا: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [البقرة: 24]، وقال سبحانه: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) [الأعلى: 14]، وقال (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) [المدثر: 35- 36]، قال الحسن: "والله ما أنذروا بشيء قط أدهى منها" .
وأخرج الإمام أحمد من حديث سماك بن حرب قال سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: "أنذرتكم النار، أنذرتكم النار"، حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه".
وأخرج البخاري ومسلم من حديث عدي بن حاتم –رضي الله عنه- قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا النار ولو بشق تمرة ".
معاشر المسلمين: إن التخويف من النار نال الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، اقرؤوا في شأن الملائكة: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 29]، واقرؤوا في حق الأنبياء (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا) [الإسراء: 39].
عباد الله: إن ذكر النار قد فلَق أكباد الصالحين وأطار نومهم، ولهذا قيل: "ما رئي مثل النار نام هاربها".
وقال يزيد بن حوشب: "ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز؛ كأن النار لم تُخلَق إلا لهما".
وروى ضمرة عن حفص بن عمر، قال: بكى الحسن، فقيل: ما يبكيك؟ قال: "أخاف أن يطرحني غدا في النار ولا يبالي".
قال ابن أبي ذئب: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة وقرأ عنده رجل (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) [الفرقان: 13]، فبكى عمر حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه، فقام عن مجلسه ودخل بيته وتفرق الناس.
كان سفيان الثوري لا ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعًا مرعوبًا ينادي النارَ النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ ويقول على أثر وضوئه: "اللهم إنك عالم بحاجتي غيرُ معلم وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار"، وفي هذا المعنى يقول عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى-:
إذا ما الليل أظلم كابدوه *** فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا *** وأهل الأمن في الدنيا هجوع
أيها المؤمنون: إن ذكر النار وما فيها من أنواع العذاب يجب أن يكون داعيًا لنا على الإقبال على الطاعة والبعد عن المعصية .
قال إبراهيم التيمي: "مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأعانق أبكارها، ثم مثَّلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أراد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قال: فقلت فأنت في الأمنية فاعملي"، فمن عمل صالحًا واستعاذ من النار أوشك أن ينجو من النار .
أخرج الترمذي وغيره من حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "ما من مسلم يسأل الله الجنة ثلاثًا إلا قالت: الجنة، اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاثًا قالت النار: اللهم أجره من النار".
معاشر المؤمنين: النار هي عذاب الرب –سبحانه- يعذب بها من يشاء من عباده، ولها صفات عظيمة: فهي دركات، حرّها شديد وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد، يهوي الحجر من شفيرها سبعين خريفًا ما يدرك قعرها مسالكها ضيقة، ومواردها مهلكة يوقد فيها السعير، ويعلو فيها الشهيق والزفير، أبوابها مؤصدة، وعمدها ممددة، يرجع إليها غمها، ويزداد فيها حرها".
النار فيها أودية من نار وجبال من نار فيها السلاسل والأغلال فيها المقامع والحيات والعقارب فيها طعام ذو غُصّة وشرابٌ من حميم لباس أهلها من نار، فهم يفترشون النار ويلتحفون النار قد طبقت عليهم: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف: 41].
اللهم أعذنا من النار، وما يقرب إليها من قول وعمل.
الحمد لله الواحد القهار العلي الغفار خلق الخلق ليعبدوه وبيَّن لهم طريق السعادة ليسلكوه..
أما بعد: عباد الله: إن للنار خلقًا خلقهم الله لها يعرفون بصفاتهم، فوجب على كل عاقل أن يبرأ من صفاتهم ما استطاع إلى ذاك سبيلاً. قال الله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179].
وقال (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المدثر: 43- 46]، وأخرج البخاري ومسلم من حديث حارثة بن وهب عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر".
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "تحاجَّت الجنة والنار؛ فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقَطهم. قال الله -عز وجل- للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع عليها رجله، فتقول: قط قط. فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدًا، وأما الجنة فإن الله يُنشِئ لها خلقًا".
معاشر المسلمين: إن للجنة طريقًا وإن للنار طريقًا، فمن شاء سلك ما شاء من الطرق، أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات".
وخرَّجه مسلم، ولفظه: "حُفَّت الجنة بالمكاره وحُفَّت النار بالشهوات"، فمن انغمس في الشهوات وأعطى نفسه ما تمنى سار على طريق النار، ومن كان صابرًا عافًّا يتقحم المكروهات في رضا الرب فهو في طريق الجنة.
عباد الله: إن عذاب النار لا يطيقه أحد ولو لحظة واحدة، حتى إن أهلها ليطول بكاؤهم بالدعاء يطلبون التخفيف، (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [غافر: 49- 50].
فإذا أيسوا طال بكاؤهم بالدعاء ليقضِ الله عليهم (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) [الزخرف: 77]، لا إله إلا الله كيف يُصبر على نار أهون أهلها فيها عذابًا يرى أنه أشد الناس عذابًا .
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: "أدنى أهلِ النار عذابًا ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه"، وفي رواية: "ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا".
إذا تأملنا هذا فلنتأمل حالنا في هذه الدنيا، هل أقلقنا الخوف من النار؟! أم هل سعى كل منا في فكاك رقبته من النار طالما أنه في دار المهلة؟! إنَّ العبد الغافل في هذه الدار لا يفيق إلا مع سكرات الموت، حين لا ينفع ذلك".
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 5]، فإنما هي أيام قلائل، ويكون الغيب شهادة، والموعود حاضرًا مشهودًا تتقشع الدنيا ببهارجها ويعاين الناس مصيرهم في يوم لا تُقبل فيه المعاذير، ولا تُقال فيه العثرات؛ إلا من رحمه ربه.
واعلموا -رحمكم الله- أن السعيد مَن وُعِظَ ليستيقظ قبل الفوات، وأن الشقي من غرق في بحر الشهوات معللاً نفسه بالتسويفات.
اللهم أيقظنا من الرقدات، وأعذنا من الدركات يا أرحم الراحمين.
اللهم يسر لنا أسباب التوبة، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ..
اللهم إنا نسألك الجنة وما يقرب منها، اللهم أنج المستضعفين، اللهم عليك بأعداء الملة والدين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي