كانتْ الخُطى قصيرةً، والأسفارُ مريرةً، فما كانتْ وسائلُ للترحالِ غيرَ الحميرِ والبغالِ والجمالِ، كانتْ الديارُ متباعدةً، فكم من أقدامٍ وأقدامٍ دكَّتْ سفوحَ الآكامِ في سفرٍ بعيدٍ تاقتْ لرؤيةِ أحبابِها، أو رحلَتْ لجلبِ أرزاقِها، فهلكتْ دونَ ما تريد؟ أليسَ...
الخطبَة الأُولَى:
أما بعدُ:
أيها الأحبة المسلمون: ما أكملَ الدينَ الذي شرعهُ اللهُ، وما أتمَّ التعاليمَ التي سنَّها من لا ينطقُ عن الهوى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 4] رسولُنا ونبيُّنا محمدٌ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، شريعتُنا شاملةٌ، ودينُنا كاملٌ، شملَ جوانبَ الحياةِ كلِّها، وأحاطَ بمستلزماتِ العيشِ، دينٌ تكالبَ على إيجابياتِ الحياةِ وسوالبِها، فبعثرَ عنها عتمةَ اللبسِ والغموضِ، وأزالَ عن أنحائِها وجوانبِها آثارَ الشكِّ والحيرةِ، كمَّلَهُ اللهُ -عز وجل- يومَ أنْ أتمَّ علينا النعمةَ، وأفاضَ علينا الرحمةَ، قالَ سبحانه وتعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً) [المائدة: 3].
حفِظَ لنا هذا الدينَ العظيمَ أموراً خمسةً، لا تكتملُ حياةُ عبدٍ إلا بها، ولا تزدانُ علاقاتُ الناسِ إلا بها، ولا تستقيمُ سفينةُ العمرِ في لُجَّةِ الحياةِ إلا بها، أمرَنا: بحفظِ النفسِ والعقلِ والنسلِ والعرضِ والمالِ، أمرَنا بحفظِها في الكتابِ والسنةِ.
أيُّها الناسُ: النفسُ أمانةٌ عظيمةٌ، فما بالُنا فرَّطْنا بها، فلم نرْعَها حقَّ رعايَتِها؟
إنَّ قضيةَ السياراتِ، وظاهرةَ التهورِ في القيادةِ، والاستهتارَ بأرواحِ البشرِ ظاهرةٌ مرضيةٌ ينبغي علاجُها، بل يجبُ علاجُها، يلزمُنا الوقوفَ وراءَ كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ لها أدنى أثرٌ في هذهِ الظاهرةِ.
فمتى يدركُ المسؤولُ أهميةَ المسؤوليةِ التي أنيطتْ بهِ، وليست المسؤوليةُ قصراً على الوزراءِ والمدراءِ، والموظفينَ والجنودِ، لسنا نحنُ صفاًّ آخرَ نصادمُهم، ونمزِّقُ في أنظمتِهم وقوانينِهم، ونرضى أنْ نرى منْ يجتثُّ ثوابتَ السلامةِ المروريةِ، ونقفُ منْ ذلكَ موقفاً محايداً، المسؤوليةُ شاملةٌ على جميعِ أفرادِ المجتمعِ، قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "كلكُم راعٍ وكلٌّ مسؤولٌ عن رعيتِهِ" كلٌّ مسؤولٌ بحسبِ مكانِهِ.
إخوة الإسلامِ: نعودُ بكم إلى الوراءِ حقبةً من الزمنِ، تقطَّعَ الناسُ ألماً في غابرِ أزمانِهم، كمْ من أُناسٍ وُلِدُوا وماتوا ولم يبرحوا ديارَهُم، كانتْ الخُطى قصيرةً، والأسفارُ مريرةً، فما كانتْ وسائلُ للترحالِ، غيرَ الحميرِ والبغالِ والجمالِ، كانتْ الديارُ متباعدةً؟ فكم من أقدامٍ وأقدامٍ دكَّتْ سفوحَ الآكامِ في سفرٍ بعيدٍ، تاقتْ لرؤيةِ أحبابِها، أو رحلَتْ لجلبِ أرزاقِها، فهلكتْ دونَ ما تريد؟ أليسَ في ذلكَ مُدَّكَرٌ وعبرةٌ لمن اعتبرَ؟
أمَّا نحنُ فإنَّنَا بنعمةٍ لو تأمَّلْناهاَ لماَ أسْرَفْنَا على أنفسِنَا بعدمِ شكرِهاَ، أَجِلْ بصرَك في الشارعِ والبيتِ والمدرسةِ والمستشفى والمزارعِ والأسواقِ والمراكبِ والطرقِ لترى كمْ نحنُ بنعمٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى، قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 34].
نحنُ بنعمةٍ غامرةٍ لا تُكالُ بالموازينِ، ولا تُكتبُ بالدواوينِ من ضفائِها وسبوغِها، المتأملُ البصيرُ الذي يعرفُ بُعدَ النجعةِ بينَ الماضي والحاضرِ يُدركُ قيمةَ التأمُّلِ والتقديرِ.
في ثُلَّةٍ من السنينِ مضتْ تهاطلتْ النعمُ علينا تَهاطُلَ المطرِ الغزيرِ، فما عرفَ الناسُ في ديمةِ هطولِها، وخِضَمِّ حُلُولِها، شكرَ تلكَ النعمِ، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7] فبسببِ تقصيرِ الناسِ في شُكرِ هذهِ النعمِ شكراً عملياً عادتْ النتائجُ معكوسةً، والمردوداتُ منكوسةً.
أنعمَ اللهُ علينا بنعمةِ الوسائلِ فاختُرعتْ السيارةُ، وصُنعتْ الطيارةُ، وراحَ الناسُ يجوبونَ مشارقَ الأرضِ ومغاربِها، يذرعونَ فجاجَهاَ، عُبدتْ الشوارعُ، وزُفِّتتْ الطرقاتُ، فتقاربتْ البلدانُ، وأصبحَ أهلُهاَ كالجيرانِ.
نعمةُ السياراتِ نعمةٌ عظيمةٌ، ولا يُنكرُ ذلكَ فاهِمٌ مدركٌ، لكنَّ الناسَ فرَّطُوا في هذهِ النعمةِ، وأساؤُوا استخدامَهَا، فصارتْ مصدرَ شرٍّ وقلقٍ وإزعاجٍ، كثُرتْ الحوادثُ، وصارتْ القيادةُ مغامرةً، وأصبحَ كثيرٌ منَ الشبابِ -هداهُمُ اللهُ- كأنَّهُم في مضاميرِ سباقاتٍ، فلا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ، فكم من الباكينَ على أبنائِهم؟ وكم من المحزوناتِ على أبنائِهِنَّ؟ وكم من مدامعَ سُكبتْ وقلوبٍ تقطعتْ، وأفئدةٍ تمزقتْ، بسبب نزوةٍ أو سرعةٍ، تزاهقَتْ من جرائِهَا أرواحُ الأبرياءِ، وتناثروا أشلاءَ، وتقطعوا بينَ الدماءِ، بسببِ سرعةٍ وغفلةٍ أو بسبب تعبٍ ونعاسٍ، أو بسبب اتصالٍ أو رسالةِ جوالٍ، أو مداعبةِ أطفالٍ، أو بسببِ الواتس آب والتويتر.
والآنَ خرجَ عليناَ مُهلكٌ جديدٌ اسمُهُ: السناب شات، للأسف أنَّ السيارةَ لم تَعُدْ سيارةً، تلكَ التي يقودُها ذو الجدارةِ، إذا سارَ سارَ بشطارةٍ، وإذا انعطفَ أعطى الإشارةَ، إنما أصبحتْ عندَ كثيرٍ من الشبابِ لُعبةً يستعرضُ بها في أوساطِ الناسِ وفي طُرقاتِهم، يؤذي العابرينَ بالأنوارِ المزعجةِ، والأبواقِ الصاخبةِ، وأصواتٍ تخرجُ من جوفِ السيارةِ يتعرَّضونَ بها لتَحَسُّبِ النائمينَ والمرضى وأهلِ البيوتِ عليهِم، يا ولدي هل تريدُ الوزرَ والسيئاتِ وأسبابِ الحوادثِ بدعاءِ الناسِ عليكَ؟ أهلُكَ أحبَّوْكَ فاشتَرَوْا لكَ سيارةً، والدولةُ وثقتْ فيكَ ومنحتْكَ رخصةَ قيادةٍ، فهل هذا جزاءُ منْ أحسنَ إليكَ، أنْ تكونَ سبباً في همِّ وحَزَنِ أسرتِك ومجتمعِك، فلا تستفيقُ إلا على اصطدامٍ مؤلمٍ، أو انقلابٍ محطِّمٍ، فتكونُ الكارثةُ؟ وقد قالَ اللهُ -عز وجل-: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء: 29]، وقال تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195].
التقيدُ بالأنظمةِ والقوانينَ، والالتزامِ بقوانينِ الإشاراتِ المروريةِ مظهرٌ حضاريٌ، وهوَ من أسبابِ الحفاظِ على الأنفسِ والممتلكاتِ.
وإشاراتُ المرورِ هي في الحقيقةِ توزيعٌ لحقوقِ العبورِ، وتجاوزُ الإشارةِ الحمراءِ إنَّما هوَ تعَدٍّ على حقوقِ الآخرينَ، ويتجاوزُ الأمرُ مفهومَ التعدي إلى تعريضِ الآخرينَ للخطرِ أثناءَ تمتُّعِهِم بحقوقِهِم.
فينبغي لنا أنْ نتكاتفَ معَ رجالِ المرورِ، ونحترمَ الأنظمةَ، ونُطيعَ منْ ولاَّهُمُ اللهُ أمرَ المسلمينَ، فإنَّ في ذلكَ طاعةٌ للهِ -عز وجل-.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
إخوةَ الإسلامِ: أيُعقلُ أنْ تتصدرَ بلادُنا أممَ العالَمِ بنسبةِ الحوادثِ ونسبةِ من يموتونَ ويُعاقونَ بسببِها، وأنتم تُلاحظونَ ذلكَ لا نحتاجُ إلى إحصائياتٍ، فقلَّما تجدُ أسرةً لم تُوعَكْ بحادثٍ، تفقدُ فيهِ قرةَ عينِها.
أيُّها الأبناءُ: رفقاً بأنفسِكم فأبواكُم وأمتُكُم بحاجةٍ إليكم.
يا ولدي: أتدري أنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أقبلَ عليهِ رجلٌ، فقالَ: أُبَايعك على الهِجْرَةِ والجهادِ أبتغي الأجرَ من اللَّهِ -تعالى-؟ فهلْ شيءٌ أعظمُ -يا ولدي- من الهجرةِ والجهادِ، وشدةِ حاجةِ النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- لذلكَ، ومعَ ذلكَ استمعْ -باركَ اللهُ فيكَ- ماذا قالَ له النبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-؟ قالَ: "فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟" قال: نَعَم؛ بَلْ كلاهما، قال: "فتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى-؟" قال: نَعَم، قال: "فَارْجِعْ إِلى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا" [متفق عَلَيْهِ].
وفي رواية أخرى أنه قال: "فَفِيهما فَجَاهِدْ".
يا أخي الكريم، ويا ولدي العزيز: يموتُ أناسٌ، ويُجرحُ آخرونَ في كلِّ ساعةٍ، فمَنِ المسؤولُ عن ذلكَ؟ كلُّنا مسؤولونَ عن ذلكَ، أنتَ وأناَ ورجلُ المرورِ، كلُّنا رجلُ مرورٍ وأمنٍ.
إنَّ الشعوبَ وحضارتَها تقاسُ بحفاظِها على مواردِها البشريةِ والماديةِ، واحترامِها للأنظمةِ والقوانينَ، نحنُ أَوْلى مِنْ غيرِنا بالإنضباطِ والمثاليةِ، نحنُ أهلُ دينٍ وأربابُ رسالةٍ، كانَ أجدرُ بناَ ونحنُ أولئكَ أنْ نكونَ قدوةً يَحتذي بناَ الآخرونَ مِنْ شعوبِ العالَمِ.
فنسألُ اللهَ أن ييسرَ لنا ما تعسَّرَ من مصالحِ المعاشِ والمعادِ، وأنْ يحفظَ عليناَ دينَناَ وأمنَناَ، وأن يقينَا شرَّ أنفسِنا والشيطانِ.
صلوا وسلموا على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحابته أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي