تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواماً، فيجعلهم في الخير قادة وأئمة، تُقتص آثارهم، ويقتدى بفعالهم، ويُنتهى إلى رأيهم، ترغب...
الحمد لله الذي فقه من أراد به خيراً في الدين، ورفع منازل العلماء فوق العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهد لنفسه بالوحدانية، وشهد بها ملائكته والعلماء من المؤمنين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله رحمة للمؤمنين، وقدوة للعاملين، وحجة على الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المسلمون: حيث إن المدارس غداً ستفتح أبوابها لطلاب العلم، كان عليّ أن أذكر فضل العلم، وطرق تحصيله، ولمن يطلب هذا العلم؟
إذ أن كثيراً من شبابنا وقعوا في هاوية عظيمة، وحفرة عميقة، ألا وهي تعلم العلم لغير الله -سبحانه-.
فيا طلاب العلم الشرعي: اعلموا أنه قد ورد من كلام ربنا -سبحانه-، وكلام نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ما يحث ويرغب في طلب العلم وتحصيله، وسلوك طريقه، يقول المولى -جل جلاله-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11].
وبين سبحانه أن أخشى الناس هم العلماء، فقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28].
ويقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"[البخاري: بَاب من يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ (1/39)، رقم (71)، ومسلم: باب النهي عن المسألة (2/718)، رقم (1037)].
ويقول: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة"[مسلم: بَاب فَضْلِ الِاجْتِمَاعِ على تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَى الذِّكْرِ (4/2074)، رقم (2699)].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً"[الترمذي: باب منه (4/561)، رقم(2322)، وابن ماجه: باب مثل الدنيا (2/1377)، رقم (4112)].
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "عليكم بالعلم، فو الذي نفسي بيده! ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم، وإن أحداً لم يولد عالماً، وإنما العلم بالتعلم"[إحياء علوم الدين (1/8)، ومفتاح دار السعادة (1/121)].
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من خرج في طلب العلم فهو سبيل الله حتى يرجع"[الترمذي: باب ما جاء في كتمان العلم (5/29)، رقم (2647)، وقال:" هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ فلم يَرْفَعْهُ "].
وقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواماً، فيجعلهم في الخير قادة وأئمة، تُقتص آثارهم، ويقتدى بفعالهم، ويُنتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلا في الدنيا والآخرة.
التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، وبه يطاع الله، وبه يعبد، وبه يمجد، وبه يتورع، وهو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء"[جامع بيان العلم وفضله (1/55)، والتقييد والإيضاح (ص60)، والترغيب والترهيب (1/52)].
يقول أبو الدرداء: "مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليلة"[تذكرة الحفاظ (1/41)].
ويقول قتادة: "باب من العلم يحفظه الرجل لعلاج نفسه، وصلاح من بعده، أفضل من عبادة حول"[شرح السنة (1/279)، ومسند ابن الجعد (1/163)، وحلية الأولياء (2/431)، وجامع بيان العلم وفضله (1/23)].
ويقول يحيى بن أكثم: "قال الرشيد يوماً: ما أنبل المراتب؟ قلت: يا أمير المؤمنين! ما أنت فيه. أي: من الرئاسة، قال: فتعرف من هو خير مني؟ قلت: لا، قال: لكني أعرفه، رجل يقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: قلت: يا أمير المؤمنين! أهذا خير منك، وأنت ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وولي عهد المؤمنين؟ قال: نعم. ويلك! هذا خير مني؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا يموت أبداً، ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر"[الآداب الشرعية (2/137)، والنكت على مقدمة ابن الصلاح (1/34)].
ومن أجمل ما ورد في تشريف العلم لصاحبه: "أن نافع بن عبد الحارث لقي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعسفان، وكان عمر ولاه على مكة، فسأله: من استخلفت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولىً من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله -عز وجل-، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين"[مسلم: بَاب فَضْلِ من يَقُومُ بِالْقُرْآنِ وَيُعَلِّمُهُ وَفَضْلِ من تَعَلَّمَ حِكْمَةً من فِقْهٍ أو غَيْرِهِ فَعَمِلَ بها وَعَلَّمَهَا (1/559)، رقم (817)].
ومن تشريفه لصاحبه: أنه يرفعه على الملوك والأمراء، يقول إبراهيم الحربي: " كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من مكة، قال: وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: قوما، فقاما، فقال: يا بني! لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود"[الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/140)، وتاريخ مدينة دمشق (40/375)].
يا طلاب العلم: إن ما سقناه من آيات وأحاديث وآثار إنما هي نقطة من بحر مما ورد في فضل العلم، وتعلمه، وسعادة من تعلمه، ولكن هناك طرقاً ينبغي لمن أراد تحصيل هذا العلم أن يتبعها، ويعمل بها؛ ليدرك مطلوبه، ويفوز بالنجاح في الدارين.
وأول هذه الطرق وأهمها: طلب العلم لوجه الله -سبحانه-، وهذا الأمر هو الذي قصر به كثير من شبابنا -هداهم الله- فحرموا لذة هذا العلم الشريف، وعزته، ورفعته، وما ذاك إلا لقصر النظر وضعف الدين، ولقد صار جُل همهم، وغاية مطلوبهم؛ حصولهم على شهادة تؤهلهم إلى جمع حطام هذه الدنيا الزائلة، لذلك حرمهم الله من هذا العلم الشريف، فكثير ممن هذه حالتهم يحصلون على شهادة الجامعة، وهم لم يفقهوا من العلم شيئاً.
فيا من هذا مطلبهم! اعلموا أنكم آثمون يوم القيامة معاقبون، وأن الله محبط ما كنتم تعملون، يقول الله -سبحانه-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[هود: 15-16].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) أي: ثوابها: (وَزِينَتَهَا) أي: ما لها: (نُوَفِّ) أي: نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد، وأما الآخرة فحابط ما عملوه"[الدر المنثور (4/406)].
ويقول قتادة: "من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاءاً، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة" [المصدر السابق (4/408)، وابن أبي حاتم (6/2012)].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله -سبحانه- لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة"[مسند أحمد (2/338)، رقم (8438)، وابن حبان: ذكر وصف العلم الذي يتوقع دخول النار في القيامة لمن طلبه (1/276)، رقم (78)].
أي: ريحها.
ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كَيْفَ أَنْتُمْ إذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فيها الصَّغِيرُ، وَيَهْرَمُ فيها الْكَبِيرُ، وَيَتَّخِذُهَا الناس سُنَّةً؛ فَإِنْ غُيِّرَ منها شَيْءٌ، قِيلَ: غُيِّرَتْ السُّنَّةُ، قَالَوا: مَتَى يَكُونُ ذلك يا أَبَا عبد الرحمن؟ قال: إذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ"[الدارمي: باب تغير الزمان وما يحدث فيه (1/75)، رقم (186)، ومصنف ابن أبي شيبة (7/452)، رقم (37156)].
فيا أيها الشباب: قفوا عند هذه الأحاديث وقفة صادقة، تراجعون بها أنفسكم، وتصححون بها أخطاءكم، وتغيرون بها ما انطوت عليه سرائركم، وما أكنته صدوركم، وليطرح كل واحد منكم على نفسه على هذا السؤال: ما الغرض من دراستي؟
فإن كان الجواب: الحصول على شهادة تكون سبباً لجلب المال فقط، فقد سمعت ما هي العقوبة المدخرة لك، إلا أن يكون القصد الأساسي شهادة تنفع بها مجتمعك، وتستعين على قضاء حوائجهم فحسن.
وإن كان الجواب -يا أخي- قصد الرياء والسمعة، فإليك ما ورد:
جاء الحديث الصحيح يحمل الوعيد الشديد للثلاثة الذين أفسد الرياء أعمالهم، ونقلهم من ديوان المخلصين الصادقين إلى ديوان المرائين الكاذبين، فكانوا أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، ومن هؤلاء: «رجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتى فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكن تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار"[مسلم: (8/399)، رقم (1905)، ولفظه:" عن سُلَيْمَانَ بن يَسَارٍ قال: تَفَرَّقَ الناس عن أبي هُرَيْرَةَ، فقال له نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ: أَيُّهَا الشَّيْخُ! حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ من رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: نعم. سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ أَوَّلَ الناس يُقْضَى يوم الْقِيَامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: قَاتَلْتُ فِيكَ حتى اسْتُشْهِدْتُ، قال: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وَجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قال: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هو قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وَجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ الله عليه وَأَعْطَاهُ من أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: ما تَرَكْتُ من سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فيها إلا أَنْفَقْتُ فيها لك، قال: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هو جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ"].
وإن كان القصد في تعلمك مباهاة العلماء، ومماراة السفهاء، فإليك ما ورد من كلام الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه جابر يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس؛ فمن فعل ذلك فالنار النار"[الترمذي: بَاب ما جاء فِيمَنْ يَطْلُبُ بِعِلْمِهِ الدُّنْيَا (5/32)، رقم (2654)، وابن ماجه: بَاب الِانْتِفَاعِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ (1/96)، رقم (259،260)، وابن حبان: ذكر وصف العلم الذي يتوقع دخول النار في القيامة لمن طلبه (1/278)، رقم (77)، والدارمي: بَاب الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ فيه (1/92)، رقم (255)].
فيا طالب العلم: جاهد نفسك على الإخلاص، والتجرد، وتحرى بعلمك وجه الله والدار الآخرة، واعلم أن قصدك هذا سيحقق لك سعادة الدارين، فتحصل على العلم والشرف والرفعة معاً.
الأمر الآخر والذي فقد من بعض طلاب العلم: هو عدم العمل بمقتضى ما عملوه، حتى صار هذا الأمر سبباً في حرمانهم من العلم، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إن وجهاً من وجوه حرمان العلم عدم العمل به، وإن العمل به يوجب تذكره وتدبره، ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه"[مفتاح دار السعادة (1/172)].
وقال بعض السلف: "يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه، وإلا ارتحل"[جامع بيان العلم وفضله (2/10)، وإحياء علوم الدين (1/59)].
فالعمل هو ثمرة العلم، والعلم مقصود لغير العمل بمنزلة الشجر بلا ثمر، وفي الحديث: "أشد الناس عذاباً عالم لم ينفعه الله بعلمه"[كنز العمال (10/90)، رقم (29099)، وبيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام لابن القطان (2/341) ثم قال:" قال ابن صخر: وهذا غريب الإسناد والمتن، وابن وهب أرفع من يحيى ابن سلام، ولم يرو هذا هكذا فيما قيل غير البري. انتهى كلام ابن صخر"، وذخيرة الحفاظ (2/967)، وقال:" حديث إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه رواه أبو الجنيد الضرير خالد بن الحسين عن عثمان بن مقسم عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وهذا يعرف بعثمان بن مقسم البري والبلاء منه لا من ابن أبي الجنيد، وقد رواه ابن وهب عن يحيى بن سلام عن البري"].
وقد قيل:
وعالم بعلمه لم يعملن *** معذب من قبل عباد الوثن
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي فرض على العباد أداء الأمانة، وحرم عليهم المكر السيئ والغدر والخيانة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم القيامة، ونؤمل بها الفوز في دار الكرامة، وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وأصحابه أهل الاستقامة.
أما بعد:
عباد الله: لقد سمعتم عن العلم وفضله ومكانته عند الله -سبحانه- ما فيه الكفاية، وحيث إن هذا العلم، لا يتأتى إلا من معلم يعلمه، لذا كان لزاماً على معلم هذا العلم الشريف، والذي يحمل هذه الرسالة الخالدة إلى أبناء مجتمعه، وقد تحمل هذه الأمانة التي ألقيت على عاتقه: أن يكون هدفه وسلوكه وتفكيره لإصلاح جيل ينتفع بهم المسلمون، وإعداد نشء يكونون قادةً وأئمة، ويكونون لبنة صالحة في بناء الأمة.
ولن يكون المعلم بهذا المستوى حتى يخلص عمله لله -سبحانه-، ولا يؤتي أُكله مهما كان إذا كان مذبذباً، متناقضاً في أعماله، لا تتفق حياته مع رسالة الدين والعلم؛ لأن العلم لا يقتضي العلم والمقدرة والمؤهل فقط، بل يجب أن يكون في سيرته وأخلاقه وإيمانه أرفع وأعلى من مقدرته ومؤهله.
روى الجاحظ: "أن عقبة بن أبي سفيان لما دفع ولده إلى المؤدب قال: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، وعلمهم سير الحكماء وأخلاق الأدباء"[حلية الأولياء (9/147)، وجمهرة خطب العرب (2/224)].
أيها المدرس: عليك أن تسلك كل سبيل حسن، خاصةً وأنت تقوم بتأدية هذه الرسالة الحميدة؛ فإن الطالب يستقي أخلاقه وأعماله من أخلاقك وأعمالك أكثر مما يستقيها من أقوالك، فمجرد التوجيه بأقوال لا تصدقها الأعمال وتؤيدها الفعال ممقوت عند الله -سبحانه-، قبل أن تكون ممقوتاً أمام من وقفت أمامهم، يقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)[الصف: 2-3].
فإذا علمت هذا -أيها المعلم-: فاعلم أنك باقترافك المعصية معرض نفسك لأحد أمرين:
فإما أن تسكت عن هذا المنكر لسبب اقترافك له، فتأثم وتخون الأمانة التي حملتها.
وإما أن تنكر وأنت فاعل له، فتمقت عند الله -سبحانه-.
أيها المدرس: كيف تستطيع أن تأمرهم بالصدق وأنت تكذب؟
كيف تستطيع أن تنهاهم عن إسبال الثياب وأنت مسبل؟
كيف تنهاهم عن حلق اللحية وأنت تحلق لحيتك؟
كيف تنهاهم عن شرب الدخان، وهم يرون أثر الدخان في وجهك، فيرون اسوداد شفتيك، واصفرار أسنانك، ويشمون رائحته من فمك؟
فيا من رمى الآباء بأبنائهم إليك؛ لتتولى تربيتهم، وتقوم بعنايتهم، وتوجيههم، اتق الله في نفسك، وأصلح ظاهرك وباطنك، واستشعر هذا الموقف الذي وقفته أمام هذه الأغصان الغضة، والقلوب الصافية، فإذا عجزت عن إصلاح نفسك؛ فاعلم أنك لن تستطيع إصلاح غيرك، فاترك هذا المجال لمن هو أحق به منك.
ولكن الذي يندى له الجبين، وتئن له الفضيلة، وتبكي له المروءة، أن بعض المدرسين لم يكتف بظهوره بالمظهر الرديء أمام طلبته، بل يزيد في العناد والعصيان، فيذهب أول الدرس بأسئلة تافهة مع طلبته، فيسألهم عما عُرض البارحة؟ وعن أي الفريقين فاز بالكرة؟ ومن اللاعب الذي تفوق بلعبه؟
كأنه مطالب بهذه الأسئلة، وكأنها من شرائع الإسلام التي شرعت، أو من مكارم الأخلاق التي امتدحت؟
ولم يعلم أن كل هذه الأمور إنما هي أمور أتى بها أعداء الإسلام لإفساد شبابنا، وإضلالهم، وإخراجهم عن طريق الحق إلى طريق الغي والضلال.
ولكن –والله- لئن لم ينته من هذا دأبهم، وهذه حركاتهم عن هذه الأعمال التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولا تزيد الطالب رفعة، ليجدن ما قدمه من سوء محضراً، وليسألن عن هذه الأمانة التي ضيعها، يقول الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته"[البخاري: باب الجمعة في القرى والمدن (1/304)، رقم (853)، ومسلم: بَاب فَضِيلَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَعُقُوبَةِ الْجَائِرِ وَالْحَثِّ على الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ وَالنَّهْيِ عن إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عليهم (3/1459)، رقم (1829)].
فاتقوا الله -عباد الله-: ووجهوا الشباب التوجيه الصالح الرشيد، وكونوا لهم قدوة في توجيهكم، وأئمة في هدايتكم، يصلح الله لكم أبناءكم، ومن تحت أيديكم، فكما تدين تدان.
أيها المسلمون: صلوا وسلموا على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد أمركم الله بذلك، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أقم راية الجهاد، اللهم أقم راية الجهاد، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين.
اللهم وأصلح ولاة أمور المسلمين عامة وولاتنا خاصة، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم جنبهم قرناء السوء يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا جميعاً من أنصار دينك، اللهم اجعلنا جميعاً من أنصار دينك، ومن حزبك المفلحين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي