ورد أن معه جنة ونارًا، وجنته نار، وناره جنة، وأن معه أنهار الماء وجبال الخبز، ويأمر السماء أن تُمْطِر فتمطر، والأرض أن تُنْبِتَ فتنبت، وتتبعُه كنوزُ الأرض، ويقطع الأرض بسرعة عظيمة كسرعة...
أيها المسلمون: لقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- علاماتٍ وأشراطًا للساعة إذا ظهرت فقد قَرُبَ قيام الساعة، وآذنت الدنيا بالانتهاء.
وإن أكبر أشراط الساعة وأعظمها: فتنة خروج المسيح الدجال؛ فإنه لا فتنةَ أكبرُ من فتنته منذ خلق الله آدم -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- إلى قيام الساعة، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، وذلك بسبب ما يخلق الله -جَلَّ وَعَلاَ- معه من الخوارق العظيمة التي تبهر العقول وتحير الأفئدة، فيستعملها في فتنة الناس، ويزعم أنه ربُّهم وخالِقُهُم!
فقد ورد أن معه جنة ونارًا، وجنته نار، وناره جنة، وأن معه أنهار الماء وجبال الخبز، ويأمر السماء أن تُمْطِر فتمطر، والأرض أن تُنْبِتَ فتنبت، وتتبعُه كنوزُ الأرض، ويقطع الأرض بسرعة عظيمة كسرعة الغيث استدبرته الريح... إلى غير ذلك من الخوارق العظيمة التي تعظم الفتنة بها.
ولِعِظَمِ فِتْنَتِه وكَثْرَةِ مَن يَكْفُر بِسَبِبه فإنه ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أنذر أمَّتَهُ المسيح الدجال، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أكثر الأنبياء ذكرًا له وتحذيرًا منه، حتى إنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ ذكره ذات غداة فخفض فيه ورفع؛ حتى ظنه الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- في طائفة النخل.
وقد ذُكِرَ للدجال صفات كثيرة في الأحاديث النبوية؛ لتعريف الناس به، وتحذيرهم مِن شَرِّهِ؛ حتى إذا خرج عرفه المؤمنون؛ فلم يفتتنوا به.
فمن تلك الصفات: أنه رجل من بني آدم، شابٌّ أحمر، قصير، أفْحَج، جِفَال الشَّعْر أي: كثيره، جَعْد الشعر، أجلى الجبهة، عَرِيض النحر، مطموس العين اليمنى، وهذه العين ليست ناتئةً بارزة، ولا غائرةً جحراء، كأنها عنبة طافية، فيه انحناء، مكتوب بين عينيه "ك ف ر" بالحروف المقطعة، وفي بعض الأحاديث بدون تقطيع، يقرأها كل مسلم كاتب أو غير كاتب، ومن صفاته أنه عقيم لا يولد له.
وهو حي موجود الآن، قد رآه تميم الداري -رضي الله عنه- في بعض جزر البحر، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فأقره عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ. وليس هو ابن الصياد الذي كان في المدينة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصح أقوال أهل العلم، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال كما في حديث الجسَّاسة: "أَلاَ إِنَّهُ (يعني الدجال) فِي بَحْرِ الشَّامِ أو بَحْرِ الْيَمَنِ، لاَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُو، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ" وَأومأ بيده نحو المشرق.
فهو يخرج من جهة المشرق، من خراسان، من يهودية أصبهان؛ كما في الترمذي وغيره عن أبي بكر الصديق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا: خُرَاسَانُ"، وفي المسند وغيره عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْيَهُودِ"، قال الحافظ ابن كثير: "فيكون بدء ظُهورِهِ مِن أصبهانَ، من حارةٍ يقال لها: اليهودية".
فيمكث في الأرض أربعين يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، وقد سأل الصحابةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اليوم الذي كسنة: كيف الصلاة فيه؟ فقال: "اقْدِرُوا لَهُ قَدْرَهُ" أي: قدِّروا قدْر يوم من أيامكم المعهودة، وصَلُّوا فيه كُلَّ يوم بِقَدْرِ ساعاتِهِ.
وأما أتباع الدجال فأكثرهم من اليهود، والعَجَمِ، والتُّرْكِ، ويتبعه أخلاف من الناس غالبهم الأعراب والنساء.
ويكون هلاكُه على يد المسيح عيسى ابن مريم -عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاَةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ-؛ وذلك أن الدجال يظهر في الأرض كلها إلا مكة والمدينة، ويكثر أتباعه، وتعم الفتنة به؛ فلا ينجو من فتنته إلا قلة من المؤمنين.
عند ذلك ينزل عيسى ابن مريم -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- على المنارة الشرقية بدمشق، فيلتف حولَه عبادُ الله المؤمنون، فيسير بهم نحو الدجال، ويكون الدجال عندئذ قد توجَّه إلى بيت المقدس، فيدركه عيسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- عند باب لُدٍّ وهي بلدة في فِلَسطين قُرْبَ بيتِ المقدس، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح، فيقول عيسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: "إِنَّ لِي فِيكَ ضَرْبَةً لَنْ تَفُوتَنِي"، فيتداركه عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فيقتله بحَرْبَتِهِ. ثم ينهزم أتباعُه، فيتَّبِعُهم المؤمنون ويقتلونهم "حتى لا يبقى شجر ولا حجر إلا وهو يقول: يَا عَبْدَ اللَّهِ، يَا مُسْلِمُ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي؛ تَعَالَ فَاقْتُلْهُ. إِلاَ الْغَرْقَدَ؛ فَهُوَ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ".
عباد الله: قد ورد الأمر بالاستعاذة من شر فتنة المسيح الدجال دُبُرَ كُلِّ صلاة مكتوبة كما تعلمون، وذلك يفيد أمرين: يفيد شِدَّةَ فِتْنَةِ المسيحِ الدجال، ويفيد قُرْبَ خُرُوجِهِ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ".
وقد جاءت السنة المطهرة ببيان الأمور التي تَعْصِمُ من فتنة المسيح الدجال بإذن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فمن ذلك: حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف؛ فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ" (أي: من فتنته).
ومن ذلك: ابتعاد المسلم عنه إذا سمع به؛ ففي الترمذي وغيره عن عِمرانَ بنِ الْحُصَيْنِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَمِعَ مِنْكُمْ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ؛ فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُؤْمِن فَيَتْبَعُهُ؛ مِمَّا يَبْعَثُ مِنَ الشُّبُهَاتِ".
ومما يعصم من فتنة المسيح الدجال: سُكْنَى مكة والمدينة؛ فإنهما محروستان لا يستطيع دخولهما؛ كما ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وإن بث أحاديث الدجال بين الرجال والنساء والأطفال لَمِمَّا يُعِينُ على معرفته والتَّوَقِّي من فتنته؛ ولذا كان السلف -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- يستحبون الإكثار من الحديث عنه، كما كان رسولكم -صلى الله عليه وسلم- يفعل، بل قد ورد في بعض الآثار: "لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر".
فبثوا أحاديثه بين أهليكم وأبنائكم كما كان السلف -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- يفعلون ذلك؛ لتأمنوا فتنته بإذن ربِّكم -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي