ما تقولونَ في دُعاءٍ قد اختارَهُ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لعمِّه العبَّاسِ -رضي الله عنه- وكرَّرَه عليه مرتينِ في كلِّ مرةً يسألُه فيها عن دُعاءٍ خاصٍ؟ بل وفي المرَّةِ الثانيةِ يقولُ له: "يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ"، أي: كأنَّه يقولُ له: عليكَ بهذا الدُّعاءِ وصيَّةً من ابنِ أخيكَ. فما هو هذا الدُّعاءُ؟.
الحمدُ للهِ مستحقِ الحمدِ بلا انقطاعٍ، ومُستَوجِبِ الشكرِ بأقصى ما يُستطاعُ، الوهابُ المنانُ، الرحيمُ الرحمنُ، المدعو بكلِّ لسانٍ، المرجو للعفو والإحسانِ، الذي لا خيرَ إلا منه، ولا فضلَ إلا من لدنه.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جميلُ العوائدِ، جزيلُ الفوائدِ، أكرمُ مسؤولٍ، وأعظمُ مأمولٍ، عالمُ الغيوبِ، مفرِّجُ الكروبِ، مجيبُ دعوةِ المضطرِ المكروبِ.
وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه، وحبيبُه وخليلُه، الوافي عهدُه، الصادقُ وعدُه، ذو الأخلاقِ الطاهرةِ، المؤيَّدُ بالمعجزاتِ الظاهرةِ، والبراهينِ الباهرةِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وتابعيه وأحزابِه، صلاةً تُشرق إشراقَ البدورِ.
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أما بعد: أيُّها الأحبَّةُ، ما تقولونَ في دُعاءٍ قد اختارَهُ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لعمِّه العبَّاسِ -رضي الله عنه- وكرَّرَه عليه مرتينِ في كلِّ مرةً يسألُه فيها عن دُعاءٍ خاصٍ؟ بل وفي المرَّةِ الثانيةِ يقولُ له: "يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ"، أي: كأنَّه يقولُ له: عليكَ بهذا الدُّعاءِ وصيَّةً من ابنِ أخيكَ. فما هو هذا الدُّعاءُ؟.
عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ: "سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ"، فَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ، فَقَالَ لِي: "يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ، سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ".
وحيثُ إن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ما كانَ ليُخفِيَ عن أمتِه خيراً وهو الرَّحيمُ بهم، فقد أخبَرهم بهذا الدُّعاءِ وفضلِه وهو على المنبرِ ليسمعَه الجميعُ، فَقَدْ قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ -رضي الله عنه- عَلَى المِنْبَرِ يَومَاً ثُمّ بَكَى، فقَالَ: قامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ الأوَّلِ عَلَى المنْبَرِ ثُمّ بَكَى، فقَالَ: "سَلُوا اللهَ العَفْوَ والعَافِيَةَ، فإِنَّ أَحَداً لَمْ يُعْطَ بعد اليَقِينِ خَيْراً مِنَ الْعَافِيَةِ".
وصدقَ واللهِ! فأيُّ طعمٍ للدُّنيا دونَ العافيةِ؟ وكيفَ سترى الحياةَ بألوانِها الطَّبيعيةِ؟ وأخبرني عن الأماني والأحلامِ، هل ستبقى أو ستتلاشى مع الآلامِ؟.
سيظهرُ ذلكَ واضحاً، عندما ترتفعُ درجةُ حرارتِكَ إلى قُرابةِ الأربعينَ، وتسري الحُمَّى في كلِّ ذرةٍ من جسمِك، فيلفُّ رأسَكَ ذلكَ الصُّداعُ الأليمُ، ويشلُّ جوارحَكَ ذلكَ التَّعبُ العظيمُ، ويكبحُ مفاصلَكَ ذلكَ الوجعُ الحطيمُ، فتصبح طريحَ الفِراشِ بينَ الحياةِ والموتِ، عندها لن تجدَ لِلَذيذِ الأكلِ والشرابِ طعما.
دعا الحجاجُ بنُ يوسفَ الثَّقفيُ أعرابياً إلى مائدتِه، فقالَ له الأعرابيُ: إني صائمٌ، قالَ له الحجاجُ مُرَغِّباً: إنه طعامٌ طيبٌ، فقالَ الأعرابيُ: واللهِ ما طيَّبَه خبازُك ولا طباخًك، ولكن طيَّبتْه العافيةُ.
أخبرني عندما يحضرُ عقلُكَ حِيناً ويغيبُ أحياناً بسببِ الآلامِ، وتمرُّ الأفكارُ في خيالِكَ مُبعثرةً مُتتاليةً مُتشابكةً كالأفلامِ، ذكرياتُ طُفولةٍ، وأمنياتُ مُستقبلٍ، وأضغاثُ أحلامٍ، لا تُفرِّقُ بينَ الليلِ والنَّهارِ ولا السَّاعاتِ ولا الأيامِ، عندَها يتذكَّرُ أحدُنا قولَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"، وكيفَ فرَّطَ في العملِ في أوقاتِ العافيةِ، وما كانَ من تقصيرٍ في الأيامِ الخاليةِ، ويريدُ تعويضَ ما فاتَ، وتبديلَ السيئاتِ بالحسناتِ.
حينها سنعلمُ حقيقةَ الدُّنيا، وأنَّها بدونِ العافيةِ لا تُساوي شيئاً، وسنقولُ صدقَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حينَ قالَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِه، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا".
فليحمدِ اللهَ عبدٌ قد رُزقَ صحةً في بدنِه، وليحافظْ على هذه النِّعمةِ قبلَ أن تزولَ. قالَ رجلٌ لصاحبِه وهو يتأملُ في القصورِ: أينَ نحنُ حينَ قُسمتْ هذهِ الأموالُ؟ فأخذَه صاحبُه إلى المستشفى، وقالَ له: وأينَ نحنُ حينَ قُسمتْ هذه الأمراضُ؟.
أتعلمونَ -يا عبادَ اللهِ- ما هي أولُ نعمةٍ يُسألُ عنها العبدُ يومَ القيامةِ؟ قالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَوَّلَ ما يُسْأَلُ عَنْهُ يوم الْقِيَامَةِ -يَعْنِي الْعَبْدَ- من النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ له: أَلَمْ نُصِحَّ لك جِسْمَكَ، وَنرْوِيَكَ من الْمَاءِ الْبَارِدِ؟".
فينبغي علينا أن نعرفَ قدرَ هذه النِّعمةِ، ولا نستهينَ بها، كما قالَ سَمنونُ:
وليسَ لي في سِواكَ حَظٌّ *** فكيفما شِئتَ فامْتَحِنِّي
فابتُليَ بحصرِ البولِ، فصارَ يطوفُ على الكتاتيبِ ويقولُ للأطفالِ الذينَ يحفظونَ القرآنَ: ادعوا لعمِّكم الكذابِ.
أينَ هذا عن قولِ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ -رضي الله عنه-: "لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُر، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنِ ابْتَلَى فَأَصْبِرَ".
ولذلكَ لمَّا وعظَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رجلاً، قالَ له: "اغْتَنِم خمسًا قبل خمسٍ: شَبَابكَ قَبل هَرمِكَ، وصِحَتَكَ قبل سَقَمِكَ، وغِنَاكَ قبل فَقْرِكَ، وفراغَكَ قبل شُغلِكَ، وَحياتَكَ قبل موتِكَ".
أيُّها الأحبةُ، أخبروني: ما هي الآمالُ لولا العافيةَ؟ وهل ستبقى الأموالُ عندنا غالية؟ كيفَ ستُبنى الأوطانُ؟ وهل سيتزوجُ الإنسانُ؟ وهل سيسعى في إنجابِ الوِلدانِ؟ هل ستُعمرُ بالمُصلينَ المساجدُ؟ وهل ستمتلئ بالطُّلابِ المقاعدُ؟ وهل سنرى العُمَّالَ والموظفينَ يذهبونَ ويأتونَ في كلِّ حينٍ؟ وهل سترونَ البسمةَ على الشِّفاةِ؟ بل، هل سيكونُ لنا رغبة في الحياةِ؟.
ولأنَّ العافيةَ نعمةٌ غاليةٌ، فقد كانَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- يسألُها ربَّه كلَّ يومٍ في الصَّباحِ والمساءِ، فَعَنْ ابنِ عُمرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَعُ هَؤُلاءِ اَلْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: "اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ اَلْعَافِيَةَ فِي دِينِي، وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي، وَمَالِي، اللهمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي".
سنعرفُ قيمةَ العافيةِ، عندما نرى ذلكَ الرَّجلَ القويَّ الجبَّارَ، وقد أخبرَه الأطباءُ بانتشارِ السَّرطانِ في بدنِه، فهو في مرحلةٍ مُتأخرةٍ، فإذا به يَنحلُ سريعاً سريعاً، ثُمَّ يسقطُ على فراشِه صريعاً.
سنعرفُ قيمةَ العافيةِ، عندما يحتارُ ذلكَ الشَّابُ في مرضِه، الذي لا يعرفُ الطِّبُ له مثيلا، فهو يتجرَّعُ الأسى جُرعاتٍ، ويموتُ كلَّ يومٍ مرَّاتٍ.
سنعرفُ قيمةَ العافيةِ، عندما ندخلُ المستشفياتِ، فنرى أنواعَ الأمراضِ والابتلاءاتِ، وعندها سنعرفُ ما نحنُ فيه من النِّعمِ.
وقديماً كانوا يقولونَ لنا ونحنُ صغارٌ حكمةً لم نعِ معناها حتى كَبِرنا: "الصِّحةُ تاجٌ على رؤوسِ الأصِّحاءِ لا يراهُ إلا المرضى".
أقولُ ما تَسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ، فاستغفروهُ؛ إنَّهُ هو الغفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ذي العزةِ والجبروتِ، والملكِ والملكوتِ، إلى الإسلامِ هدانا، وجعلنا خيرَ أمةٍ أخرجت للناسِ.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وسعَ كلَّ شيءٍ علمًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الذي أكملَ اللهُ به الدينَ، وأتمَّ به النعمةَ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأما أنتم يا أهلَ البلاءِ، فعزاؤكم أن لكم رباً في السَّماءِ، ما منعكم إلا ليُعطيَكم، وما حرمَكم إلا ليُكرمَكم، وما ابتلاكم إلا لمحبتكم، فعليكم بالرِّضا، قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ".
وسيتمنى أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ لو أُصيبوا بأعظم مما أُصبتم به إذا رأوا ما خصَّكم اللهُ -تعالى- به من الكرامةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ".
حينها ستنسونَ كلَّ ما أصابَكم من البأساءِ والضَّراءِ، وستعرفونَ عاقبةَ الصَّبرِ على البلاءِ، كما جاءَ في الحديثِ: "يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ! وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ! مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ!"، فإنما هي ساعاتٌ وأيامٌ، فتذهبُ الآلامُ، وتُقبلونَ على ذي الجلالِ والإكرامِ، وتدخلونَ دارَ السَّلامِ، خالدينَ فيها بصحةٍ وعافيةٍ وسلامٍ.
اللهم إنا نسألُك العفوَ والعافيةَ، والمعافاةَ الدائمةَ، في الدينِ والدنيا والآخرةِ، اللهم إنا نسألُك لقلوبِنا الصفاءَ والنقاءَ، ولأبدانِنا الصحةَ والعافيةَ، ولذرياتِنا الصدقَ والإخلاصَ، برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم تولَّ أمرَنا، وارحم ضعفَنا، واجبر كسرَنا، واغفر ذنبَنا، وبلغنا فيمَا يرضيك آمالَنا. اللهم أنزل علينا الرحماتِ، وأفض علينا الخيراتِ، وضاعف لنا الحسناتِ، وارفع لنا الدرجاتِ، وأقل لنا العثراتِ، وامحُ عنا السيئاتِ، برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم اجعل خيرَ أعمالِنا خواتيمَها، وخيرَ أيامِنا يومَ نلقاك وأنتَ راضٍ عنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي