الصبر ضياء لصاحبه -عباد الله- ونور له في حياته، يستبين به السبيلَ، ويتحمل به المشاق، وتهون عليه الصعاب، وتنبسط له الحياة، ويُسَرُّ فيها غاية السرور، إضافة إلى كريم العطاء، وعظيم النوال، الذي يناله الصابرون عند الله يوم القيامة.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين عباد الله: اتقوا الله؛ فإنّ من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير دينه ودنياه
عباد الله: إن من مقامات الدين العظيمة، ومنازله العلية، ورُتبِه الرفيعة: الصبرَ بأنواعه؛ فالصبر -عباد الله- منزلة عليا، ورتبة رفيعة من رتب دين الله -تبارك وتعالى-، بل هو ساقُ الدِّين الذي عليه يقوم؛ كما قال علي -رضي الله عنه وأرضاه-: "الصبر من الإيمان بمنزلة الجسد من الرأس، ولا إيمان لمن لا صبر له".
عباد الله: لهذا تكاثرت النصوص والدلائل، وتضافرت الحجج والبراهين في كتاب الله -جل وعلا- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ مبينةً مكانة الصبر العظيمة، ومنزلتَه الرفيعةَ، وما يترتب عليه من الآثار الكريمة، والمنافعِ العميمةِ، في الدنيا والآخرة؛ حتى قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "لقد ذُكرَ الصبر في القرآن أكثر من تسعين مرة".
وهذا -معاشر المؤمنين- يدل على مكانة الصبر العظيمة، ومنزلته الرفيعة في دين الله -جل وعلا-، ففي بعض نصوص القرآن الأمر بالصبر، والتحذير من ضده، وفي بعضها بيان آثاره الحميدة، وثماره المباركة على الصابرين في الدنيا والآخرة، بل أخبر -جل وعلا- أنه يحب الصابرين؛ قال تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146]، وأنه معهم كما قال -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
وأخبر بأن لهم البِشارة العظمى، والنوال الكريم في الدنيا والآخرة: (وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155 – 157].
وأخبر -جلّ وعلا- أن الفلاح في الدنيا والآخرة يناله الصابرون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
وأخبر -جل وعلا- أن الصبر خيرٌ لأهله كما قال -سبحانه-: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل: 126]... إلى غير ذلك -عباد الله- من النصوص العظيمة، والدلائل الكريمة، المبينة لمكانة الصبر العلية، ومنزلته الرفيعة.
ولهذا جاء في الصحيحين عن نبينا الكريم -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "ما أعطي أحد عطاءً أوسع ولا خيرًا من الصبر"؛ فالصبر خير العطاء، وأوسع العطاء، وأفضل النوال؛ ولهذا أيضًا قال -صلى الله عليه وسلم-: "والصبر ضياء"؛ الصبر ضياء لصاحبه -عباد الله- ونور له في حياته؛ يستبين به السبيلَ ويتحمل به المشاق وتهون عليه الصعاب وتنبسط له الحياة ويُسَرُّ فيها غاية السرور، إضافة إلى كريم العطاء، وعظيم النوال، الذي يناله الصابرون عند الله يوم القيامة.
عباد الله: إن حاجة المسلم إلى الصبر وضرورته إليه ملحَّة في كل شأن من شؤونه، وكل عمل من أعماله؛ فلا استطاعة للعبد على القيام بأي عمل من الأعمال، أو طاعة من الطاعات إلا بخصلة الصبر العظيمة، ولا استطاعة للعبد على الانكفاف من المحرمات والإحجام عن المنهيات والبعد عن الأمور التي تسخط الله إلا بهذه الخصلة العظيمة، ولا قدرة على العبد على تحمّل الآلام والصعاب والمصائب إلا بهذه الخصلة العظيمة؛ ولهذا قال العلماء -رحمهم الله-: الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
عباد الله: من لا صبر له كيف يحافظ على الصلاة؟! وكيف يواظب على الصيام؟! وكيف يؤدي الطاعات على التمام والكمال؟!
عباد الله: من لا صبر له كيف يبتعد عن المحرمات ويجتنب الآثام؟! من لا صبر له كيف يتحمل مصائب الدنيا؟! ولهذا -عباد الله- كانت حاجتنا للصبر شديدة، وضرورتنا إليه ملحّة.
الصبرُ -عباد الله- خلق عظيم، وخلة كبيرة، وقوة نفسية يترتب على وجودها في العبد فعل الحسن والبعد عن القبيح؛ فالصبرُ -عبادَ الله- قوة في النفس، يستطيع العبد بها -بإذن الله- أن يحبس نفسه عندما يصاب بالآلام والمصائب، يحبس نفسه عما يسخط الله، من قول الحرام أو فعل الحرام، كما قال بعض العلماء: الصبر حبس النفس عن التسخط، حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التسخط، واليد عن لطم الخدود وشق الجيوب، وهذا مجال من مجالات الصبر، وهو الصبر على أقدار الله.
ومما يتعلق بهذه المنزلة -منزلة الصبر- أننا نستقبل شهرًا عظيمًا، وموسمًا مباركًا، وصفه نبينا -عليه الصلاة والسلام- بأنه شهر الصبر، كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "صيام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر". وفي حديث آخر قال -صلى الله عليه وسلم-: "صيام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وَحَرَ الصدر".
عباد الله: فعلينا أن نستقبل موسمنا المبارك وشهرنا العظيم بهذه العُدَّة المباركة، والزاد العظيم، بأن نتحلى بالصبر بأنواعه: صبر على طاعة الله، بالمحافظة على الفرائض والواجبات، والعناية بالرغائب والمستحبات، وصبر عن معاصي الله، بالبعد عن الحرام، واجتناب الآثام، وتوقي ما يسخط الله -تبارك وتعالى-، وصبر على أقدار الله، بأن يُعَوِّد المرء نفسه، ويدربها على التحلي بالصبر إذا ما أصابته مصيبة؛ لأنه يعلم بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11]، قال بعض السلف: "هو المؤمن، تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم".
اللهم حلِّ نفوسنا بالصبر، ومنَّ علينا به يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعلنا صابرين على طاعتك، صابرين عن معصيتك، صابرين على أقدارك المؤلمة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعنا على كل خير، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: إن من مجالات الصبر -ومجالاتُه عديدة- أن يعوِّد المرء نفسه على البذل وصنائع المعروف والصدقة والإحسان، ولاسيما أننا نستقبل موسمًا عظيمًا للصدقة والبذل والإحسان، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تُطفِئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة".
فنسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يكتب لنا كل خير، وأن يعيننا على ذلك، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
واعلموا -رعاكم الله- أن الكيِّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
وصلوا وسلموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النُّورين، وأبي الحسنين علي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم انصر إخواننا المسلمين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وعليك بأعداء الدين؛ فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم آمنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما تحب وترضى، اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، اللهم أصلح ذات بيننا، وألّف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا، واجعلنا مباركين أينما كنا. اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سرّه وعلنه.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، وأعنا فيه على الصلاة والقيام يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وأعنا فيه على الصلاة والقيام يا ذا الجلال والإكرام، وأعنا فيه على كل طاعة تحبها منا يا حي يا قيوم، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وأعنا على البر والتقوى، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا نسألك غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، سَحًا طبقًا، نافعًا غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وديارنا بالمطر، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي