من الشرك الاستعاذة بغير الله

عبد الملك بن محمد القاسم

عناصر الخطبة

  1. إفراد الله بالعبادة
  2. أحكام الاستعاذة وصورها المختلفة
  3. تفسير سورتي الفلق والناس

الحمد لله، نصب للكائنات على ربوبيته براهين وحججًا، فمن شهد له بالوحدانية، وآمن بلقائه، واستعد لمعاده أفلح ونجا، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه واستغفره.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة الحق واليقين، والخوف والطمع والمحبة والرجاء، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله أنزل عليه الكتاب، ولم يجعل له عوجا،صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، أنوار الهدى ومصابيح الدجى، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-: ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر:18]، ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:281].

أيها المسلمون: لقد كان الناس أمة واحدة على الحق بما أودع الله فيهم من فطرة الإِسلام وبما عهد إليهم من الهدى والبيان، فلما طال عليهم الأمد اندثرت عندهم معالم الحنيفية، وَسَرَت فيهم شوائب لوثت العقيدة، وكدرت صفاءها ونقاءها، فوقعوا في الشرك وصرفوا أنواعًا من العبادة لغير الله، فتمزقت وحدتهم واختلفت كلمتهم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وبعث نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى أمة كانت تعيش في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء؛ الشرك أساس دينها، والأوثان أربابها وساداتها، فدعاهم إلى الدين الحنيف الذي قامت عليه الأدلة وأوضحته الآيات وأثبتته البراهين.

والعقيدة -عباد الله- يخاطب بها المؤمنون ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، كما قال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ﴾ [النساء: 136]

وليطمئنوا إلى تحقيق دينهم، وليحذروا النقص أو الخلل فيه؛ بل لقد خاطب الله أنبياءه ورسله بنبذ الشرك والبراءة منه ومن أهله، -وحاشاهم أن يفعلوا ذلك- فقال -جل وعلا: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ [الحج: 26]

وقال -عز وجل- لصفوة خلقه محمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [القصص: 87] وقال له أيضًا: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء: 213]

وخوطب بها أيضًا أهل الضلالة؛ ليسلكوا طريق الهدى، فقال -جل شأنه-: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]

ولا غرو في ذلك -أيها المسلمون-؛ فإفراد الله بالعبادة أصل الدين وملاك الأمر، عليه نصبت القبلة وأسست الملة، إنه أول أمر في كتاب الله، والنهي عن الشرك أول نهي في كتابه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(22)﴾ [البقرة: 21-22].

عباد الله: أمر الله -سبحانه وتعالى- عباده بالاستعاذة به؛ لأنها عبادة من العبادات، قال – تعالى-: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ(2)﴾ [الفلق:1-2] وقال -تعالى-: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس:1].

ومعنى الاستعاذة: الالتجاء والاعتصام بالله -سبحانه-، وحقيقتها الهرب من شيء تخافه، إلى من يعصمك منه، فالعياذ لدفع الشر، وأما اللياذ فطلب الخير.

وهي تعظيم لله -سبحانه وتعالى- فالمستعيذ يشعر بالخوف فيلجأ إلى المستعاذ به، حتى يقيه ويحفظه، وهذا هو التعظيم بعينه، والتعظيم عبادة لله وحده.

أيها المسلمون: الاستعاذة بغير الله شرك أكبر ينافي التوحيد، فإن من استعاذ بغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر؛ كالذي يأتي إلى الأموات من الأنبياء، أو الصالحين، أو غيرهم، ويطلب منهم أن يحموه ويحفظوه من الآفات والشرور، ولو لم ينطق بكلمة: ﴿أعوذ﴾.

فالعائذ بالله قد هرب إليه، واعتصم واستجار به، ولجأ إليه، والتزم بجنابه مما يخافه، وهذا تمثيل، وإلا فما يقوم بالقلب من ذلك أمر لا تحيط به العبارة؛ وقد أمر الله عباده بها في مواضع من كتابه، وتواترت بها السنة عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم- وهي عبادة من أجلِّ العبادات.

قال -تعالى-: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ [الجن: 6] أخبر عمن استعاذ بخلقه، أن استعاذته زادته رهقًا وهو الطغيان، وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا نزل واديًا أو مكانًا موحشًا وخاف على نفسه، قال: "أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه"، فلما رأت الجن أن الإِنس يعوذون بهم خوفًا منهم، زادوهم رهقًا، أي خوفًا وإرهابًا وذعرًا، فذمهم الله بهذه الآية، وأخبر أنهم يزيدونهم رهقًا نقيض قصدهم.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "فيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر، أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك".

عباد الله: قال -صلى الله عليه وسلم-: "من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك" رواه مسلم.

شرع الله سبحانه للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته، بدلاً مما يفعله أهل الجاهلية؛ فالإِستعاذة بالله تورث الأمن، فالله هو الحافظ لعباده من كل مكروه وبلاء.

وقد علمنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن من نزل منزلاً في السفر والحضر فقال: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" أي: ألتجأ وأعتصم بكلام الله الذي لا يلحقه نقص ولا عيب من شر كل مخلوق قام به الشر من إنس، أو جن، أو دابة.

قال هذا الدعاء بلسانه وقلبه، مع الإيمان بوعد الله والتصديق بهذا الأثر العظيم "لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك" رواه مسلم.أي: حفظه الله ووقاه من الشرور حتى يرحل منه.

قال القرطبي -رحمه الله-: "هذا خبر صحيح علمنا صدقه دليلاً وتجربة، منذ سمعته عملت به فلم يضرني شيء إلى أن تركته فلدغتني عقرب ليلة فتفكرت فإذا بي قد نسيته". فحري بنا المحافظة على هذا الدعاء العظيم ذي الأثر الكبير.

وقال الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-: قوله: "لم يضره شيء": "هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مخبره؛ لأنَّه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف؛ فهو لوجود مانع لا لقصور السبب وتخلف الخبر".

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- عن دعاء نزول المنزل: "فيه فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره".

ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب؛ فليس ذلك لخلل في السبب، ولكن لوجود مانع مثل: قراءة الفاتحة على المرضى شفاء، ويقرأها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس ذلك قصورًا في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره.

ومنه: التسمية عند الجماع؛ فإنَّها تمنع ضرر الشيطان للولد، وقد توجد التسمية ويضر الشيطان الولد؛ لوجود مانع يمنع من حصول أثر هذا السبب، فعليك أن تفتش ما هو المانع حتى تزيله فيحصل لك أثر السبب.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]

بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله المتعالي في مجده وملكه، أحمده -سبحانه- وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن شر الشيطان وشركه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون: أمرنا الله -عز وجل- بالاستعاذة به في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(5)﴾.

والفلق: الصبح، والغاسق: فُسر بالليل المظلم، حيث انتشار شياطين الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار، من أنواع الكفر والفسوق، والعصيان، والسحر، والسرقة، والخيانة، والفواحش؛ وغير ذلك، فذكر -سبحانه- في الآية الاستعاذة به من شر الخلق عمومًا، ثم خص الأمر بالاستعاذة من شر الغاسق إذا وقب، ثم خص بالذكر السحر والحسد.

فإن فالق الإصباح بالنور؛ يزيل بما في نوره من الخير ما في الظلمة من الشر، وفالق الحب والنوى بعد انعقادهما؛ يزيل ما في عقد النفاثات.

وأمرنا كذلك في سورة الناس بالاستعاذة به والالتجاء إليه، فقال تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِـن شَرِّ الوسواس الخناس * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ).

فالمقصود أن يستعيذ الناس بربهم وملكهم وإلههم من شر ما يوسوس في صدورهم، فإنه هو الذي يُطلب منه الخير الذي ينفعهم، ويُطلب منه دفع الشر الذي يضرهم.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "سورة الفلق استعاذة بالله من الشرور الخارجية لكيد الإِنسان والجن وغيرهما، وسورة الناس استعاذة بالله من الشرور الداخلية كالوساوس والأمراض".

ولما نزلت هاتان السورتان، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما تعوذ متعوذ بمثلهما" رواه أبو داود. ولهذا شرعت هاتان السورتان، في أذكار الصباح والمساء، فحري بالمسلم المحافظة عليهما مع غيرهما من الأذكار المشروعة.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه.


تم تحميل المحتوى من موقع