الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عِبادَ الله: إنَّ الغُمَّةَ التي أطبَقَت عَلَينا، والهَمَّ والغَمَّ والكَربَ العَظيمَ الذي سَيطَرَ على القُلوبِ إلا من رَحِمَ اللهُ -تعالى- هوَ بِكَسبِ أيدينا, قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، وقال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165]، فمن أنفُسِنا أُصِبنا, وصَدَقَ اللهُ القائِلُ: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
يا عِبادَ الله: مِمَّا كَسَبَت أيدي النَّاسِ فيما خَلا من أعوامٍ وما زالَ هوَ: الظُّلمُ, الذي هوَ ظُلُماتٌ في الدُّنيا والآخِرَةِ, هوَ الظُّلمُ الذي حَرَّمَهُ اللهُ -تعالى- على نَفسِهِ قَبلَ أن يُحَرِّمَهُ على العِبادِ, هوَ الظُّلمُ المُنافي للحَقِّ والعَدْلِ.
رَبُّنا -عزَّ وجلَّ- الذي لا يُسألُ عمَّا يَفعَلُ حَرَّمَ الظُّلمَ على نَفسِهِ, وألزَمَ ذاتَهُ العَلِيَّةَ بالحَقِّ والعَدْلِ, فقال تعالى في الحَديثِ القُدسِيِّ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- عَن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا رَوَى عَن الله -تَبَارَكَ وَتعالى- أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي, إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي, وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً, فَلَا تَظَالَمُوا".
وقال تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
رَبُّنا -عزَّ وجلَّ- حَرَّمَ الظُّلمَ على نَفسِهِ وحَرَّمَهُ على عِبادِهِ, ومعَ هذا اجتَرأَ البَعضُ فَأَحَلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ -تعالى- عَلَيهِم فَظَلَموا؛ جُرأَةٌ عَظيمَةٌ والله لا تَصدُرُ إلا من قَلبٍ غافِلٍ عن الله -تعالى-, ناسٍ وُقوفَهُ بَينَ يَدَيِ الله -تعالى-, يَومَ يَقومُ النَّاسُ لِرَبِّ العالَمينَ.
يا عِبادَ الله: لمَّا كانَ الظُّلمُ مُنافِيَاً للعَدْلِ والحَقِّ, ومُنافِيَاً للميزانِ الذي قامَت به السَّماواتُ والأرضُ, كانَ من أكبَرِ المُوبِقاتِ ومن أكبَرِ الكَبائِرِ.
يا عِبادَ الله: إنَّ الظُّلمَ سَبَبٌ عَظيمٌ من أسبابِ نُزولِ البَلاءِ والغُمَّةِ والكَربِ العَظيمِ, بل هوَ سَبَبٌ عَظيمٌ من أسبابِ هَلاكِ الأُمَّةِ, روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" ثُمَّ قَرَأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102].
هل من مُعتَبِرٍ؟
يا عِبادَ الله: هل عَلِمَ الظَّالِمونَ والطَّاغونَ أنَّ كُلَّ من في السَّماواتِ والأرضِ يَلعَنُهُم؟ بل تَلعَنُهُم جَميعُ المَخلوقاتِ, حتَّى الحِيتانُ في البِحارِ, والطُّيورُ في أوكارِها, والنَّملُ فَوقَ ظُهورِ الأحجارِ.
يا عِبادَ الله: هل عَمِيَت أبصارُ الطُّغاةِ المُجرِمينَ الظَّالِمينَ؟ وهل طُمِسَت بَصائِرُهُم عن رُؤيَةِ ما فَعَلَ اللهُ -تعالى- بالأُمَمِ السَّالِفَةِ؟ قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَاد * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاد * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَاد * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَاد * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاد * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَاد * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر: 6 - 14].
يا عِبادَ الله: هل صُمَّت آذانُ الطُّغاةِ المُجرِمينَ الظَّالِمينَ الذينَ عاثوا في الأرضِ فَساداً عن مَعرِفَةِ مَصيرِ الطُّغاةِ الوَخيمِ, ومُنقَلَبِ العُتاةِ الذَّميمِ, الذي أخبَرَ عنهُ مَولانا -عزَّ وجلَّ- في كِتابِهِ العَظيمِ فقال: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40]؟
يا عِبادَ الله: هل سَألَ هؤلاءِ الطُّغاةُ المُجرِمونَ الظَّالِمونَ البَاغونَ أينَ آثارُ أسلافِهِمُ الذينَ سَبَقوهُم إلى الآخِرَةِ؟ هل رَجَعَ هؤلاءِ إلى كِتابِ رَبِّهِم -وهوَ رَبُّهُم رَغمَ أُنوفِهِم إنْ شاؤوا وإنْ أبَوا- الذي سَطَّرَ في القُرآنِ العَظيمِ العِبَرَ لمن أرادَ أن يَعتَبِرَ؟ هل قَرَأَ هؤلاءِ قَولَ الله -تعالى-: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيم * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِين * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِين * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) [الدخان: 25 - 29]؟
يا عِبادَ الله: هل عَلِمَ العَبيدُ جَميعاً أنَّهُ لَيسَ بَينَهُم وبَينَ الله -تعالى- الحَميدِ المَجيدِ الفَعَّالِ لما يُريدُ حَسَبٌ ولا نَسَبٌ, إلا ما كانَ من صَالِحِ العَمَلِ والسَّبَبِ؟ ألم يَسمَعوا قَولَ الله -تعالى-: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [الدخان: 37]؟
يا عبادَ الله: عَودٌ على بِدءٍ, ما حَلَّ بنا إنَّما هوَ من كَسبِ أيدينا, فهل سَمِعَتِ الأُمَّةُ بِقَضِّها وقَضِيضِها, من حاكِمِها ومَحكومِها, بأنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ؟
يا عِبادَ الله: إذا أرَدْنا كَشفَ الغُمَّةِ عن هذا البَلَدِ, وإذا أرَدْنا أن يَكشِفَ اللهُ -تعالى- عنَّا هذا الكَربَ العَظيمَ، فَعَلَينا جَميعاً: تَرْكُ الظُّلمِ, عَلَينا جَميعاً بِدونِ استِثناءٍ أن لا نَسلُكَ سَبيلَ الظَّلَمَةِ الفُجَّارِ؛ لأنَّ لَذَّاتِهِم ذَهَبَت وبَقِيَ عَلَيهِمُ العَارُ, هذا في حَياتِهِمُ الدُّنيا.
أمَّا إذا قامَتِ القِيامَةُ وبَرَزوا لله الواحِدِ القَهَّارِ, صارَت سَرابِيلُهُم من قَطِرانٍ, وتَغشى وُجوهَهُمُ النَّارَ.
يا عِبادَ الله: عَزاؤُنا إنْ كُنَّا مَظلومينَ قَولُهُ تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) [إبراهيم: 42].
أسألُ اللهَ -تعالى- أن يَرُدَّنا إلى دِينِهِ رَدَّاً جَميلاً، آمين.
أقولُ هَذا القَولَ, وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم, فَاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي