إن الإنصاف سمة النبلاء، وإن صغار النفوس هم الذين يتعصبون لآرائهم ولا يقبلون بغيرها حتى وإن كان غيرهم أعمق من رأيهم فكرًا، وأكثر منه نفعًا. أما الكبار فهم الذين يحملهم تواضعهم على تقبُّل وجود الرأي المخالف، وتقديره والثناء عليه متى كان فيه الخير والصواب.. والكبار لا يُقدّسون أنفسهم فيدَّعون العصمة من الخطأ، ولا يستخفون بآراء الآخرين أو يُسفهونها كي لا تتضح معالم الخطأ في قراراتهم.
الحمد لله الحق، دلنا على الحق وأمرنا به، وأوجب علينا قبوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله وطاعته، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 1.2].
إخوتي في الله، من أبرز خصائص هذا الدين أنه حرّر الإنسان من عبودية البشر؛ بعضهم لبعض، وجعل عبوديتهم لخالقهم وحده لا شريك له، فشعر الإنسان بقيمته التي اختطفها الظلمة على مر الأزمنة، وبحريته التي افتقدها حين ركع لحجرٍ أو شجر أو لنمرود أو فرعون، حتى شدا بعض من هداه الله من أهل الكتاب بعد أن ذاقوا طعم الإيمان: (وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) [سورة المائدة: 84].
والمؤمن وحده الذي يقبل الحق من أيّ مخلوق كان؛ فلا عصيبة، ولا عنصرية، ولا حزبية، بل هو الحق وحده، فلديه ميزان واضح يقول: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) [سورة الأنعام: 57].
وقد أوجز الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة هذه القاعدة الجليلة في نصف بيت فأحسن، حتى استحق إشادة نبوية عظيمة، خُلِّدت في صحيح البخاري، حيث قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أصدقُ كلمةٍ قالَها الشَّاعرُ، كلمةُ لبيدٍ: ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللَّهَ باطلُ"، وإشادةُ النبي بقولة شاعر قالها في العصر الجاهلي قبولٌ للحق ذاتِه دون نظر إلى حال من قاله.
أيها الإخوة: إن المؤمن عزيز المكانة عند ربه، ونفسه معظَّمة في الشرع، ولكنه مأمور بالتواضع ولين الجانب مع إخوانه المسلمين، وإن مما يصنّف كبرًا عليهم عدم قبول الحق من أهله، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ" (صحيح مسلم: 91).
ومعنى بطر الحق: دفعه. وغمط الناس: استحقارهم.
قال ابن رجب: "فالمتكبر ينظر إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيره بعين النقص، فيحتقرهم ويزدريهم، ولا يراهم أهلاً لأن يقوم بحقوقهم، ولا أن يقبل من أحد منهم الحق إذا أورده عليه". (جامع العلوم: 2/275).
وفي موضع آخر قال: "ومن هنا قال بعض السلف: التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به وإن كان صغيرًا! فمن قبل الحق ممن جاء به، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، وسواء كان يحبه أو لا! فهو متواضعٌ، ومن أبى قبول الحق تعاظمًا عليه، فهو متكبرٌ". (جامع العلوم: 2/275 وما بعدها).
ولترك الحق أسباب جلية؛ كاختلاف الدين أو العِرق، أو الحقد، أو الحسد الظاهر أو التنافس، وله أسباب خفية كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ويلحق الذمُّ من تبيّن له الحق فتركه، أو من قصَّر في طلبه حتّى لم يتبين له، أو أعرض عن طلب معرفته لهوى أو لكسل، أو نحو ذلك". (اقتضاء الصراط المستقيم: 2/85).
فالكسل من أخفى الأسباب التي توصِّل إلى عدم معرفة الحق، يقول العلامة صديق حسن خان -رحمه الله-: "وإنما يَعرف الحقَّ مَن جَمَع خمسة أوصاف أعظمهـا: الإخلاص، والفهم، والإنصاف، رابعها -وهو أقلّها وجودًا وأكثرها فقدًا- الحرص على معرفة الحق، وشدة الدعوة إلى ذلك". (قطف الثمر: 175).
فكل عزيز يحتاج إلى مزيد جهد للوصول إليه، والحق عزيز.
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ارحَموا تُرحموا، واغفِروا يغفِرْ لكم، ويلٌ لأقماعِ القولِ، ويلٌ للمُصرِّين على ما فعلوا وهم يعلمون" (أخرجه البخاري في الأدب المفرد: 380، وصححه الألباني).
و"أقماع القول": كما قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "الذين آذانهم كالقُمع يدخل فيه سماع الحق من جانب، ويخرج من جانب آخر لا يستقر فيه". (فتح الباري: ج1، ص181).
لا تحقرن الرأي وهو موافق *** حكم الصواب إذا أتى من ناقصٍ
فالدُّرُّ، وهو أعز شيء يُقتنَى *** ما حَطَّ قيمتَه هوانُ الغائص
"والأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدًّا، فمنها: الجهل به: وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئًا عاداه، وعادى أهله؛ فإن انضاف إلى هذا السبب بُغض من أمره بالحق، ومعاداته له، وحسده كان المانع من القبول أقوى، فإن انضاف إلى ذلك إلفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه، ومن يحبه ويعظّمه؛ قوي المانع، فإن انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دُعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه، قوي المانع من القبول جدًّا، فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه.. كان أقوى وأقوى". (انظر هداية الحيارى لابن القيم، ص16).
و"من أعظم هذه الأسباب: الحسد فإنه داءٌ كامن في النفس ويرى الحاسد أن المحسود قد فُضِّل عليه، وأُوتي ما لم يؤتَ نظيره، فلا يدعه الحسد ينقاد له، ويكون من أتباعه، وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد؟! فإنه لما رآه قد فُضِّل عليه، ورفع فوقه غصَّ بريقه، واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة". (انظر هداية الحيارى لابن القيم، ص16).
عباد الله .. إن الإنصاف سمة النبلاء، وإن صغار النفوس هم الذين يتعصبون لآرائهم ولا يقبلون بغيرها حتى وإن كان غيرهم أعمق من رأيهم فكرًا، وأكثر منه نفعًا. أما الكبار فهم الذين يحملهم تواضعهم على تقبُّل وجود الرأي المخالف، وتقديره والثناء عليه متى كان فيه الخير والصواب، رافعين شعار: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب".
والكبار لا يُقدّسون أنفسهم فيدَّعون العصمة من الخطأ، ولا يستخفون بآراء الآخرين أو يُسفهونها كي لا تتضح معالم الخطأ في قراراتهم.
والكبار يسيرون في ركب الأقوياء فيصححون ما وقعوا فيه من خطأ متى ظهر لهم ذلك، ويُقوّمون من اعوجاجهم متى نصحهم أحد بذلك، والكبار هم الذين ينأون بأنفسهم عن ذلك، بل يُشركون غيرهم معهم، ويعتبرون الجميع شركاء في بناء الفكرة، ونجاح المشروع، وإدارة المؤسسة.
ومن أبرز أسباب تجاهل الحق: التصور السابق عن أمرٍ ما، أو عن شخص ما، الذي ربما بني على تقرير من شخص حاسد أو حاقد أو جاهل، فيلتصق بذهن الشخص المنقول له، ثم يبني على ذلك تصوره عنه، ثم يجعل الظنون السيئة تدور مع كل ما قال، ولو كان الحقَّ الصراح، بل قد تكون الكلمةُ نفسُها، والمعنى نفسه يرد من شخصين فيُردُّ على هذا ويُقبَل من هذا!!
ولذلك فإن العاقل من يتبين إذا نُقل إليه أمر، ولا يحكم على شخص، ولا على هيئة، ولا قوم، ولا على كتاب حتى يطلع بنفسه، بل يطلع على القول كله، فربما كان مقتطعا مجتزئًا بسبب هوى متبع.
قال ابن حجر: قلتُ: "وبقَدر ما يبتعد المرء عن الإنصاف، يكون الصواب عنه بعيدًا، ومن رامَ الحقَّ، أنصفَ الخَلقَ ورَحِمَهم" (فتح الباري: 1/ 83).
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الغفار، وأشهد أن محمدًا عبدُالله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا ما توالى الليل والنهار.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
لقد سجّل علماؤنا الأجلاء مواقفهم الرائعة من هذه القضية الكبرى، قضية قبول الحق ممن كان، قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: "فعلى المسلم أن يتبع هدى النبي -صلى الله عليه وسلم- في قبول الحق ممن جاء به من ولي، وعدو، وحبيب، وبغيض، وبر، وفاجر، ويرد الباطل على مَن قاله كائنًا من كان". (إعلام الموقعين: 1/ 104-105).
وقال -رحمه الله- أيضًا: "فمن هداه الله –سبحانه- إلى الأخذ بالحقِّ حيث كان ومع من كان ولو كان مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممَّن هُدِي لما اختلف فيه من الحق" (الصواعق المرسلة 2/516).
ومن ألطف ما يُذكر في هذا المقام ما ذكره العلامة اليماني عبد الرحمن المعلمي -رحمه الله-؛ حيث قال في التنكيل، وهو يعدِّد مسالك الهوى: "فمسالك الهوى أكثر من أن تُحصى، وقد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعمًا أنه لا هوى لي، فيلوح لي فيها معنى، فأقرره تقريرًا يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذاك الخادش وتنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب!!
وإنما هذا؛ لأني قررت ذاك المعنى أولاً تقريرًا أعجبني فصرت أهوى صحته، هذا مع أنه لا يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يلح لي الخدش ولكنَّ رجلاً آخر اعترض عليَّ به؟ فكيف إذا كان المعترض ممن أكرهه؟ هذا ولم يكلف العالم بأن لا يكون له هوى؟ فإن هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالم أن يفتّش نفسه عن هواها حتى يعرفه، ثم يحترز منه، ويمعنَ النظر في الحق من حيث هو حق، فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه". اهـ (انظر: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، للشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني 3/ 235).
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله-: "فمن نصحك من أولادك أو من جيرانك أو من إخوانك أو من خُدّامك أو من غيرهم، ونصيحتهم موافقة للشرع فقل: جزاك الله خيرًا، وبادر بالخير لا تتكبر، فالمؤمن يعظّم أمر الله ويقبل الحق ممن جاء به ولا يتعالى ولو كان من جاء به أقل منه، يقول الله سبحانه: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [سورة الحجرات: 13]، فمن عرف الحق فليرشد إليه بالدليل، ومن بلغه ذلك فعليه السمع والطاعة؛ لأن الدليل فوق الجميع، ما لأحدٍ فيه كلام؛ لأن الله يقول وقوله الحق: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [سورة النساء: 59]. (نصيحة هامة إلى جميع الأمة: 68 -70).
وإني لأدعو نفسي ومن أحب أن نربّي نفوسنا وأهلينا على قبول الحق والإذعان له، من خلال المواقف التي تمر بنا معهم، فهم يراقبوننا بتبصر وفطنة، فقد يروننا ونحن على محك الصدق والحق، فإذا قبلناه ممن نكره، تربوا على قبوله ممن كان، وإن رأونا نرده لأنه فقط جاء من فلان، فقد سقطنا وسقطت تربيتنا من أعينهم، ولن ينفع –حينذاك- وعظنا ولا نصحنا في تغيير تلك الصورة الواقعية التي عاشوها معنا.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين وانصر عبادك الموحدين، اللهم لا تبلغ أهل الفساد بكل أشكالهم وأغراضهم ما يريدون، ورد كيدهم في نحورهم، اللهم احفظ على هذه البلاد خاصة وبلاد المسلمين عامة الأمن والاستقرار والطمأنينة والاستقامة، اللهم احفظ هذه البلاد رائدة بدينها وتحكيم شريعة الإسلام، اللهم انصر بها دينك وكتابك وعبادك الصالحين.
اللهم أرنا في اليهود وأعوانهم من الصليبيين والمنافقين عجائب قدرتك، اللهم املأ قلوبهم خوفًا وذعرًا كما أخافوا إخواننا في العراق وفي فلسطين وفي كل مكان، اللهم شتت شملهم وفرِّق صفوفهم، واشدد وطأتك عليهم، بعزتك يا عزيز يا قوي يا متين.
اللهم أعن أولياء أمورنا للعمل بما يرضيك، وارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الحق وتدلهم عليه، اللهم انصر بهم دينك وأمة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك، يحبون بحبك من أحبك، ويعادون فيك من عاداك.
اللهم فرّج هم المهمومين ونفّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي