فضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمانٍ وأوان، رفعهم بالعلم، وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح، فضلهم عظيم، وخطرهم جزيل، ورثة الأنبياء، وقرة عين الأولياء، الحيتان في البحر لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى، واعلموا أن خير زادٍ يلقى به العبد ربه يوم القيامة تقوى الله؛ فمن اتقى الله وقاه، وأعانه على أمور دينه ودنياه، وكفاه من كلّ شرٍ يهابه ويخشاه.
أيها المؤمنون عباد الله: لا يخفى على كل مسلم ما للعلماء من مكانة رفيعة، ومنزلة عالية، ودرجة سامية؛ إذ هم في الخير قادة، تقتص آثارهم، ويقتدى بأفعالهم، ويُنتهى إلى رأيهم وتقريرهم، تضع الملائكة أجنحتها خضوعًا لقولهم، ويستغفر لهم كل رطبٍ ويابس، حتى الحيتان في الماء، بلغ بهم علمهم منازل الأخيار ودرجات المتقين الأبرار، فسمت به منزلتهم، وعلت مكانتهم، وعظم شأنهم وقدرهم، كما قال الله تعالى: (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11]، وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر:9].
قال الإمام أبو بكر الآجري -رحمه الله- وهو يتحدث عن العلماء ومكانتهم: "فضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمانٍ وأوان، رفعهم بالعلم، وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح، فضلهم عظيم، وخطرهم جزيل، ورثة الأنبياء، وقرة عين الأولياء، الحيتان في البحر لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع، مجالسهم تفيد الحكمة، وبأعمالهم ينـزجر أهل الغفلة، هم أفضل من العُبَّاد، وأعلى درجة من الزُّهَّاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكِّرون الغافل، ويعلِّمون الجاهل، لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة... إلى أن قال -رحمه الله-: فهم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيض الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل نجوم السماء، يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنهم الظلام أبصروا". انتهى كلامه -رحمه الله-، والآثار عن السلف في هذا المعنى كثيرة جدًّا.
عباد الله: وإذا كان أهل العلم بهذه المنزلة الرفيعة، والدرجة العالية المنيفة، فإن الواجب على من سواهم أن يحفظ لهم قدرهم، ويعرف لهم مكانتهم، وينزلهم منازلهم، وقد جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه". رواه الطبراني بإسنادٍ جيد.
وحقوق أهل العلم يجب أن تكون محفوظة لهم، حيهم وميتهم، شاهدهم وغائبهم، بالقلوب حبًّا واحترامًا، وباللسان مدحًا وثناءً، مع الحرص على التزود من علومهم، والإفادة من معارفهم، والتأدب بآدابهم وأخلاقهم، والبعد عن النيل منهم أو اللمز لهم أو الوقيعة فيهم؛ فإن ذلك من أعظم الإثم وأشد اللؤم.
عباد الله: إن العلماء هم القادة لسفينة النجاة، والرواد لساحل الأمان، والهداة في دياجير الظلام: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]، وهم حجة الله في الأرض، وهم أعلم بما يُصلح المسلمين في دنياهم وأخراهم؛ لِما آتاهم الله من العلم، ولِما حباهم به من الفقه والفهم، فهم عن علم دقيق يفتون، وببصر نافذ يقررون، وعن نظر ثاقب يحكمون، لا يلقون الأحكام جزافًا، ولا يصدّعون صفوف المسلمين فتًّا وإرجافًا، ولا يبتدرون إلى الفتوى دون تحقيق وتدقيق تهاونًا وإسرافًا، ولا يكتمون الحق على الناس غمطًا لهم أو تكبرًا واستنكافًا؛ ولهذا أمر الله بالرد إليهم دون غيرهم، وسؤالهم دون سواهم، وهذا في آيٍ كثيرة في القرآن، منها قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل:43]، وقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83].
وهذا -عباد الله- فيه تأديب للمؤمنين بأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة، فيما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يثبتوا ولا يستعجلوا، بل يردوا ذلك إلى الرسول، والرد إليه -صلى الله عليه وسلم- هو الرد إلى سنته، وإلى أولي الأمر منهم، أهل العلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فمن صدر عن رأيهم سلم، ومن افتأت عليهم تضرر وأثم؛ يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: إنها ستكون أمورٌ مشتبهات، فعليكم بالتؤدة؛ فإنك أن تكون تابعًا في الخير خير من أن تكون رأسًا في الشر.
عباد الله: وإن من علامات الضياع البعد عن العلماء الراسخين، وترك التعويل على فتاوى الأئمة المحققين، ونزع الثقة بالفقهاء المدققين، وحين تفقد الأمة الثقة بالعلماء يصبح شأنها كأناس في صحراء قاحلة، وأرض مجدبة، بلا قائد ناصح يقودهم، ولا هادِ خِرِّيت يدلهم، فيؤول أمرهم إلى العطب، وتكون نهايتهم إلى الخسران.
عباد الله: إن العلماء هم الذين لهم الصدارة في دعوة الأمة، وتوجيه مسارها، وإرشاد يقظتها، وإن لم يكن الأمر كذلك اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فأفتوهم بغير علم، ودلوهم بغير فهم، وحينئذٍ يحل الوهن، ويعظم الخلل، وتغرق السفينة؛ يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه بذهاب أهله، عليكم بالعلم؛ فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقوامًا يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبارك لنا في علمائنا، وأن يوفقنا لحسن الاستفادة منهم، وسلوك طريقهم، وأن يهدينا جميعًا سواء السبيل، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله عظيم الإحسان واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإن تقوى الله -جل وعلا- هي سبيل الفوز والسعادة والفلاح والغنيمة في الدنيا والآخرة، جاء عن طلق بن حبيب -رحمه الله- وهو من أعلام السلف أنه قال: إذا وقعت الفتنة فتحرزوا منها بالتقوى، قيل: وما التقوى؟! قال أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله". وهذا من أحسن ما قيل في تعريف التقوى وبيان معناها.
فتقوى الله -عباد الله- ليست كلمة تقال باللسان، أو لفظة يتلفظ بها المرء، وإنما تقوى الله -جل وعلا- لا بد فيها من الجد والاجتهاد، والعمل والبذل، والصبر والمصابرة.
تقوى الله -جل وعلا- (أن تعمل بطاعة الله)، أي أن تجدّ وتجتهد في العمل بطاعة الله، (على نور من الله)، أي على علم بذلك من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتأتي بالطاعة وأنت ترجو ثواب الله عليها وأجره -سبحانه- لك على قيامك بها، (وأن تترك معصية الله)، أي أن تبتعد عن كل ما حرمه الله عليك على علم بذلك من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن تترك المعصية خوفًا من عقاب الله. فهذه تقوى الله حقيقة، فنسأل الله -جل وعلا- أن يمنحنا وإياكم التقوى، وأن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم انصر من نصر الدّين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعبادك المؤمنين، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم نصر مؤزرًا، اللهم أيدهم بتأيدك، واحفظهم بحفظك، واكلأهم برعايتك وعنايتك يا حي يا قيوم، يا ذا لجلال والإكرام.
اللهم من أرادنا أو أراد ديننا أو بلادنا بسوء فرد كيده في نحره، واجعل تدميره تدبيره يا حي يا قيوم، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وأعنه على البر والتقوى، وسدده في أقواله وأعماله، وألبسه ثوب الصحة والعافية يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ووفق ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رأفة ورحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، اللهم إنا نسألك الهدى والسداد، اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا، واجعلنا مباركين أينما كنا، اللهم إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا نافعًا غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم أغث قلوبا بالإيمان، وديارنا بالمطر، اللهم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم لا تآخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين، اللهم هذه أيدينا إليك مدت، ودعواتنا إليك رفعت، وأنت لا ترد من دعاك، ولا تخيب من رجاك، فلا تردنا خائبين، اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، وبأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، يا من وسعت كل شيء رحمة وعلمًا أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي