هذه السورة رغم أنها تمثل في المصحف تقريبا صفحة واحدة كما في بعض الطبعات، إلا أنها لها سياق عجيب وسياقها كله يدور في فلكين اثنين تستطيع أن تقسم السورة إلى جزأين: أما الجزء الأول: فإنه يتناول بيان حقيقة يوم القيامة بيانا عظيما وافيا، حيث...
الحمد لله العلي الأعلى، صاحب الأسماء الحسنى، والصفات العلى، نحمده -سبحانه وتعالى- ونستعينه ونستهديه، ونتوب إليه، ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [البقرة: 255].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات ربنا وتسليماته عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه فذكر ربه فصلى، وآثر الآخرة على الحياة الدنيا، وصل علينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: فمع "سورة التكوير" سورة من السور التي جمعت أمور العقيدة، سورة دعا النبي -صلى الله عليه وسلمَ- إلى قراءتها، حيث أنها تصور يوم القيامة رأي العين، سماها الله -تعالى- بهذا الاسم العجيب: سورة "التكوير".
والتكوير في لغة العرب هو: لمَّ أطراف الشيء وجمع بعضه على بعض، وكان العربي يقول: "كور الرجل العمامة على رأسه" أي لفها وجمع أطرافها، ومعنى هذه الكلمة في السورة فقد أخبر الله بها عن الشمس: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، والشمس من المعروف ومن غير المعروف مما نرى ومما لا نرى لها أشعة كثيرة بعضها يرى وبعضها لا يرى يوم القيامة، وإذا أذن الله بها كفت الشمس عن بث أشعتها، وكأنه جمعت أشعتها عليها، ولفت عليها، فصارت معتمة مظلمة، لا ضياء ولا حرارة ولا شعاع، ثم تجمع مع القمر؛ كما قال الله -تعالى-: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) [القيامة: 9] فيلقيان في البحار.
هذه السورة سميت بهذا الاسم في المصاحف وكتب التفسير: "سورة التكوير"، ولكن ذكرت في الأحاديث بقولهم سورة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، والبعض يقول: سورة "كورت" اختصارا، وكل هذا يدور في فلك واحد، لكن ليست لها أسماء أخرى.
وهي من السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي -صلى الله عليه وسلمَ- إلى المدينة، إذاً فهي من السور التي تأسس بنيان العقيدة، وتصحح تصور الإنسان عن هذا الكون، وما فيه من الإنسان وما حوله، فإنه أي الإنسان لا يستطيع أن يرى نفسه تمام الرؤيا، فضلا عن أن يكشف كل ما حوله من مرئيات، وغير مرئيات، إلا أن يعلمه رب الخلق والبريات -سبحانه وتعالى-، فجاءت هذه السورة وأمثالها مما نزل في العهد المكي تصحح للإنسان تصوره حول هذا الكون، وما فيه، ليبني علمه واعتقاده في هذه المخلوقات بناءً صحيحا، وعلى أساس واع، وعلى علم يقيني، إن لم يكن عين اليقين فهو حق اليقين، وهو علم اليقين؛ لأنه من كلام رب العالمين: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ) -صلى الله عليه وسلمَ- (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء: 193 - 195].
ولذا فإنك تجد فيها أركان العقيدة الأربعة التي عرفناها الأركان الرصينة: إثبات وجود الله -تبارك وتعالى-، إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، حقيقة القرآن وأنه من عند الله، حقيقة يوم القيامة، أربعة لا تتخلف واحدة منها، أربعة تشمل العقيدة شمولا إجماليا كاملا، ولكن لأن سياق السور في هذا الجزء الأخير، وكذلك سياق السور المكية يدور في فلك بيان يوم القيامة بما فيه، فبدأت السورة بهذه البداية، وبذكر هذا اليوم وبشكل كبير.
وبدا في فضل هذه السورة عند الإمام أحمد وغيره -رحمهما الله تعالى- عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "من سره أن يرى القيامة رأي العين فليقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، و (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ)، و (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ)"، هذه السور تحمل سورة كاملة مختصرة، ولكنها وافية بأحداث يوم القيامة.
هذه السورة رغم أنها تمثل في المصحف تقريبا صفحة واحدة كما في بعض الطبعات، إلا أنها لها سياق عجيب وسياقها كله يدور في فلكين اثنين تستطيع أن تقسم السورة إلى جزأين.
أما الجزء الأول: فإنه يتناول بيان حقيقة يوم القيامة بيانا عظيما وافيا، حيث ذكر الله -تبارك وتعالى- اثنتي عشر علامة من علامات القيامة الكبرى من العلامات الضخمة، من الأحداث والأهوال الجسام التي تحدث عند قيام الساعة، ستة منها تكون بعد النفخة الأولى في الصور، وبها يقرض العالم، وتنتهي الدنيا، ويموت كل حي في هذه الحياة إلا من شاء الله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر: 68]، بعد النفخة الأخرى التي هي الثانية ذكر الله ستة علامات وآيات مبهرات مما يحدث بعد النفخة الأخرى، اثني عشر حدثا ضخما هائلا مخيفا مرعبا لا يطيق الإنسان واحدا منها، فضلا عن جميعها واجتماعها.
الشمس كورت فما بقي لها شعاع ولا فيها ضياء.
إذاً، فلا حياة، أظلمت الدنيا، تغيب الشمس عنا، وتذهب إلى جهة أخرى في الدنيا، فتظلم حياتنا، فما بالك وما عادت الشمس تشرق لا علينا ولا على غيرنا، بل أشرقت من مغربها، كذلك النجوم الأخرى التي تضيء بعض الإضاءة، وتهدي السائرين في ظلمات البر والبحر هي كذلك.
(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ) [التكوير: 1 - 2]، حينما يكون النجم المضيء في بيوتنا كالمصباح، حينما يكون مضيئا يكون نضرا صافيا فيه جمال، وحين ينطفئ يتكدر لونه، يعني يتعكر، لا يكون فيه صفاء؛ لأنه ما بقي ضياء.
والجبال (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) [التكوير: 3] (سُيِّرَتْ) أي أزيلت من مكانها، وحركت من مواقعها وثباتها ورسوخها، كما فسر الله ذلك في قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) [طه: 105]، (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل: 88].
(وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) [التكوير: 3 - 4]، جاءت الساعة والقيامة حتى على الحيوانات وعلى الذكور والإناث، فكل أنثى تعشر، وتحمل حملا عطل حملها، عطل رحمها: (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا) من الذهول، فتعطلت الأرحام، والأرحام الحوامل سقط ما فيها من حمل، وأعز ما يعز على الإنسان العربي أن يسقط حمل ناقته؛ لأن الناقة العشراء كانت تمثل أكرم أموالهم، وأعز ما لديهم، ولذلك نهى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- معاذ بن جبل: أن يأخذ زكاة المال من أكرم الأموال، إنما يأخذها من أوسط الأموال حتى لا يكسر قلوب أصحابها، فحينما تعطل هذه العشار فلا إنجاب ولا نسب؛ لأنه ما بقيت حياة، توقفت وتوقف النفس من كل الأرحام، وخاصة أرحام النوق العشار أنثى الجمل، ومنها تكون القيامة قد أتت كذلك على الأموال بما فيها من ذهب وفضة ودولار ويورو، وغير ذلك، مما يعظمه الناس ويعزونه، فيكون المال بأصنافه بين يديه، ولكنه متعطل لا يجد يدا تمتد إليه، ولا نفس تحبه، ولا قلب يعرف له قيمة، فما عادت له قيمة.
ما قيمة الأموال والدنيا تخرب، والكون يتهدم، والحياة تنتهي، لا أحد ينظر إلى المال إنما يجري هنا وهناك وينادي: أين المفر؟ كما يقال: يا روح ما بعدك روح، هو يريد أن ينجو بنفسه، أما الأموال وأكارمها وأطايبها فلا قيمة لها، حتى الوحوش الضارية المفترسة المخيفة المرعبة للدنيا كلها في الغابة وفي المدن، فإنها كذلك تخاف يوم القيامة، وتأتي عليها الساعة بأهوالها فتحشر، أي ينضم بعضها إلى بعض، وتفر إلى أوكارها لتختبئ فيها ظنا منها أن هذا ينجيها: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ).
كذلك البحار، البحار -كما عرفنا- من الآية الأولى ألقيت فيها الشمس والقمر: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) [القيامة: 9]، وفي الحديث: "ويلقيان في البحر، فإذا بالبحار تفجر"، قال بعض العلماء: "يعني توقد ناراً" وقال بعضهم: "تتفجر جنباتها وشواطئها"، وقال البعض: "يجف ماءها"، كل هذا حاصل ولكن وفق الله كل عالم ليقول شيئا، فلعل البداية حينما تلقى الشمس والقمر في البحر يشتعل البحر ناراً، فالماء من أكسجين وأيدروجين اشتغال ومساعدة على الاشتعال وهذه الشمس خلقها الله سراجا وهاجا جسم مشتعل كما رآه العلماء، وعرفوه، فالتقت الماء بالنار فتأججت وما بقيت حياة، فلم يبق الماء على طبيعته سائغا عذبا لمن يشربه، فعادت الأمور إلى أصلها وطبيعتها فاشتعلت البحار نارا، من شدة النار فالبحر ما عاد فيه إلا نار تحولت كل المياه إلى نار، فما بقي ماء ذهب ماء البحر، ومن شدة النار وكثرتها وقوتها بين شقان من الطين تفجرت هذه الشقان فلم يبق للبحر شاطئ، خراب عام نهاية طامة.
(وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) [التكوير: 6] انتهت هذه الأحداث الست التي تحدث بعد النفخة الأولى وهناك أحداث كثيرة معها وتصاحبها، ولكن اقتصر الله على هذه في هذا المقام وهي ليست بالقليلة ليستأنف الله -تعالى- بيان ما سيحدث بعد النفخة الأخرى ينفخ إسرافيل –عليه السلام- في الصور نفخة ثانية، فيحدث بعدها أهوال من أشدها: موقف الحساب والعرض على الله -نسأل الله -عز وجل- في هذا المقام أن يدخلنا الجنة بغير حساب فإنا لا نطيق العذاب، اللهم آمين.
(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير: 7] هذا هو الحشر ، زوجت لا زواج ولا إنجاب يوم القيامة إنما التزويج هنا هو التصنيف، وهذا من عجيب قدرة الله -سبحانه وتعالى- أن يجتمع الناس في الحشر جماعات: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا) [الزمر: 71] أي مجموعات، هذه مجموعة فيها من أول البشرية إلى آخرها، ما رأوا بعضهم في الدنيا، وربما لا يعرف بعضهم بعض في الآخرة، إنما يلتقون ببعضهم ويجتمعون على بعضهم اجتماعا تلقائيا من صنع الله -عز وجل- ما الذي جمعهم؟ لماذا فلان مع فلان؟ كانوا يكثرون الصلاة في الدنيا، يحبونها، يتلذذون بها، وما هذه المجموعة؟ هذه مجموعة القرآن كان كل واحد في مكانه يحب أن يتلو كلام الله، ويتلذذ بكلام الله، ويأنس بكلام الله، اجتمعوا مع بعضهم، وهؤلاء كانوا يفرحون بالصيام، يفرح يوم أن يصوم، فهؤلاء أهل الصيام، وهؤلاء أهل الذكر، وهؤلاء أهل كذا..
ويعلم الله كل مجموعة بعلامة تدل على عملهم الذي جمعهم.
اللهم اجمعنا في الصالحين وفي السابقين.
وعلى الجانب الآخر أهل النار، فيجتمع أهل الربا جميعا، وأهل الرشوة، وأهل الزنا، أهل الظلم، أهل كذا.. كل أصحاب جريمة تشابهت جريمتهم، واتحدت بينهم بغير اتفاق في الدنيا يلتقون مع بعضهم تلقائيا يوم القيامة في جماعة واحدة، وتوضع عليهم علامة تعلم جماعتهم، هؤلاء هم أهل كذا..
فتنظر -يا إنسان ويا مسلم- يوم القيامة في مجموعات الناس فلا تحتاج إلى سؤال، فلا تسأل أحدا لماذا تقف هنا؟ ومن هؤلاء؟ وما الذي جمعك بهم؟ لن تسأل هذه الأسئلة وما شابهها، لماذا؟ لأن الله علم لك كل جماعة، قال الله -تعالى-: (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [الرحمن: 39 - 40]، لا يسأل من الناس ما من أحد من الناس يسأله، لماذا؟ علامته معروفة: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) [الرحمن: 41] أي بعلاماتهم كل مجموعة لها علامة، هذا نظام الحجز عند الله -تعالى- حتى يعرض على النيابة والمحكمة العظمى الكبرى، فيعرض على الله.
(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ) [التكوير: 8] زوج الله بين النفوس وجمعها في أصناف معينة، وعلمها بعلامتها، ثم يستعرضها واحدة واحدة، فيؤتى بالمظلوم فيعرض على الله أيضا ليسأل وليقول شكايته، وليطلب حقه، فإذا بالله يسأل المظلوم: لماذا ظلمت؟ بأي ذنب ظلموك؟ الله يسأل، ومن هؤلاء المظلومين، ومن أبشعهم تلك البنت التي قتلها أبوها في صغر سنها وبراءة حياتها، خوفا من أن تلحق به العار فيما بعد، أو خوفا من أن تضيق عليه رزقه ورزق من معه من الأسرة: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) [الإسراء: 31].
ذكر الله الموؤودة؛ لأنها خطيئة كانت موجودة في العرب في ذلك الوقت، ولكن هناك آيات جمعت الأولاد جميعا ذكورا وإناثا؛ لأن الله يعلم من سابق، يعلم من الأزل أنه سيأتي على الناس زمانا يقتلون الناس أولادهم لضيق الراتب، أو لضيق المعاش، وخونوا الله في الأرزاق، مع أن الله طمأنهم وقال: (فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات: 23]، ومع ذلك لا يصدقون.
(وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) [الإسراء: 31]، (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ) أي من فقر (نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام 151] مرتين ببلاغة عالية يطمئن الله الأهل والأسرة لئلا يقلقهم على أرزاقهم، لئلا يقتلوا الوافد الجديد، لئلا يقتلوا الضيف المقبل، لئلا يهدروا هبة الله لهم، ومع ذلك خونوا الله في الأرزاق.
(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) [التكوير: 8 - 9]، لماذا قتلوه؟ هذا فيه بلاغة عالية، إذا كان المظلوم يسأل عن الظلم الذي وقع عليه فما بالك بالظالم؟!
فسؤال الله للمؤودة وللمظلوم إرعاب وتخويف وتعذيب نفسي للظالم قبل أن يعرض على الله، فيقول: كيف يكون أمري وأنا معروض على الله إذا كان قد سأل المظلوم فكيف يفعل بي وأنا الظالم، فيرعب ويعيش ظرفا شديدا من الرهبة والخوف من سؤال الله -عز وجل-.
(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) [التكوير: 8 - 10] فتحت، النشر هو الفتح: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا) [الإسراء: 13]، معروضا عليه يقرأ ما فيه ما فيه واضح، والله -تعالى- قال عنه في سورة المطففين: (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) [المطففين: 20] كتاب المؤمنين وكتاب المجرمين (مَّرْقُومٌ) أي منقوش بطريقة واضحة الكتابة فيه كأنها بارزة إن لم تر بالعين، فإنها تحس باليد، فلا مجال للتكذيب ولا للاشتباه بقراءة كلام أو حرف، كلام في منتهى الوضوح: (اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 14].
(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) [التكوير: 12] أوقدت، النار موجودة موقدة منذ قديم خلقها الله -تعالى- وأوقدها وأشعلها وهي مولعة، ولكن غير مستعرة حرارتها شديدة، ومع ذلك ورد في الحديث: أنها اشتكت إلى ربها يوما: يا رب كاد بعضي يقتل بعضي، من شدة الاحتراق، وهي هادئة لم تسعر بعد، فأذن الله لها بنفس في الصيف وبنفس في الشتاء، أما نفس الصيف فأشد ما تجدون من حر الصيف، وأما نفس الشتاء فأشد ما تجدون من زمهرير الشتاء.
ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلمَ- إذا اشتد حر يوما قال: "سبحان الله، ما أشد حر هذا اليوم، نعوذ بالله من فيح جهنم"، فيح هو ما نقول عنه: الصهد أو النفس، هذا نفس جاءنا من جهنم، جاء الدنيا كلها -نسأل الله العفو والعافية-.
(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) [التكوير: 12]، يوم القيامة إذاً حينما تبدأ جهنم بالعمل، وتستعد لأصحابها، فالآن يدخلونها أفواجا الله، يسعرها بمعنى يشدد حرارتها، يوقدها الإيقاد الأخير لا تشبيه ولكن صورة موضحة.
عند بائع الفلافل -الطعمية- يضع صنعته في ذلك الإناء فوق النار، والنار شعلة فقط حتى إذا انتهى من وضع أقراصه جميعا، وملأ الإناء رفع النار، هذا هو الجحيم: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) ارتفعت حرارتها بالدرجة التي تعذب بها كما أراد الله -سبحانه وتعالى-.
وفي المقابل: (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) [التكوير: 13].
اللهم اجعلنا من أهلها.
(أُزْلِفَتْ) قربت لأصحابها، ساعتها: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ) [التكوير: 14]، وإذا علمت نفس أي كل نفس عملها فإنها تعلم مصيرها فإن كان عملها طيبا فهي ذاهبة إلى الجنة تستبشر وتنادي: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ) [الحاقة: 19]، تعالوا، أقبلوا، هلموا، انظروا فوزي ونجاحي، ما كنت أظن أبلغ هذا المقام.
وإذا كانت الأخرى علم أن مصيره جهنم فيتحسر ويندم: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا) الموتة الأولى (كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) [الحاقة: 25 - 29] عبارات كلها حسرة وندم، هذا هو الشق الأول من السورة.
أما الشق الآخر فإنه تنبيه على حقيقة الوحي من خلال وصف الملك الذي تحمله، ونزل به والنبي الذي تلقاه، وتحمله ليبلغه إلى الأمة -عليه الصلاة والسلام-، قال الله -تعالى- ويقسم، والله كلامه لا يحتاج إلى قسم، ولكن من حق المخاطب والمستمع أن تقسم له، فأقسم الله للكفار لئلا تكون لهم حجة عند الله يوم القيامة: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) [التكوير: 15 - 18] قسم مناسب لما يقسم الله عليه، الخنس: قيل فيها عدة أقوال أرجحها وأقربها: أنها النجوم كالشمس والنجوم التي انكدرت إنها تخنس وتغيب، وحين تغيب إنها تجري في فلك، ولكن لا تراها حتى تعود وترجع وتكنس، أي ترجع من جديد إلى الظهور علينا، هي تدور في فلك نصفه عندنا ونصفه عند غيرنا، فإذا كنست وجاءت أشرقت علينا وأضاءت لنا، وإذا خنست بعدت وذهبت عند غيرنا، وهي جوارٍ تجري.
(فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) التي تختفي وتغيب (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) تجري لتكنس وترجع (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) [التكوير: 17- 18]، وهما حدثان أيضا يدوران حول بعضهما لا يكاد يعرف الناس أيهما كان أولا الليل أم النهار، وكما يقول الله -تعالى-: (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 40]، كلا في مكانه وموضعه يدور في فلكه بنظام وحساب بحيث لا يدرك واحد منهم الآخر.
(وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) [التكوير: 17]، (عَسْعَسَ) تصلح لأقبل وأدبر، ولكنها هنا (عَسْعَسَ) بمعنى: أدبر ويأتي من بعده الصبح: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) [التكوير: 18] أجمل نفس ما تتنفسه في الصباح، علام يقسم الله –تعالى-؟ (إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [التكوير: 19] هنا هو جبريل -عليه السلام-، ورسولنا رسول كريم أيضا وآياته في "سورة الحاقة": (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة: 40]، أما هنا الوصف لجبريل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) كريم في الطبع ليس فيه لؤم بحيث لا يخفي شيئا أو يزيد شيئا أو يشدد علينا، إنه كريم الطبع يحب لنا الخير دون نسب ولا حاجة ولا صلة بيننا وبينه، غير أنه يوصل لنا أمانة -عليه سلام الله وعلى الملائكة أجمعين-.
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) التكوير: 19 - 20]، ذو قوة شديد أرسله الله ليهلك قوم لوط فحملها على طرف من جناحه وله ستمائة جناح ورفعها إلى السماء الدنيا ثم كفأها على رأسها، طرف من الجناح يحمل بلد كاملة: (ذِي قُوَّةٍ) أي صاحب قوة: (عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) ممكن عند الله -تعالى-.
(مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير: 21] (مُطَاعٍ) له طاعة، أين؟ هناك في الملأ الأعلى عند الملائكة؛ لأنه لا يأمرنا ولا صلة بيننا وبينه إنما يكلم الملائكة، والملائكة تستجيب له، جبريل يتكلم بالكلمة الملائكة كلهم يسمعون له من كرمه عليه، ومن قربه من الله، إنه أصلح الملائكة وأفضلها وأعلاها، خصه الله بكثير من الخوارق.
(مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) صفة الأمانة، هو في نفسه أمين لا يخون أبداً، ولذلك اصطفاه الله ليحمل رسالته إلى الأنبياء، وليبلغ وحيه إلى أهل الأرض.
أما الرسول الذي تلقى -صلى الله عليه وسلمَ كل ما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون- فإنه إنسان في غاية العقل، وفي الحديث: "لو وضع حلم رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ في كفة وحلم بني آدم في كفة، لرجح حلم رسول الله -عليه الصلاة والسلام-" والمقصود بالحلم هنا: العقل، عقله يرجح بالأمة كلها، والدنيا كلها -عليه الصلاة والسلام-، ولذلك وصفه الله -تعالى- بنفي الجنون عنه: (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ) [التكوير: 22]، وقد رآه الكفار يوما يصرع ويغمى عليه، ولم يعرفوا السبب، فقالوا: إنه مجنون، فقال الله: (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ)[التكوير: 22]، وما محمد بمجنون، والدليل على ذلك: أنه صاحبكم من أربعين سنة ما رأيتم منه جنونا ولا رعونا ولا انطواءً ولا مقدمات الجنون، إنما كان يخالط الناس، وكان أصدق الناس، وكأن أأمن الناس، وكان.. وكان.. لا نهاية لخصاله الطيبة -صلى الله عليه وسلمَ-.
فصحبتكم له أكبر دليل على أنه ليس مجنون، فأنتم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم، إذاً ما الذي جعله يغمى عليه؟: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير: 23] النبي -صلى الله عليه وسلمَ- رأى جبريل ليلة حراء في أول مرة أتاه، ولكن من الهول والقول والفجأة لم يدرك أن يصور الصورة بعينيه جيداً، لما رأى هول رأى شيئا كبيرا عظيما، يقول له: "اقرأ"، فيقول: "ما أنا بقارئ"، وهكذا.. لم يدرك الصورة جيدا.
بعد أن نزل جبريل مرات ومرات واطمئن إليه، وأخذ يتلقى عنه القرآن أخذت الصورة تراوده، فقال: "يا جبريل أريد أن أراك؟" أي على صورتك الملائكية، كان يأتيه خفية أو في صورة رجل لكن ما ظهر على ملائكيته، فقال له جبريل: "ليس ذلك لي حتى استأذن ربي"، فاستأذن جبريل ربه فأذن له، فتواعدا في بطحاء مكة مكانا واسعا ليس فيه جبال، وانتظر النبي -عليه الصلاة والسلام- والكفار يتبعونه كعادتهم ليكذبوا به، ليستهزئوا به، ليصرفوا الناس عنه. كل له هدف. أما النبي فجاء للقاء جبريل -عليه السلام-، فأقبل جبريل وله ستمائة جناح حتى سد الأفق، ما عاد يرى الشمس ولا يرى السماء ولا يرى شيء، لماذا؟ لأن جبريل غطى بخلقه العظيم وصورته الكبيرة غطى الرؤية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، رآه فترة حتى إذا انتهى اللقاء انصرف جبريل، وأخذ النبي -عليه الصلاة والسلام- غفوة وإغماءة، وحينما رآه الكفار في إغماءته هذه قالوا: مجنون يصرع على الأرض، فقال الله مبرئا له: (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير: 22 - 23]، (بِالْأُفُقِ) أي العلو، (الْمُبِينِ) رؤية واضحة ليست خدعة بالكاميرا، ولا خدعة بالأضواء، ولا شيء من هذا؛ إنما رؤية حقيقية على صورته الملائكية، ولو كان غيره مكانه لصعق ومات على الفور: (لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ) [الأنعام: 8].
(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) [التكوير: 23 - 24]، الضن هو استفاض للشيء لدرجة البخل، ما يبخل به الإنسان يقال: ضن به على غيره، ولذلك تسميه: ضناك، هذا ضنايا، لماذا؟ لأنك تبخل به على كل الناس من أراد أن يستعيره منك؛ لأنه ليس عنده أولاك، أعطني ولدك يقضي معي فترة، أعطني ولدا من أولادك حتى يكون لي أولاد؟! من يرضى بهذا؟ إنه يضن به يبخل به: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي ببخيل فيحبس عنا مثلا آيات، ويعطينا آيات، يحبس عنا أحكاما، ويعطينا أحكاما، قال عائشة -رضي َالله عنها- في الحديث الصحيح: "لا والله ما كتم رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- شيئا قط"، وكيف يكتم والله يراقبه؟ عاتبه في عبد الله بن مكتوم بأنه "عبس" في وجهه ويتركه حين يكتم أمراً عن الله! لا يحدث هذا أبداً، وإلا عاتبه الله أو عاقبه: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ) أي على الوحي: (بِضَنِينٍ).
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) [التكوير: 27] ها هو القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ)، ومن ينتفع من العالمين؟ من أراد الاستقامة أرادها إرادة حقيقية؟ كثيرون ينادون بالاستقامة، ينادون بجمعيات إصلاحية كثيرة، وكذا.. ولكن من -فعلا- صدقت نيته، وصدقت عزيمته، وصح سيرته.
إن طريق الإصلاح هو القرآن، طريق الاستقامة هو القرآن: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ) [التكوير: 27 - 28]، ولما نسب الله المشيئة للإنسان شأن الإنسان أن يفتخر، وأن يتعالى حتى على الله، قد حدث هذا كثيرا في الكفار، الله -تعالى- يقول له: "يا عبدي مهما شئت فلا تخرج عن مشيئتي، فلو شئت أنا خلاف ما شئت أنت لما كان إلا مشيئتي فقط، أنت تريد وأن أريد ولا يكون إلا ما أريد"، إرادة الله هي النافذة.
ولذلك ضبط مشيئة العبد بقوله: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير: 29]، حتى لا يمن المؤمن على ربه أنه أسلم وآمن من نفسه، الله يؤيدك، الله يثبتك، لله فضل عليك، ولئلا يظن الكافر أنه خالف قدر الله، رغما له، وإرغاما له، ولا يستطيع أحد أن يجعله يسلم، ولكن الله يقول له: أنت في مشيئتي ولو أردتك لنفسي لأخذتك: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة: 13].
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا بهذا الفهم عملا صالحا يقربنا إليه، وأن يمن علينا بأن يرزقنا الجنة بغير حساب، اللهم آمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه دائما إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله العظيم، ولزوم طاعاته، وأحذركم ونفسي عصيانه -تعالى-، ومخالفة أمره، فهو القائل -سبحانه وتعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته أهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
أيها الإخوة الأحباب: كان هذا سياق "سورة التكوير" أو "سورة إذا الشمس كورت"، وهذا عرضه كما يسر الله وشاء.
أما هدفها وهو المحور الذي تدور عليه، فأستطيع أن أقول فيه: إنه بيان أن الأمر كله يجتمع إلى الله، تدور دائرة الدنيا والكل يرجع إلى الله، الشمس خلقها الله -تعالى-، وبث أشعتها في الدنيا هو الذي يكورها يوم القيامة، أنزل الله -تعالى- القرآن ليستقيم به العالم منهم من يشاء الاستقامة، ومنهم من يرفضها، هذا وذاك من ذهب في طريق الاستقامة، ومن اعوجت به السبل، الكل يرجع إلى الله -تعالى-، فهذه مشيئته أن يبعث الناس يوم القيامة ليعرضهم وليحاسبهم وليعطي كلا جزاءه.
أما ارتباط هذه السورة بسورة عبس قبلها، فأقول: إنها ترتبط بها وبسورة النازعات وبسورة عم النبأ، كلها تتحدث عن يوم القيامة، ولكن كما قلنا كل سورة بشكل معين.
ثم إن سورة النازعات وصفت القيامة: بأنها الطامة الكبرى، أي التي تعم كل شيء، إذا جاءت الساعة جاءت على كل أخضر ويابس، على الإنس والجن والحيوان والطير والشجر، وكل شيء، والحيوان، والجماد.. ما تترك شيئا.
وفي سورة عبس وصفها: بأنها الصاخة ذات الصوت الرعيب الرهيب.
سورة التكوير -سورتنا اليوم- بما فيها من حديث عن قيام الساعة كأنها تفصل معنى الطامة، فقد جاءت القيامة على الشمس، وبالتالي على القمر وجاءت على النجوم، وجاءت على الجبال، وجاءت على العشار ذوات أرحام، أو على النوق أثنى الجمل، وبالتالي أتت على الأموال القيمة عند الناس، والذي يعتبر عصب حياة الناس، وهو المال.
جاءت على البحار ما تركت شيئا ويوم القيامة بعد النفخة الثانية تأتي على النفوس، طبعا أتت عليها أولا: (فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْض إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ) [الزمر: 68]، ويوم القيامة تقام الساعة ليقوم (النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 6]، ويسأل هذا وذاك.
هذه الأهوال حينما تحدث، هذه الوقائع حينما تقع لا تقع في صمت، لا تقع في همس، لعلنا قلنا قبل ذلك في السورة الماضية لو سقط شيء من أعلى كما رأينا في عمارة تقع، سمعنا في حجر يتدحرج من أعلى ويسقط على الأرض، حينما يقع شيء ثقيل على الأرض مع اقتراب المسافة يحدث رجفة ورجة شديدة يسمعها أباعد الناس، فما بالك والنجوم كلها والشمس تلقى من عليائها في البحار، والبحار تتفجر ناراً؟ كل ذلك يحدث أصوات شديدة، فتكون القيامة صاخة، فكأن سورة التكوير تفسر واقع كلمة الطامة التي تأتي على كل شيء، وتفسر معنى كلمة: الصاخة، وهي القيامة ذات الصوت الشديد المرعب الذي يسمعه كل الخلق.
نسأل الله أن يعافينا من ذلك.
"سورة عبس وتولى" السابقة جاء في أولها عتاب لطيف، نعم ولكنه عتاب من الله -سبحانه وتعالى- لخير أولي الألباب -صلى الله عليه وسلمَ-، وربما يفهمها بعض الناس فهما خاطئا يعني إذاً النبي أخطأ، إذاً، الله غضب من النبي -صلى الله عليه وسلمَ- ولو لحظة، إذًا.. إذاً.. فيسفر تفسيرات لا مكان لها ولا وجود لها.
جاءت "سورة التكوير" لتظهر مقام رسول الله -عليه الصلاة والسلام- عند الله -عز وجل- إذ يقول: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ)، الله يشهد أمانته، الله يشهد ببراءته من الجنون والسفه، ومن الصفات الذميمة التي وصفه بها الكفار، حين يشهد الله بصلاحه وبأخلاقه وببراءته من النقائص التي عرفها الناس؛ تلك شهادة تمسح كل عتاب، وترفع كل حجاب بينه وبين رضا الله وبين محبته سبحانه وتعالى، فكأنها تحدث توازنا وتكاملا، الله يحب النبي حبا عظيما، ورفعه أعلى الدرجات، ولكن هذا لا يبرئه لو فعل شيئا خلاف ما يريده الله، فالله يعاقبه عليه، أو يعاتبه عليه حسب حجم ما يفعل الرسول -صلى الله عليه وسلمَ-.
فهذه مرة عاتبه فيها، وعاتبه في أمور أخرى أيضا في القرآن مذكورة، وهناك وعيد وتهديد بالعقاب، ولكن الأنبياء لا يرتكبون شيئا يستحقون عليه عقابا، قال الله هنا: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ)، قال الله في آية أخرى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ) [الحاقة: 44]، لو افترى علينا افتراءً في شيء: (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [الحاقة: 45 - 47] يعني لتقتلنه شر قتلة، وأشد قتلة نبيك يا رب؟ نعم، لا مجاملة في الحق والباطل، لا مجاملة في الخير والشر.
(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الزمر: 65] الخطاب وجه بهذا إلى كل نبي، وإن كان المراد بالخطاب هم الأمم، ولكن وجه الخطاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- لا مجاملة، هذا هو التوازن، فلا يغررك أنك تحب الله، ولا يغررك أن الله يحبك، فإنك إن فعلت شيئا تخالف به منهج الله حقت العقوبة أو الملامة والعتاب حسب حجم هذه المخالفة.
هذه سورة التكوير وسور هذا الجزء سور قصار، ولكن مع قصرها ففيها العبر الكثيرة، وفيها الأحداث والأهوال، ولا نكتفي بما سمعنا، فهذا المقام ضيق وله مقصد معين، إنما الدروس في السورة كثيرة لمن قرأها وتدبرها، أكثروا من قراءة: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، و (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ)، و (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ)، ترون القيامة كأنها رأي عين.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يصلح قلوبنا، وأن يصلح أعمالنا، وأن يصلح نوايانا، وأن يحسن ختامنا، وأن يحسن خلاصنا، وأن يحسن إيابنا إليه، وأن ييسر حسابنا بين يديه، بل نسأله أن يعافينا من الحساب، فيدخلنا مع الذين يدخلهم الجنة بغير حساب ولا استلام كتاب ولا كلمة عتاب إنه هو الكريم التواب.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي