إن البلاد -أيها الكرام- سيتحقق فيها الأمن, وترتدُّ كل دعوة من دعوات التخريب في نحرها، إذا حافظنا جميعاً، أمراء ومأمورين، على ثوابت الدين, وسعينا في تحقيق مصالح الدين والدنيا, وفي رفع المظالم..
سنة الله في الحياة أنها لا تدوم على حال؛ فيوم رخاء ويوم شدة, زمن تصفو الحياة فيه وزمن تتكدر, وتلك سنة ربانية؛ ليتمحص الصف، وتبين الحقائق، ويظهر المُحِقّ من المبطل، والوفي من الدعيّ, والعدو من الصديق.
قبل قرابة عقدين من السنين, وقبيل وفاة العلامة العثيمين, وهو في مرضه الأخير, أتاه شاب يطلبه النصيحة, نصيحة من إمامٍ لا يرجو دنيا، فهو على فراش الموت, ولا يخاف إلا الله, وعالمٍ جمع العلم والحكمة, قال: فقال لي الشيخ: يا فلان, السفينة موقرة, فإياكم أن تكونوا ممن يخرقها!. أي: إن الأطماع محيطة, والأعداء متربصون, فأي خرقٍ في السفينة سيغرق الجميع.
تذكرت هذه الوصية من هذا الإمام لصاحبنا وأنا أسمع عن دعوات حراك سلمي, كما يزعمون.
نحن -يا كرام- نعيش في بلدٍ نغبط فيه على ديانة أهله, وتلاحم الراعي والرعية في رحابه, نعيش في دولة شعائر الإسلام فيها ظاهرة, والأمن فيها إلى -حدٍ كبيرٍ- مستتب, يذعن أهلها لولاة أمرها, وذاك أمرٌ تُحسد عليه البلاد, وتلاحمٌ قد لا تراه في أي مكان آخر.
وما كان لهذا التلاحم أن يقع -بعد توفيق الله- إلا لعلم الناس بحق ولاة أمرهم عليهم؛ ولذا فهم يطيعون الولي في غير ما معصية، لا خوفاً بل ديانة لله الذي قال لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء:59]، وإذعاناً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "مَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي"؛ واستجابة لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ"، وتأسياً بالصحابة الكرام الذين قال عبادة بن الصامت -رضي الله عنه وعنهم-: "بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ"، والأثرة: هي أن يستأثر طائفة من أهل الشأن بالحكم والمال العام، وإيثار قومٍ دون قوم.
والمسلمون يرجعون إلى توجيه النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه"، قال ابن بطال: في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار, وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلّب، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك؛ بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها.
كل هذه الأمور يدين بها أهل البلاد تقرباً لله, ووعياً بما تجره مثل هذه الدعوات المغرضة من غوائل, وما تورثه من مفاسد, فالبلاد إذا أمنت أطاع الناسُ ربهم بسكينة وطمأنينة, وصلحت لهم دنياهم، وسلمت آخرتهم, وحين تحل الفتن والاضطرابات تُركِس فيها من رغب ومن لم يرغب.
نعم، نحن نقرّ بأن لدينا قصوراً, ومعاصي ظاهرة, وأموراً منكرة, ونسعى للإصلاح, ولكن الوسيلة للإصلاح لا بد أن يُسلَك فيها ما يقرّه ديننا, وما يجيزه علماؤنا؛ ومن الحمق أن تكون الوسيلة ضررها أكثر من نفعها! فكيف إذا كانت مضرّة خالصةً أو مفسدة غالبة؟ كالمظاهرات والاعتصامات, وتلك موجة شاعت في الفترة الأخيرة في بعض بلاد الإسلام.
رأينا من يقول: إنه وسيلة استنكار, وطريق إصلاح, وحراك سلمي, وإذا بالأمور تختلف, وبالمسار ينحرف, وبالدماء تسيل.
ولو فرضنا القصد حسناً, فإن تطبيقه هنا مشكل, ورأينا -ورأى الجميع- أن اضطراب الأمور ما هو إلا شرارة, متى ما أوُقِدت فإنها قد تحرق أمماً.
وبات إخوتنا من بلاد الإسلام التي اضطربت أمورهم يودون لو أنهم بقوا على ما كانوا عليه, ولكنها حكمة الله! كل هذا يقال في أي بلد من بلاد الإسلام, أما ما نقوله هنا فإن الأمر أشد وأظهر, فالبلد هنا تقام فيها شعائر الإسلام, لا يضايق من يعبد لله, ومجالات الخير متاحة, برغم القصور الموجود, البلاد هنا تُحَكِّم الشريعة، ووقوع بعض الأخطاء من قِبل الراعي أو من حوله لا تسوّغ سلوك طرق كهذه، أفتى علماؤنا الأجلاء بحرمتها, أفتوا بذلك نصحاً للأمة، وخشيةً من الاستغلال السيئ مِن قِبَل الأعداء لها.
البلد هنا تعج بأطياف من التوجهات, ولبلاد الحرمين خصوم هاجسهم إفساد البلاد, وطلبتهم إِشاعةُ الفوضى بينهم, وهم يتحينون الفرصة للدخول في البلاد بالقوة عبر أي ذريعة, ويُخشى من التنازع الداخلي الذي قد يحصل من منطلق قبلي أو غيره، وكل هذا أمر وارد, وأشد من ذلك كلِّه الافتتان الطائفي الذي تذكيه الدولة الفارسية, والروافض في البلاد يتحينون الفرصة لكسب أكبر قدر من المكاسب عبر هذه المظاهرات والحراكات التي ثبت بالعقل وبالواقع ضررها.
فليكن شبابنا على حذر من أن تستجرهم دعاوى تظاهر يكون الشباب وقودها, وهم أقلُّ الناسِ رِبحاً فيها, بل عليهم حارُّها ولغيرهم من أصحاب الأفكار المنحرفة قارُّها, وقد علمتنا الأحداث من حولنا أن مثل هذه المظاهرات يترتب عليها ضحايا, وأن استتباب الأمن بعد انتهائها فيه عسرٌ, وقد يجني المجتمع من لظى فقده مُدداً, وما دام الوالي مسلماً، والمرء في عنقه لولي أمره بيعة، فليس من حق المرء أن يفعل أمراً يفرق الوحدة ويوهن الصف, وحين تكون الفتنة نائمة فإن من أيقظها يبوء بإثمها.
والصحب الكرام, والأئمة الأعلام، كانوا أحرص شيء على جمع الكلمة, وردمِ كل سبب فرقة, والسكوتِ ولو عن بعض الحقّ إذا خشي أن تترتب عليه تفرقة, أورد البخاري في صحيحه أن معاوية لما دخل المدينة خطب فقال: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الأَمْرِ -أي الخلافة- فَلْيُطْلِعْ لَنَا قَرْنَهُ -أي فليظهر نفسه-، فَلَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ. قَالَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ لعبد الله بن عمر: فَهَلَّا أَجَبْتَهُ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "فَحَلَلْتُ حُبْوَتِي، وَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: أَحَقُّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْكَ مَنْ قَاتَلَكَ وَقاتل أَبَاكَ عَلَى الإِسْلاَمِ"، قال: "فَخَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بَيْنَ الجَمْعِ، وَتَسْفِكُ الدَّمَ، وَيُحْمَلُ عَنِّي غَيْرُ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الجِنَانِ, فسكتُّ".
رضي الله عنك يا بن عمر, سكتَ عن كلمةٍ خشي أن تفرق الجمع, فما أحوجنا إلى أن نغلق كل بابٍ قد يكون سبباً للفرقة والاختلاف! فما بالك إذا كان الطريق مما أفتى علماؤنا بحرمته، وبأن ضرره أكثر من توقع نفعه؟.
ولعل قائلاً أن يقول: إن المظاهرة السلمية ما هي إلا وسيلة من وسائل التعبير، وطريقٌ من طرائق التغيير، آتت أكلها في جهاتٍ, وليس بالضرورة أن يكون من قام بها يريد تغيير حكم أو إسقاط نظام، أو يخلع بيعة في عنقه؟ والجواب: التنظير شيء, لكن الواقع يناقضه, والأمور قد لا تقاس بمبادئها, بل بمآلاتها, فكل الدول التي من حولك بدأت الأمور فيها سلمية، ولكن الشارع بعد ذلك يساق إلى ما لا يريده المتظاهرون, حين يدخل في الصف من يريد الاضطراب، ومن يشيع الفوضى, وحينها فقد ينفرط العقد، وينقدح الزناد, ويصعب على الجميع تدارك الوضع، ورأب الصدع, وإذا حلّت الفتن خرجت الأمور من أيدي العقلاء.
اللهم اجعل عواقب أحوال المسلمين في كل بلدٍ إلى خير, وأصلح أحوالهم، ودبرهم على خيرِ دينهم ودنياهم.
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
معشر الكرام: يحزننا أن نرى في بلادنا أي مكدّرٍ، صغُرَ أو كبر, ولكن رحمة الله اقتضت أن لا يُحاسَب المرءُ إلا على ما فعل, وعلى ما قدر على تغييره فما فعل, أما ما عدا ذلك من أمورٍ فالله لن يحاسبك إن لم يكن بيدك حيلة, وإنما عليك نفسك فأصلحها, وقد قال عقبة بن عامر -رضي الله عنه- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ما النجاة؟ فقال: "املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك".
وبعد: يا كرام، لن يعرف قدر نعمة الأمن إلا من فقدها, والعلماء العارفون كانوا يقولون: مَلِكٌ ظلومٌ غشومٌ، خير من فتنة تدوم.
إن البلاد -أيها الكرام- سيتحقق فيها الأمن, وترتدُّ كل دعوة من دعوات التخريب في نحرها، إذا حافظنا جميعاً، أمراء ومأمورين، على ثوابت الدين, وسعينا في تحقيق مصالح الدين والدنيا, وفي رفع المظالم.
والدور على الجميع اليوم -بلا استثناء- في جمع الكلمة, وكشف زيف المغرضين, والإصلاحِ عبر كل وسيلة, والنصحِ لعامة المسلمين ولولاتهم.
والدور على المربين مهمٌّ في تذكير الشبابِ منهجَ أهل السنة تجاه ولاة أمرهم, وتذكيرهم بمغبة الفوضى والاضطراب, وعلى الجميع دور في حفظ الأمن, وإحياء الإيمان.
اللهم أدم على بلاد المسلمين أمنها وإيمانها, وردّ كيد الكائدين في نحورهم, واكف المسلمين في هذه البلاد وغيرها شرورهم.
اللهم صل وسلم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي