منحة الإسراء والمعراج

صالح بن عبد الله الهذلول

عناصر الخطبة

  1. تلبّد جوّ الدعوة بالأذى قبل الإسراء والمعراج
  2. تسرية النبي الكريم بالإسراء والمعراج
  3. عَرضٌ موجَزٌ لرحلتي الإسراء والمعراج
  4. معراج المؤمنين الروحي بالصلاة
  5. دلالة الإسراء والمعراج على مكانة النبي وأمته
  6. ما أُحْدِثَ في أمر الإسراء والمعراج   

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي رفع قدر نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والأخرى، وأسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فأعظِمْ بذلك فخراً! وقدمه جبريل فصلى بالأنبياء والمرسلين ليعلم به أنه الإمام الأعظم، وأنه بذلك المقام أحرى.

ثم رقا إلى السماوات العلا، إلى سدرة المنتهى، حتى سمع صريف الأقلام، ورأى من آيات ربه الكبرى، كلمه ربه وخاطبه وثَّبت فؤاده، وأعطاه سؤله، فسبحانه من إله نزه نفسه بنفسه في مقام الإنباء عن الإسراء فقال -جل ذكره-: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى﴾ [الإسراء:1].

وأشهد أن لا إله إلى الله وحده شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، بعثه الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وتابعيهم إلى يوم القيامة الكبرى.

أما بعد: أيها المؤمنون، حادثة الإسراء والمعراج لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- تواترت بها الروايات عن خمسة وعشرين صحابياً نقلوها عن نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وإنها نعمة انفرد بها -صلى الله عليه وسلم- وتكريم خصه الله -تعالى- به من بين سائر رسله وأنبيائه، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وجاء هذا التكريم للنبي الكريم، ونال هذه المنحة من مولاه، بعد أن بلغت الدعوة أصعب مراحلها وأقسى أيامها، ووصلت عداوة المناوئين له الذروة في إلحاق الأذى به وأصحابه، حتى كاد الأمر يتجاوز قوة احتماله.

عمه الذي كان يحميه ويدافع عنه مات، وزوجته الرؤوم خديجة -رضي الله عنها- التي كانت تواسيه وتسليه وتسري عنه ماتت، ففقد الحماية وفقد المؤانسة، والقوم في طغيانهم يعمهون، فتحتم عليه البحث عن بدائل؛ فذهب إلى الطائف يعرض دعوته على ثقيف، إلا أن الرد جاء قاسياً، ومؤيِّساً؛ رفضوا دعوته، وطردوه، وأغروا به سفهاءهم، وعاد طريداً وحيداً إلى بلدٍ أُخرج منها، ليقبل عليها خائفاً يترقب، ولم يستطع دخول مكة إلا بجوار رجل كافر هو المطعم بن عدي.

في هذه الأثناء، وجو الدعوة ملبدٌ بسحبٍ من الأذى كثيفة، وعلاماتُ وقرائن قحط الإجابة بادية على أهل مكة، هنا تفيض رحمة الله على عبده، وأحب خلقه إليه، وأفضل الأنبياء كافة، تأتي منحة الإسراء والمعراج، وكان ذلك في السنة الثانية عشرة من البعثة.

جاء في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في بيته، فجاءه جبريل -عليه السلام-، فأخذه إلى المسجد الحرام، وفي الحجر -وهو جزء من الكعبة- فرج صدره، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئٍ حكمة وإيماناً، فأفرغه في صدره، ثم أطبقه، ثم أسرى به إلى بيت المقدس على البراق، وهناك صلى بالأنبياء.

ثم عرج به إلى السماء الدنيا، وتنقل من سماءٍ إلى التي تليها، وأثناء تنقله في السماوات التقى بالأنبياء: آدم في السماء الدنيا، وعيسى ويحيى بن زكريا في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، عليهم الصلاة والسلام.

وسمع صريف أقلام الملائكة، وهناك فرض الله عليه خمسين صلاة في اليوم والليلة، فراجع ربه بمشورة من أخيه موسى -عليه السلام- حتى خففت إلى خمس صلوات.

ثم انطلق به جبريل حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، وهي شجرة عظيمة جداً فوق السماء السابعة، ينتهي إليها ما يعرج من الأرض، وينزل إليها ما ينزل من الله -تعالى- من الوحي وغيره.

أيها المؤمنون: لئن كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- منح معراجاً في جسده وروحه إلى السماء، وكشف الله له معاينةً كثيراً من الآيات وعجائب الأرض والسماوات، فإن غيره من المسلمين لهم أيضاً حظ من هذا المعراج، كلَّ يوم خمس مرات، لكنه معراج بالروح فقط، إنها الصلوات الخمس؛ يقف المسلم فيها بين يدي ربه.

خرج الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن"، فذكر منها: "وأمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا"، وفي صحيح مسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في ركوعه: "خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي، وما استقل به قدمي".

وفي صحيح مسلم -أيضاً- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".

ولا زال نبينا -صلى الله عليه وسلم- يأمر بالصلاة، ويعلمها أصحابه، حتى كانت آخر وصاياه قبل أن يفارق الدنيا، فقد أوصى الناس فقال: "الصلاةَ الصلاةَ! وما ملكت أيمانكم" كرر ذلك مراراً. رواه البخاري.

إذا وقفت -أيها المسلم- بين يدي مولاك في الصلاة، فتحقق أنه -سبحانه- مقبل بوجهه عليك، يسمعك ويراك، فاعبده بالإحسان كأنك تراه، ولا تلتفت عنه بعينك أو قلبك فينصرف وجهه عنك، تفكر وتدبر أن الصلاة شرعت وفرضت على نبينا -صلى الله عليه وسلم- حين عرج به إلى السماء، وتذكر أن الله -تعالى- خالقُ الدنيا والآخرة وما فيها، وعالم الغيب والشهادة، وأنه على كل شيء قدير،  فاعرج بنفسك لمولاها وأشغلها بتملقه ودعائه؛ لأن النفس لا بد أن تنشغل؛ فالصلاة أقوال وأفعال، فللأقوال معنى، وللأفعال مغزى، ولا تحرم نفسك من فيوضات الجليل الرحيم -سبحانه-، ونعمه التي أودعها في الصلاة، ومن أعظمها وأجلها المناجاة بينك وبين السميع البصير وأنت تقرأ سورة الفاتحة.

[ليست الصلاة طقوساً ولا حركاتٍ آلية لا يعقل لها معنى، وإنما هي مدرسة تربى المؤمنين على أنبل معاني الخير والحب والفضيلة، في زحمة الحياة وصخبها وشرورها]. إنها معراج الروح إلى الله -تعالى- في اليوم خمس مرات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(46)﴾ [البقرة:45-46].

الخطبة الثانية:

الحمد لله، استقرت حكمته -سبحانه- أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يُدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق؛ ولأجل ذلك حفت الجنة بالمكاره والنارُ بالشهوات.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، عبد ربه حق العبادة حتى كأنه يراه، وجعلت قرة عينه في الصلاة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الحشر والتناد، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: أيها المؤمن، إنك عندما تريد أن تلقى مسؤولاً يفوقك بمنصبه، تطلب المقابلة أولاً، فينظر في الطلب وموضوعه، ويحدّد الزمان والمكان، هذا إذا قُبل الطلب، وقد لا يقبل، أما مقابلة الحق -سبحانه- فهي بيد العبد زماناً ومكاناً، لا ينهيها الله -عز وجل- حتى ينصرف العبد مختاراً. قال بكر بن عبد الله: "يا بن آدم، إذا شئت أن تدخل على مولاك بغير إذن، وتكلمه بلا ترجمان دخلت عليه!"، قيل: وكيف ذلك؟ قال: "تسبغ وضوءك، وتدخل محرابك، فإذا أنت قد دخلت على مولاك بغير إذن، فتكلمه بغير ترجمان".

معاشر المسلمين، يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: تضافرت الروايات أن نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- صلى بالأنبياء إماماً في بيت المقدس ليلة أسرى به، قبل عروجه إلى السماء، وجاء في خبر صححه الحافظ ابن كثير أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى بهم بعد إن هبط من السماء؛ هبطوا معه تكريماً له وتعظيماً عند رجوعه من الحضرة الإلهية الجليلة، وإمامته الأنبياء دليل على جلالة قدره، وعلو مرتبته، وأنه أفضل الأنبياء وسيدهم.

وهو دليل على دخول جميع الرسالات السماوية تحت رسالته، وانضواء الرسل كلهم – بأقوامهم تحت لوائه، قال الله -تعالى-: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(82)﴾ [آل عمران:81-82]. أي: بعد ذلك العهد والميثاق المؤكد بالشهادة من الله، ومن رسله.

﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾: هذا أبلغ بيان، ومن أقوى الأدلة على أن اليهود والنصارى وغيرهم من الأمم والأقوام الأخرى إن لم يتبعوا دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ولم يؤمنوا به، ويدخلوا فيه، استحقوا الفسق الموجب للخلود في النار. ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران:85].

أيها المؤمنون: لئن كان الإسراء والمعراج تم للنبي -صلى الله عليه وسلم- روحاً وجسداً، إلا أن معرفة تلك الليلة وتحديدها -أي: ليلة الإسراء والمعراج- لم يرد في حديث صحيح مقبول عند أهل العلم بالحديث، واحتفال كثير من المسلمين في الأقطار الإسلامية بذكرى تلك الليلة مخالف للشرع من وجهين:

الوجه الأول: لأن المحتفلين يجزمون بتعيين تلك الليلة في السابع والعشرين من شهر رجب، وهذا لم يثبت بنقل صحيح شرعاً كما تقدم.

الوجه الثاني: لو ثبت تعيين وتحديد ليلة الإسراء والمعراج، لم يجز لمسلم أن يخصها بشيء من الاحتفالات؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتفل بها، ولم يخصها بشيء، ولو كان ذلك ديناً وفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- لنقله الصحابة إلى من بعدهم ووصل إلينا، فإنهم نقلوا عن نبيهم -صلى الله عليه وسلم- كل شيء تحتاجه الأمة، ولم يفرطوا في شيء من الدين، بل هم -رضي الله عنهم- السابقون لكل خير وفضيلة.

فاتقوا الله عباد الله، ودعوا وتجنبوا ما يقصيكم عن ربكم، ويبعدكم عن سنة نبيكم، وإن فعل ذلك آباء ومشايخ وفضلاء هم عندنا محل احترام ومحبة وتقدير، لكن دين الله -تعالى- أحب إلينا من كل أحد، وما مات محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا وقد كَمُل الدين وتم، فـ "إياكم ومحدثات الأمور!".

احرصوا على ما ينفعكم، واعرجوا بالأرواح إلى ربكم بكثرة الصلاة والمحافظة عليها، فإنك يا بن آدم ما ركعت لله ركعة أو سجدت سجدة إلا ازددت بها من الله قرباً ومحبة.

اللهم حبب إلينا الإيمان…


تم تحميل المحتوى من موقع