أخلاق الأنبياء

حمزة بن فايع آل فتحي
عناصر الخطبة
  1. تمثل أتباع الأنبياء بسير وأخلاق الأنبياء .
  2. نماذج رائعة في أخلاق أتباع الأنبياء .
  3. منزلة الأخلاق الحسنة وخطر الأخلاق السيئة .
  4. الحاجة إلى تزكية النفس .

اقتباس

اعلموا -هدانا الله وإياكم- أن الخلق الحسن صفة سيد المرسلين، وأفضل أعمال الصديقين، وهو على التحقيق شرط الدين، وثمرة مجاهدة المتقين، ورياضة المتعبدين. والأخلاق السيئة هي...

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.

معاشر المسلمين: قال بعض الناس: إن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- امتلكوا غاية الكمال في الخلق والنبل والزكاة، فهل لا زالت أخلاقهم تُرى في أتباعهم وتلاميذهم؟

فقلنا: نعم لا تزال أخلاق الأنبياء في أناس كالأنبياء في أخلاقهم وآدابهم وشمائلهم، اطمأنت قلوبهم بذكر الله، وزكت نفوسهم بهداه، وامتلأت بحبه وتقواه.

وهاكم شيئا من أخلاقهم مما ذكر في سيرهم وتراجمهم:

صديق هذه الأمة أبو بكر -رضي الله عنه- في حادثة الإفك حلف أن لا ينفق على مسطح بن أثاثه وكان ابن خالته؛ لأنه تكلم في عائشة -رضي الله عنها-؛ فنزل قوله تعالى: (وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ) إلى قوله: (أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [النور: 22] فقال أبو بكر: "بلى نحب أن يغفر الله لنا"، وأعاد النفقة على مسطح مضاعفة.

سب رجل ابن عباس -رضي الله عنهما-، فلما فرغ قل: "يا عكرمة هل للرجل حاجة، فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحيا".

وعن علي بن الحسين -رضي الله عنهما-: أنه سب رجل فرمى إليه بخميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فقال بعضهم: "جمع له خمس خصال محمودة: الحلم، وإسقاط الأذى، وتخليص الرجل مما يبعد عن الله، وحمله على الندم والتوبة، ورجوعه إلى المدح بعد الذم"، اشترى جميع ذلك بشيء من الدنيا يسير.

وقال الفُضيل بن عياض -رحمه الله-: "ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان، جلس إليّ في المسجد، ثم قام ليطوف فسرقت دنانير كانت معه، فجعل يبكي، فقلت: أعلى الدنانير تبكي؟ فقال: لا، ولكن مثلتني وإياه بين يدي الله -عز وجل- فأشرف عقلي على إدحاض حجته فبكائي رحمةً له"!

واشترى الربيع بن خُثيم -رحمه الله- فرساً بثلاثين ألفا، فغزا عليها، ثم ربط فرسه مرة وقلم يصلي، فجاءه غلامه فقال: يا ربيع أين فرسك؟ قال: سرقت يا يسار، قال: وأنت تنظر إليها؟! قال: نعم يا يسار، إني كنت أناجي ربي -عز وجل- فلم يشغلني عن مناجاة ربي شيء، اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده، وإن كان فقيراً فأغنه".

إنا وإن كنا أسنة قومنا *** وكان لنا فيهم مقام مقدَّم

لنصفحَ عن أشياء منهم تُربينا *** ونصدف عن ذي الجهل منهم ونحلم

ونمنح منهم معشرا يحسدوننا *** هنيّ عطاء ليس منه تندمُ

ونكلؤهم بالغيب منا حفيظة *** وأكبادنا وجداً عليهم تضرَّمُ

سأحمل عن قومي جميع كلومهم *** وأدفع عنهم كل عزم وأغرم

قيل: إن أبا إسحاق الشيرازي -رحمه الله- نزع عمامته، وكانت بعشرين ديناراً، وتوضأ في دجلة، فجاء لص فأخذها وترك عمامة رديئة بدلاً منها، فطلع الشيخ فلبسها، وما شعر حتى سألوه وهو يدرس فقال: "لعل الذي أخذها محتاج!".

وقيل للأحنف بن قيس: "من أين تعلمت الحلم؟ فقال: من قيس بن عاصم، قيل: وما بلغ حلمه؟ قال: بينما هو جالس في داره، إذ أتته جاريه له بسفود عليه شواء، فسقط من يدها، فوقع على ابن له صغير فمات، فدهشت الجارية، فقال لها: لا رَوْعَ عليك، أنت حرة لوجه الله".

أحاديث لو صيغت لألهت بحسنها *** عن الوشي أو شُمَّت لأغنت عن المسكِ

وقيل: "إن أويسا القَرني كان إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة فكان يقول لهم: يا إخوتاه! إن كان ولابد فارموني بالصغار، حتى لا تدموا ساقي، فتمنعوني عن الصلاة".

ويروى أن إبراهيم بن أدهم -رحمه الله- خرج إلى بعض البراري، فاستقبله رجل جندي، فقال: "أنت عبد؟ قال: نعم، فقال له: أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة، فقال الجندي: إنما أردت العمران! فقال: هو المقبرة، فغاظه ذلك، فضرب رأسه بالسوط فشجَّه، وردَّ إلى البلد، فاستقبله أصحابه فقالوا: ما الخبر؟ فأخبرهم الجندي ما قال له، فقالوا: هذا إبراهيم بن أدهم! فنزل الجندي عن فرسه، وقبل يديه ورجليه، وجعل يعتذر إليه، فقيل بعد ذلك له: لم قلت له أنا عبد؟ فقال: إنه لم يسألني عبد من أنت بل قال أنت عبد؟ فقلت: نعم؛ لأني عبد الله، فلما ضرب رأسي سألت الله له الجنة، فقيل: كيف وقد ظُلمت؟ فقال: علمت أنني أؤجر على ما نالني منه، فلم أرد أن يكون نصيبي منه الخير، ونصيبه مني الشر".

وإمام العصر الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- يكاد يجمع مجالسوه ومعاصروه وزائروه على تحليه بخلق التواضع الجم، الذي يجعله رحب النفس، واسع الصدر، خافض الجناح لجميع من يأتيه ويجالسه من محبين وفقراء ومساكين وغرباء.

وقد قال المروزي -رحمه الله- مقولة في الإمام أحمد أراها أليق ما تكون بالشيخ -رحمه الله-، قال: "لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد اله، كان مائلاً إليهم مقصراً عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا، لا يتكلم حتى يسأل وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر، يقعد حيث انتهى به المجلس".

روى الترمذي عن جابر -رضي الله عنه- بسند حسن: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحسنكم أخلاقاً".

وعند أحمد عن أبي الدرداء قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن".

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة الفضلاء: اعلموا -هدانا الله وإياكم- أن الخلق الحسن، صفة سيد المرسلين وأفضل أعمال الصديقين، وهو على التحقيق شرط الدين، وثمرة مجاهدة المتقين، ورياضة المتعبدين.

والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة، والمهلكات الدامغة، والمخازي الفاضحة، والرذائل الواضحة، والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين.

والأخلاق الخبيثة أمراض القلوب، وأسقام النفوس، إلا أنه يفوَّت حياة الأبد، وأين منه المرض الذي لا يفوت إلا حياة الجسد؟ ومهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج لأمراض الأبدان وليس في مرضها إلا موت الحياة الفانية، فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب أولى.

وهذا النوع من القلب واجب تعلمه على كل ذي لب، إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام، لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تألق في معرفة علمها وأسببها ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها، لمعالجتها وهو المراد بقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) [الشمس: 9]، وإهماله بقول: (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 10].

وتزكية النفوس بالتحلي بالأخلاق الحسنة، والتخلي عن سيئاتها، مطلب عظيم، وربع الرسالة المحمدية، ولذا أقسم الله -عز وجل- أحد عشر قسما متتالياً، لم تأت إلا في موضع واحد من القرآن على أن الفلاح منوط بتزكية النفوس، قال تعالى: (والشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا* وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا  بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا  طَحَاهَا* وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 1 - 10].

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال والأقوال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي