إن من العوامل التي توجد العنف الأسري هو عدم أداء الحقوق؛ الأب لا يؤدي الحقوق الواجبة تجاه زوجته وأولاده، الزوجة كذلك والأولاد مثل ذلك؛ فلو أدى كل فرد في الأسرة الحقوق الواجبة عليه تجاه والديه وإخوانه لما حدث خلاف ولسادت المحبة في الأسرة، فلقد رسم...
أما بعد:
فيا أيها الناس: خلق الله الكون فأبدعه، ومن إبداعه أن جعل من كل خلق خلقه زوجين اثنين؛ لتستمر الحياة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ومن أفضل الخلق عند الله بنو آدم الذين اصطفاهم الله لحمل رسالة التوحيد، وعبادة الله في الأرض؛ فالمرء يولد فردا في أسرة، ثم ما يلبث أن يكون ربا لأسرة، وهكذا تستمر الحياة، وإن استقرار الأسر، مطلب رباني؛ فالله من حكمته أن جعل بين الزوجين مودة ورحمة، تنشأ مع العقد وتزداد بتبادل الحقوق.
عباد الله: الأسرة هي اللبنة الأولى للمجتمع، فلا بد أن تكون صالحة ليصلح المجتمع؛ فهنيئا لمن رزق أسرة صالحة مطمئنة قد رضي الجميع فيهم، غير أن هناك أسرا قد تفرقت أو ضعفت أواصرها، ويرجع ضعفها وتفرقها لأسباب عدة، ومن أشد الأسباب تفريقا للأسر ما يسمى بالعنف الأسري؛ الذي يشتت الأسرة وينفر القلوب، ويجعل جو الأسرة جوا كئيبا، غير مرغوبٍ العيشُ فيه؛ لذا كان لزاما على الآباء والأمهات السعي في تجنب هذا الداء الفتاك، وهذا ما سنتعرض له في هذه الخطبة بإذن الله.
أيها المؤمنون: ما أنعم العيش إذا كان بين أبوين وإخوة متحابين متعاطفين، وما أنكده إذا تخلفت تلك الصفات؛ فلنسْع جميعا لخلق جو أسري سعيد لننعم بالحياة الهادئة، التي إذا دخلها الإيمان والطاعة سمت في ملكوت السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة.
العنف الأسري هو سوء الخلق من أحد أركان الأسرة -وهم الأبوان والأولاد-، مما يسبب التشاحن والتباغض، ولربما أدى للقتل، كما نسمع بين الفينة والأخرى والعياذ بالله.
وقد عرفت البشرية العنف الأسري من قديم الزمن عندما قتل قابيل أخاه هابيل فإن ظاهرة العنف الأسري لها أشكال عديدة فهناك العنف الذي يتعرض له الأطفال سواء بالإهمال وسواء التربية أو الضرب والتعذيب وهناك العنف المتبادل بين الآباء والأولاد وبين الآباء والأمهات وبين الإخوة والأخوات بل وقد امتد العنف خارج نطاق الأسرة الصغيرة إلى الأقارب والأصهار من عداوة وعنف في ما بينهم وهناك العنف الذي تتعرض له الزوجات من الأزواج والمتمثل في سوء المعاملة والضرب والتعذيب وأن الأبواب المغلقة خلفها حكايات كثيرة وهذا النوع من العنف يؤثر على الأولاد وبالتالي على المجتمع ككل.
وقد طفت على السطح حديثاً ظاهرة العنف الجنسي الذي تتعرض لها المحارم بارتكاب الفحشاء معهم. بل هناك ظاهرة خطيرة للعنف الأسري والمتمثلة في إيذاء كبار السن من الآباء والأمهات سواء بالضرب أو الإهانة أو بتركهم بدون رعاية أو حماية.
عباد الله: إن من العوامل التي توجد العنف الأسري هو عدم أداء الحقوق؛ الأب لا يؤدي الحقوق الواجبة تجاه زوجته وأولاده، الزوجة كذلك والأولاد مثل ذلك؛ فلو أدى كل فرد في الأسرة الحقوق الواجبة عليه تجاه والديه وإخوانه لما حدث خلاف ولسادت المحبة في الأسرة، فلقد رسم المولى للأسرة طريق السعادة؛ فمن حاد عنه تعرض للتعاسة ولا بد.
ومن العوامل كذلك: عامل الوراثة، فيكون الولد عاش في جو مليء بالعنف فإذا كبر وكون أسرة طبق الأخلاق التي رآها في أسرته، وبهذا يظهر أثر العنف في الأسرة أنه يؤثر على الأبناء فيرثون ذلك الخلق.
ومن العوامل: ظروف المعيشة الصعبة؛ كالفقر والبطالة والضغط النفسي والإحباط المتولد من طبيعة الحياة العصرية اليومية.
وكذلك تعاطي أحد أفراد الأسرة للكحول والمخدرات.
وكذلك اضطراب العلاقة بين الزوجين نتيجة ضعف الوازع الديني والأخلاقي وعدم الانسجام بين الزوجين في مختلف جوانب الحياة التربوية والتعليمية والاجتماعية والفكرية والبيئية مما يؤدي لغياب ثقافة الحوار والتشاور داخل الأسرة.
وكذلك الفهم الخاطئ للدين والعادات والتقاليد التي تركز على قيادة الرجل لأسرته بالعنف والقوة.
عباد الله: إن العنف لا يصلح بل يفسد، ولا يبني بل يهدم، لهذا وجب على المسلم تجنبه مع الجميع خصوصا أفراد الأسرة
اللهم وفقنا لهداك...
الخطبة الثانية
أما بعد:
فيا أيها الناس: من أراد السعادة الأسرية فليلزم هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- الزوج الحنون، والأب العطوف؛ فمن قرأ سيرته وسار على نهجه نجا وأفلح.
استمع لعائشة رضي الله عنها تصفه تقول فيما أخرجه مسلم في صحيحه "ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً قطُّ بيده، ولا امرأةً، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطُّ فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله تعالى".
ومع أن ضرب الرجل زوجته جائز شرعا للتأديب إلا أنه لا ينبغي إلا في أضيق الحدود وضربا غير مبرح، قال تعالى: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) [النساء:34] وأخرج أحمد وأبي داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذباب -صلى الله عليه وسلم- "لا تضربوا إماء الله" فجاء عمر فقال: قد ذنر النساء على أزواجهن، فأذن لهم فضربوهن، فأطاف بآل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساء كثير فقال: لقد أطاف بآل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعون امرأة كلهن يشكين أزواجهن، ولا تجدون أولئك خياركم؛ فالضرب مباح غير أنه لا يفعله خيار الناس ولهذا لم يضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة قط.
عباد الله: إن الزوجة هي التي تنشر الرحمة والعطف والحنان في البيت؛ فعليها دور كبير في ذلك، ولكن الزوج مطالب بالحلم وكظم الغيظ؛ فهو القوام على الأسرة ومن الواجب عليه التحمل والصفح لتسير الأسرة بسلام، قال ابن كثير: "وكان من أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه".
أخرج البخاري في صحيحه من حديث عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عندَ بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصَحْفةٍ فيها طعامٌ، فضربت التي النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في بيتها يدَ الخادم، فسقطت الصَّحْفةُ، فانفَلَقَتْ، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: "غارت أمُّكم"، ثم حبس الخادمَ حتى أُتِي بصَحْفَةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفع الصَّحْفَةَ الصحيحة إلى التي كُسرت صَحْفَتُها، وأمسَكَ المكسورة في بيت التي كسَرَتْ. وجاء في رواية: أن الكاسرة هي عائشة والباعثة هي أم سلمة -رضي الله عنهن-.
أيها المسلمون: كم من بيت هدم على أساساته بسبب العنف، وكم من زوجة هربت من زوجها بل انحرفت بسبب العنف من الزوج، وكم من زوج تزوج بأخرى من أجل عنف زوجته، وكم من ابن وبنت هربا من بيوت أهلهم بسبب العنف، إن العنف خراب البيوت، فلنتعلم الرفق، ونرفق بالناس خصوصا في بيوتنا، وأخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيء إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ".
قال الحافظ ابن حجر: والمعنى أنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده، وقيل المراد يثيب عليه ما لا يثيب على غيره، والأول أوجه، وله في حديث شريح بن هانئ عنها أن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه، وفي حديث أبي الدرداء: من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير. الحديث. (أخرجه الترمذي وصححه وابن خزيمة). فتح الباري (10/449).
وقال الحافظ ابن عبد البر: "وأما الرفق فمحمود في كل شيء، ما كان في شيء قط إلا زانه، كذلك جاء عن الحكماء".
وروى مالك عن الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله" (التمهيد:24/156).
قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "لا يأمرُ بالمعروف ويَنهى عن المنكرِ إلاّ من كان فيه خصالٌ ثلاثٌ: رفيقٌ بما يأمرُ، رفيقٌ بما ينهى، عدلٌ بما يأمر، عدلٌ بما ينهى، عالمٌ بما يأمر، عالم بما ينهى". (الورع للإمام أحمد: 166).
وقال ابن القيم رحمه الله في النونية:
وهو الرفيق يحب أهل الرفق *** يعطيهم بالرفق فوق أمان
أيها الناس: لقد تغيرت الأمور عن ذي قبل؛ فلكل زمن رجاله وأخلاقه، فارفقوا بأهليكم وعاشروهم بالمعروف، فهذه هي أخلاق الرجال.
اللهم أصلح حال الأسر، ووفقهم لما فيه صلاحهم ونجاحهم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي