إن أطفالك قد تعبوا من أصدقائك الذين يسرقونك منهم ليلاً ونهارًا، فإذا خصصت وقتًا لأولادك، فلا ترد على هواتف غيرهم، ولا تسمح بأن تقتطع من وقتهم المخصص لهم أي موعد لغيرهم، بل أشعرهم بأنك دُعيت فأبيت الذهاب من أجلهم، وأن الهاتف الذي ظهر رقمه الآن هو لأحد أصدقائك ولكنك تركت الحديث معه من أجل بقاء الوقت معهم خالصًا لهم صافيًا من كل الأعمال الأخرى؛ ليشعروا بالغبطة والسرور، والإحساس بأنك لهم. بل...
الحمد لله رب الأرضين والسماوات، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنيس الموحدين في الخلوات، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، ما ذكره المؤمنون في الصلوات.
عباد الله اتقوا الله.. إيمانا بهديه، وتقديرا لعظمته، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67].
أيها الأحبة.. لنا اليوم وقفة مع القلب الفياض الذي وصفه الله -تعالى- بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]. لنتساءل ماذا نتوقع أن يكون شأنه مع الأطفال؟!
هل كان متجهمًا، صارخًا، ضاربًا، مهينًا، حاشاه -صلى الله عليه وسلم-، وهو الرحمة المهداة، والغيمة السخية بالظلال والندى والغيوث.
لقد حدثنا أنس -رضي الله عنه- فقال: "ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: كان إبراهيم مسترضعًا له في عوالي المدينة، فكان ينطلق، ونحن معه، فيدخل البيت، فيأخذه فيقبله، ثم يرجع" (رواه مسلم).
هذا ولده، فكيف كان مع صبيان المسلمين إذا رآهم في الأزقة يلعبون؟ تتسع رحمة الرسول الكريم بالبراعم المسلمة المتفتحة، ويمتد رواقها الظليل، فإذا هو يغمرهم بعطفه وحنانه، كما يروي أنس -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان كلما مر بصبيان هشَّ لهم وسلَّم عليهم (متفق عليه).
إنه ليس سلامًا وحسب، بل قبل السلام ابتسامة رضا، وانفراج أسارير، ووجه طليق.
أليس هو القائل: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا" (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني).
لقد كان الرسول المربي العظيم يحاول دومًا، وهو يصوغ النفوس أن يفجّر فيها ينابيع الرحمة، ويفتح كوامنها على الحب والحنان، وتلك أخص خصائص الإنسان.
جاءه يومًا أعرابي فقال: أتقبّلون صبيانكم؟ فما نقبّلهم. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟" (رواه الشيخان).
وتروي السيدة عائشة أم المؤمنين: "أن فاطمة كانت إذا دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قام إليها، فرحب بها، وقبَّلها، وأجلسها في مجلسه. وكان إذا دخل عليها قامت إليه، فأخذت بيده، فرحبت به، وقبَّلته، وأجلسته مجلسها. وأنها دخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه، فرحب بها، وقبَّلها" (رواه الشيخان).
ولا شك أن العلاج يبدأ بنشر كلمة الحب في المنزل، فما أجمل أن ينادي الأب ولده بيا حبيبي، ويا حبيبتي لابنته، وأن يخبرهم واحدًا واحدًا في فرص مناسبة بهذا الحب، ويكتبه على مظروف هدية، أو ورقة دفتر الرسائل الخاصة، إن ذلك يصنع مناخًا عاطفيًّا إيجابيًّا في المنزل يجعله أكثر إيجابية؛ فيتربى الأولاد في بيئة نقية.
وحينما تكون معهم في جلسة أو سفرة استمع إليهم بكل اهتمام، وامنح كل واحد منهم فرصة الحديث حتى تمامه دون مقاطعة، ولا يشعر الصغير بأنك بدأت تنصرف عنه.
ضع طفلك في حجرك وقبّله، وأنت تحمد الله -تعالى- أن جعلك أبًا، فقد كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك، وقد وردت الأحاديث الصحاح بأنه يقبّل الأطفال أمام الناس، وأن الصبي أو البنت يبولان في حِجْره فلا يزيد على أن ينضح بول الصبي، ويغسل بول البُنَيَّة. وكان يحملهم أحيانًا في صلاته، وحين ركب أحد الحسنين ظهره قال: "نعم المطية مطيتكما".
هل جربت أيها الأب الوقور بأن تشترك في تلبيس الأطفال، أو تسريح شعورهم بكل حنان، مستمتعًا بمشهد الابتسامات الرائعة على ثغورهم النقية: لقد أُتِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، قَالَ: ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ، فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ، فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا، وَقَالَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ، فَقَالَ: يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَاهْ، وَسَنَاهْ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ. (رواه البخاري).
إنها طفلة حبشية، لقيت من رعاية رسول الأمة أن طلبها وألبسها بيده الشريفة، فلماذا تحرم أطفالك من لمسات يدك التي يتمنونها، فلا يجدونها إلا ضربة قاضية على أجسامهم الطرية، أو كفًّا على مكان تشوق لقبلاتك، حتى إن آثار جريمة ضرب الآباء لأولادهم الصغار تبقى علامة فارقة في وجوه أطفالهم فترة من الزمن قد تبقى طوال العمر.
أخي الوالد الحنون.. إن أطفالك قد تعبوا من أصدقائك الذين يسرقونك منهم ليلاً ونهارًا، فإذا خصصت وقتًا لأولادك، فلا ترد على هواتف غيرهم، ولا تسمح بأن تقتطع من وقتهم المخصص لهم أي موعد لغيرهم، بل أشعرهم بأنك دُعيت فأبيت الذهاب من أجلهم، وأن الهاتف الذي ظهر رقمه الآن هو لأحد أصدقائك ولكنك تركت الحديث معه من أجل بقاء الوقت معهم خالصًا لهم صافيًا من كل الأعمال الأخرى؛ ليشعروا بالغبطة والسرور، والإحساس بأنك لهم. بل أشعرهم أنك معهم دائمًا حتى في غيابك بالاتصال الدائم بهم، ولا تبخل عليهم بذلك، فإن لأسرتك حقًّا لا يفوقه إلا حق الله ثم حق الوالدين.
أخي الوالد العزيز.. وإن من الضروريِّ أن يكون للوالدين مع أولادهما -كذلك- جلساتٌ أخرى لمناقشة سلوكيَّاتهم معهم، فردية إذا كان فيها ما يخجل، وجماعية للأسرة كلها إذا كانت سلوكيات عامة يشترك فيها مجموعة منهم، ويكون ذلك في إطارٍ من الحبِّ، وباستخدام الحكاية في السنِّ الصغيرة، أو باستخدام أسلوب المناقشة والحوار، وتجنُّب فرض الرأي للأكبر سنًّا، ويفضَّل - في حالات المشكلات الخاصة جدًّا - أن يكون لكلِّ ابنٍ وقتٌ خاصٌّ به يجلس فيه مع الوالدين، ويُسمَح له بالحديث في أي أمرٍ يشغله.
وليكن ذلك مشوبًا بالحب واللمسات الحانية، ألم تسمع هذا الحديث العجيب عن معاذ -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيده وقال: "يا معاذ والله إني لأحبك، ثم أوصيك يا معاذ: لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح).
ألم تلحظ ما لحظت، إنه تعليم بدأته اليد الحانية، والتواصل الجسدي الرقيق، حين أخذ النبي بيد معاذ، واشتركت فيه العاطفة البارزة بالتعبير القولي عنها، "إني أحبك"، كل ذلك مقدمات ليأتي ثم التعليم والتوجيه بعد ذلك فيقع في القلب مباشرة، ولك أن تقارن بين من يفعل ذلك، ومن يسب ويشتم ويضرب ثم يعلّم!!
وإذا رحمت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا بنيت فخير زوج عشرة *** وإذا ابتنيت فدونك الآباء
أنت الذي نظم البرية دينه *** ماذا يقول وينظم الشعراء؟
أسأل الذي ملأ قلوبنا بحبه -صلى الله عليه وسلم- أن يهبنا حب الاقتداء به في عباداتنا ومعاملاتنا، وأن يجمعنا به في جنات النعيم.
عباد الله بين الخطبتين وقت تتحرى فيه الإجابة. توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله في أولادكم، فكلنا نعلم أن الوالدين ذوب عاطفة، ودفقة حنان، وموجة رعاية وتضحية واحتضان. ولكن خشونة الحياة ومتاعبها الطويلة العريضة التي لا تكاد تنتهي تجعلنا نتوقف كثيرًا عند كلمة الحب التي أبحرنا معها من قبل، نتفقدها في بيوتنا، ونطمئن على وجودها، ونسعى لابتكار الأساليب والطرق المناسبة لتنميتها معنى رقيقًا جميلاً في فم الأيام؛ لنعيش معهم طعم السعادة المفقود في كثير من الأسر اليوم.
أقصد أن تقول لكل واحد منهم أنا أحبك يا ولدي.. هكذا بكل صراحة.. أرجوك وأرجوكِ لا يقل واحد منكما أيحتاج الأب أن يقول لأولاده: "إني أحبك".. نعم يحتاج، فهو لم يسمعها منك من قبل.. فدعه يسمعها.. وانظر ماذا سيحدث؟! ربما يتعجب ويقول ماذا حدث لوالدي اليوم؟! وما الذي طرأ لوالدتي؟! أرأت حلمًا مزعجًا عني؟! هل أخبرها أحد بأمر ما؟!
ولكن لا تدعه يسبح في خيال من هذا النوع.. بل قل له: أحببت أن أقول لك ما يدور في داخلي منذ أن خُلقت في بطن أمك، سوف ترى واحدًا من أولادك يحمر وجهه خجلاً ويسكت.. وثانيًا يندهش وتتسع أحداقه ويتمتم بكلام لا تفهمه، وثالثًا يرد عليك بثقة.. وأنا أحبك يا والدي.. وأحبك أنت أيضًا.. يا والدتي !!
ثم صلوا وسلموا على معلم الناس الخير ومربي البشرية على منهج الله القويم سيدنا ونبينا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، أخص منهم الخلفاء الراشدين المهديين من بعده؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.
اللهم أرد بنا وبإخواننا المسلمين خيرًا، اللهم ردهم إلى دينك ردًّا جميلاً، اللهم أرهم الحق حقًّا وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، وارحم ضعفاءهم، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين في كل مكان، ووفقهم لتحكيم شرعك، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وانصر صالحيهم، وأقم العدل على أيديهم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد بن عبد الله وآله الأطهار، وارض اللهم عن صحابته الأبرار، ومن اتبع سنته إلى يوم الدين يا عزيز يا غفار.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي