يجب أن نفرق في الحكم بالاستقامة بين الفرد والأمة جمعاء، فمهما برزت الفضيلة في الأمة ومهما انتظرنا من مجتمعاتها الاستقامة على منهج إسلامي قويم فإن ذلك إنما يتحقق في العموم لا في الخصوص.. المجتمع مهما ارتقى في سمات الخير والصلاح في العموم فسيبقى في شيء من شر؛ سيبقى فيه...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
كثيرا ما نسمع عبارة الإسلام دين ودنيا وأنه منهج حياة وهو وصفا جميل وصحيح؛ فهل لنا أن نراجع هذا الوصف ونراجع معناه؟ وما مقدار تحقق هذا المنهج في حياتنا نحن المسلمين؟.
أيها الإخوة: معنى كون الإسلام منهج حياة أي أن المجتمع المسلم بجميع مكوناته وأنظمته يلتزم بأحكام الإسلام وأخلاقه وقيمه ومبادئه، بحيث يجعلها مسلكا له في الحياة وخطا يتميز به عن غيره من المجتمعات والفرد المسلم رجلا كان أو امرأة هو لبنة هذا المجتمع فإذا التزم أكبر عدد من الأفراد منهج الإسلام في حياتهم فسوف يطفوا على المجتمع هذه الصفة المباركة فيقال هذا مجتمع منهجه الإسلام.
معاشر الإخوة: عند الحديث عن هذا الموضوع الجليل ينبغي أن نعي أمرين:
الأول: أن موضوع العبادات المحضة؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها من العبادات ليست هي المؤشر الوحيد الذي نقيس به، فهذه الشعائر وإن كانت علامة تدل على دين المجتمع إلا أنها ليست كافية لبيان منهج المجتمع؛ لأنها على جلالة قدرها ما هي إلا مناسبات تعبدية تنتهي ثم ينصرف الجميع إلى حاجاتهم في الحياة كل في شأنه: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة:10]. السؤال ها هنا كيف هو الشأن إذا انتشروا في الأرض؟ كيف هو شأنهم في تلك الحاجات؟
لذا فإن حديثنا اليوم هو عن نظرة المسلم للحياة الدنيا بكل معطياتها، وعلاقة هذه النظرة بالآخرة، ثم نقيس هذه النظرة هل هي مطابقة لنظرة الإسلام؟ هل منطلق هذا الإنسان ومبدأه وسلوكه مطابق لهذه النظرة؟.
وهذا القياس مهم جدا؛ لأنه هو الذي يحدد مطابقة منهج المسلم لما أمر الله تعالى به ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في قوله تعالى في الآية: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) [فصلت:6].
الأمر الثاني: في الاستقامة على الدين لا أحد ينشد الكمال؛ لأن الكمال محال، ولكننا جميعا ننشد المستطاع والقرآن نص على هذا في قوله (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16]؛ فالمستطاع هو الذي سنحاسب عليه يوم القيامة والاستطاعة ليست بالهوى ولا بالتشهي.
يأتي أحدهم على الأمر البسيط المتاح في أحكام الدين فيعرض عنه ويقول: لا أستطيع؛ كشأن من قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كُل بيمينك" وكان يأكل بشماله فقال: لا أستطيع، قالها كبرا، يتكبر على هذا الأمر فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا استطعت" فما رفع يده إلى فيه.
ليس الأمر بالهوى؛ فالله تعالى يعلم قدر استطاعتك، ولا يأمرك بمشقة لا تطيقها وهو من العدل والإنصاف؛ ولذلك قال بعض المفسرين في تفسيرهم لهذا الجزء من الآية (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16]، قال: أي بلغوا في تقوى الله حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيء، وقال الإمام الشاطبي في مفهوم الآية: أمر الله العباد أن يبذلوا غاية وسعيهم في التزام الأصلح فالأصلح واجتناب الأفسد فالأفسد.
والاستطاعة ممكنة في جميع الأحكام الشرعية؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها قاعدة، وإنما يسقط التكليف بحسب استطاعة المسلم ذاته أو عجزه الحقيقي، فإذا عجز عن المأمور سقط عنه، وإن عجز عن بعض المأمور أتى بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما يعجز عنه
الإسلام المنصف، ولا يستدعي الالتزام من المسلم إلا الصدق والإرادة والعزيمة.
أيها الإخوة: يجب أن نفرق في الحكم بالاستقامة بين الفرد والأمة جمعاء، فمهما برزت الفضيلة في الأمة ومهما انتظرنا من مجتمعاتها الاستقامة على منهج إسلامي قويم فإن ذلك إنما يتحقق في العموم لا في الخصوص.. المجتمع مهما ارتقى في سمات الخير والصلاح في العموم فسيبقى في شيء من شر؛ سيبقى فيه المزور واللص والمرتشي والمختلس والكاذب والمنافق والقاتل، بل سيبقي فيه من يسرق حذاء أو نعل غيره في المسجد أو ربما سرق المحفظة، نعم يسرق في بيت الله وقد دعا ربه وهو قائم في الصلاة مع المسلمين قبل ثواني معدودة (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) [الفاتحة:5]؛ إذ به بعد ذلك مباشرة يسرق في بيت الله ذاته.
نعم سيبقى في المجتمع شرس الطباع القاسي القلب.. سيبقى فيه المنافق ليبرالي علماني سميه ما تسميه، هذا شيء طبعي.. ستبقى نسبة من هؤلاء في المجتمع كما هو الحال في كل العصور بل حتى في زمن النبوة لم يخلو المجتمع من أشرار، قال سبحانه: (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا) [الأحزاب:60].
هذا التهديد لتلك الأصناف كان في زمن النبوة ويبقى المعوّل على النسبة؛ هل نسبتهم عالية في المجتمع أم منخفضة؟ فنحن لا ننتظر كمال المجتمع ولكننا نأمل في الارتقاء إلى ما هو أفضل، متوكلين في ذلك على الله تعالى كما قال موسى لقومه: (يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) [يونس:84].
أما الفرد بذاته فهو وضميره وهو ودينه إما أن يتقدم أو يتأخر كما في الآية (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر: 37].
أيها الإخوة: ما هي نظرة المسلم للحياة؟ أول مرجع لهذه النظرة القرآن الكريم؛ فنحن أمة القرآن ولذلك يجب أن تكون نظرتنا للحياة مطابقة نظرة القرآن لها، وأن نتعامل مع الدنيا على هذا الأساس وإلا فما قيمة كوننا أمة القرآن.
والآن لنرى كيف وصف القرآن الدنيا بجانب الآخرة؟
أولا: لهو ولعب، قال تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) إلا تأكيد وما للحصر (إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64]. قال العلماء: اللعب عمل أو قول في خفة أو سرعة غايته إراحة البال واستدعاء العقول في حالة ضعفها كعقل الصغير وعقل المتعب وأكثره أعمال الصبيان ا.هـ.
أما اللهو فهو ما يشتغل به الإنسان مما ترتاح إليه نفسه ولا يتعب في الاشتغال به عقله، اللعب واللهو عند الجادين مضيعة للوقت.
ولهذا لما مر بعض الصالحين على أناس في ملهى يلعبون تحسر وقال لمن كان معه: لو أن الوقت يشترى لاشتريت من هؤلاء أوقاتهم.
قاله لأنه مشتغل بالجليل من الأعمال ووقته ضاق عن ذلك.
أما من يريد أن يكمل القرآن أو التفسير أو الحفظ يقرأ من السنة يعلّم يدعو إلى الله ربما يعمل في مختبر طبي أو فيزيائي ينفع به الناس ليس عنده وقت، الحاصل أن اللعب إذا كان صفة بارزة في الناس بحيث يعرفون به فهو في الغالب عبثا مذموم؛ كما في قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ...) [الأنبياء:1-3]؛ أي أنهم مستغرقون في اللهو واللعب حتى وقت الشدة.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد: فعودا إلى الآية التي وصف الله بها الدنيا فقال (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64].
قال (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) حيوان على وزن فعلان مثل دوران، غليان، تدل على الحركة المستمرة، هي أعلى أنواع الحياة، الحياة الآخرة؛ لأن من أهم صفات الحياة الحركة، الحياة الدنيا بجانب الحياة الآخرة خمود ونوم، بل إنها إذا ما قورنت بالآخرة ليست حياة؛ فالآخرة كلها حركة بلا تعب ولا نصب ولا ملل وليس فيها نوما مطلقا الحياة الآخرة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون".
قال ابن كثير "الحيوان أي الحياة الحق التي لا زوال لها ولا انقضاء" إذا فالحياة الدنيا لهو ولعب أما الآخرة في الحياة فهي الحياة الحقيقية.
وقال في آية أخرى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [الأنعام:32].
الصفة الثانية: متاع، وصف القرآن الحياة الدنيا بأنها متاع، قال تعالى في معرض كلام مؤمن آل فرعون: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39]، وقال سبحانه في آية أخرى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ) [الرعد:26]، وقال عز وجل في آية آخرى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].
إذاً فسمى الحياة الدنيا في القرآن متاعا؛ أي يتمتع بها قليلا ثم تنقطع، بينما سمى الآخرة دار القرار أي دار الإقامة الدائمة التي لا نهاية لها متاعها لا ينقطع أبداً، بل إن القرآن زاد على كون الدنيا متاعا بأنها متاع قصير الأمد قليل، قال تعالى: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) [التوبة:38]، وقال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء:77].
هذا شيئا من وصف الدنيا في نظر القرآن، وللحديث تتمة إن شاء الله.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي