عداوة الشيطان للمؤمنين

محمد بن إبراهيم النعيم
عناصر الخطبة
  1. أخطر أعداء المسلمين .
  2. عداوة الشيطان للإنسان وشموليتها .
  3. صور من كيد الشيطان لبني آدم .
  4. أساليب الشيطان في إغواء الناس .
  5. كيف نرد كيد الشيطان وندفعه؟ .
  6. تبرأ الشيطان من اتباعه. .

اقتباس

استطاع الشيطان في هذا العصر -عصر ما يسمى بالحضارة والمدنية- أن يزينَ للنساء التعري في دور الرقص وصالات الأزياء وعلى شواطئ البحار، وفي وسائل الإعلام باسم الفن والتمثيل والمسابقات الرياضية, فالخُطة هي الخُطة، لم تتغير أهدافها ولكن تغيرت أساليبها ومسمياتها، فكما نزع عن أبوينا لباسهما فهو الآن ينزع عن بنات حواء ثيابهن وسترهن باسم الموضة والحرية الشخصية...

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى, واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى, وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا, وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

عباد الله: إن المسلم يعيش على ظهر هذه الأرض في صراع مع أعداء كثر؛ صراع مع النفس والهوى، وصراع مع الشيطانِ، وصراع مع أعداء الإسلام.

وفي هذا اليوم سنتعرف على أخطر الأعداء على المسلمين، وهو الصراعُ مع الشيطانِ؛ فإن عداوتنا مع الشيطان نشأت منذُ أن أمرَ اللهُ -سبحانه وتعالى- ملائكته بالسجود لأبينا آدم, فسجدوا إلا إبليسَ أبى بدافع من الكبر والحسد، فطُردَ بذلك من رحمة لله وحلت عليه اللعنةُ إلى قيام الساعة، ويا ليت الأمرَ اقتصر على ذلك الحد، بل توعد الشيطانُ آدمَ وذريته قائلا: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16، 17].

وما إن أُدخلَ أبوانا الجنة إلا وبدأ الشيطانُ في مخططه الانتقامي، فاستطاع أن يوسوس لهما ليأكلا من شجرة حُرّمت عليهما دون شجرِ الجنة، وأقسم لهما أنه من الناصحين، وأنه يدُلَهما على شجر الخلود والحياة الملائكية، وما إن أكلا من الشجرة حتى انكشفت عوراتُهما وعلما أنهما قد عصيا ونسيا تحذير ربهما -عز وجل-، فكانت  النتيجةُ خروجُهما من الجنة ونزولُهما مع الشيطان إلى الأرض, (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [الأعراف: 24].

وفي الأرض تأصلت تلك العداوةُ وقام الشيطان بالكيد لبني آدم منذ نعومةِ أظفارهم إلى نزع أرواحهم، بل وبدأ عَدائه  للمسلم قبل أن يولد حيث يحاول أن يُنسي الأزواج الذكر الوارد في الجماع؛ فيشارك الزوج في أهله، وأملاً في خروج مولودٍ جديد يحملُ عدوى الشيطان، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا" (متفق عليه).

أيها الأخوة في الله: وتصدى الشيطان لنا منذ ولادتنا من أرحام أمهاتنا، إذ يقوم بطعن كل مولود في جنبه بإصْبَعِه؛ فيستهلَ المولودُ المسكينُ صارخا من مس الشيطان له، روى ذلك أبو هريرة -رضي الله عنه- بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ؛ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ إِلاَّ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ", ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران: 36]" (متفق عليه).

ويستمر الشيطانُ -أيها المصلون- في كيده الأبدي للإنسان عامةً وللمسلمِ خاصة في كُلِ حركة من حركاته, وفي كلِ لحظة من لحظات حياته؛ فتراه يزعجه ويريهُ ما يفزعه في منامه، ويثبطه عن الصلوات وعن صلاة الفجر خاصة فيقول: عليك ليلٌ طويل فارقد، وإن صلى شوش عليه، وذكّره الأمور التي لم يذكرها خارجَ صلاته؛ حتى لا يدري كم صلى من ركعة، ويسعى لمشاركته حتى في طعامه وشرابه والمبيت عنده، قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَيَضَعَ يَدَهُ, وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَامًا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ, فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ, فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهَا, ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ, فَأَخَذَ بِيَدِهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ, وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهَذَا الأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا" (رواه مسلم).

هذا هو عملُ الشيطان الدؤوب، لا يدعُ المسلمَ في منامه ولا في عبادته ولا في طعامه إلا ويحاولُ إفساد نيته وعمله، إما برياء  أو كبرٍ أو عُجبٍ أو مَنٍّ على الله، أو توكلٍ على مخلق أو استغاثة بأهل القبور.

إنها معركة دائمة مستمرة طويلة الأمد، تبدأ منذ الولادة وتنتهي عند غرغرة الروح، وحينها تكونُ الفرصة الأخيرةُ والوحيدةُ للشيطانِ؛ لِيُضلَّ هذا الإنسان يجعلهُ يتخبطُ قبل وفاته، ولهذا كان  -صلى الله عليه وسلم-  يتعوذُ من هذه الفترة الحرجة الخطيرة، فيقول "وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطانُ عند الموت" (رواه أبو داود).

أيها الأخوة في الله: إن المسلم لا يهمه أن يعرف شخصية الشيطان، وصفاته، بقدر ما يهمهُ معرفةَ قوتهِ وسلاحهِ وأسلوبَ كيده ووسوسته، وهذا ما تكفل القرآن ببيانه، فمن كيد الشيطان أنه يدعو إلى اكتناز المال وجحوده عند طلبه، والشح وملء النفس بالخوف من المستقبل ومن الفقر، وإشاعة الفاحشة والقنوط من رحمة الله، في حين أن الله -عز وجل- يدعو عباده إلى عكس ذلك،  الشَّيْطَانُ (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268].

كما أن الشيطان يُغررُ العصاةَ من أتباعه بسعةِ رحمة الله, وأن الله أرحم بعباده من أن يعذبهم، وفي المقابل ينسيهم بطش الله وعقابه اعتقادا أن ذلك من حسن الظن بالله، وما علموا أن الله -تعالى- ما خلق النارَ إلا لملئها بالعصاة من عباده، وما خلق الجنةَ إلا ليدخل فيها من أطاعه.

وإذا حاولنا أن نعدد أساليبَ الشطيانِ في الكيد لطال بنا المُقام، ولكن إليكم بعضا منها: فإن الشيطان لا يأتي للإنسان يقول له: اترك الأمورَ الحسنة وافعل الأمور السيئةَ؛ لتشقى في دنياك وآخرتك، ولكنه يسلكُ سبلا عديدة يغرر ويخدع العباد بها، ويدخل إلى النفس من الباب الذي تحبه وتهواه، فيأتي للصالحين من طريق الخير ليوقعهم إما بالغلو في الدين أو بالتفريط بالدين وتحسين الأخذ بالرخص، ويأتي للفاسقين عن طريق تزيين الباطل والاستدلال الخاطئ بالآيات, وتضييع الأوقات وتسويف التوبة وطول الأمل, واستبدال سماع القرآن وحفظه بحُجة الخوف من الوقوع في إثم نسيان القرآن، فيستدرجهم لسماع الغناء والموسيقى، كما يقوم بإلقاء الشبه في بالدين وتسمية الأمور المحرمة بأسماء محببة، كتسمية الخمر بالمشروبات الروحية، والربا بالفوائد البنكية أو أتعاب إدارية، وتسمية الفاحشة في الأفلام بالتمثيل والفن، والتبرج بحضارة ومدينة، والالتزام بالدين تطرفا وأصولية، والإلحاد بالليبرالية، وغير ذلك كثير.

أيها الأخوة في الله: ومن أهداف الشيطان بعيدة المدى؛ تكفير البشرية وتعبيدهم لغير الله، ومن أهدافه قريبة المدى حرصه على تفكيك الروابط الأسرية وإشاعة الفواحش والمنكرات في المجتمع، فأما عن حرصه على تكفير البشرية فاقرؤوا تفسير قوله -تعالى-: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الحشر: 16], وهي آية في أواخر سورة الحشر، لها قصة توضحُ قصة استدراج الشيطان للصالحين، حري بنا معرفة تفاصيلها، حيث استدرج الشيطان أحد الصالحين فأوقعه في جريمة الفاحشة ثم في جريمة القتل، وما تركه حتى مات كافرا بالله وساجدا للشيطان.

وأما عن حرص الشيطان على تفكيك الروابط الأسرية، فقد علم -أعاذنا الله منه- أن أيسر السبل لتفكيك المجتمع يبدأ من الأسرة، فهو يحاول جاهدا وبلا هوادة شن غارات كلامية بين الأزواج لإيقاع الشقاق والطلاق بينهم، روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً, يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا, فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا, قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ, قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ فَيَلْتَزِمُهُ" (رواه مسلم).

وأما عن إشاعته للفاحشة فعن طريق تعرية المرأة بدءاً من نزع حجابها، وقد وقعت أُولى محاولاته مع أبوينا آدم وحواء -عليهما السلام- حين نجح في نزع لباسهما وهما في الجنة، ولم يكشفِ اللهُ لنا سر هذا المخطط في كتابه الكريم إلا لأن الشيطان سيستخدمه مع البشرية جمعاء في سائر العصور والأزمان وبأساليب متعددة.

ولقد نجح إبليس -أعاذنا الله منه- في هذا المضمار منذ العصور الغابرة حتى زماننا هذا نجاحا باهرا، فقتل الحياءَ والغيرةَ في نفوس كثير من الشعوب, ففي عصر الجاهلية مثلا؛ استطاع الشيطان أن يزين للناس -باسم الدين والتقرب إلى الله- حرمة الطواف حول البيت الحرام بثياب عُصي الله فيها بزعمهم، إلا قريشا لأنهم سكان الحرم، فكان الرجالُ يطوفون بالبيت الحرام نهارا وهم عراة، وكانت النساء يطفن ليلا وهن عاريات، كما استطاع في هذا العصر -عصر ما يسمى بالحضارة والمدنية- أن يزينَ للنساء التعري في دور الرقص وصالات الأزياء وعلى شواطئ البحار، وفي وسائل الإعلام باسم الفن والتمثيل والمسابقات الرياضية.

فالخُطة هي الخُطة، لم تتغير أهدافها ولكن تغيرت أساليبها ومسمياتها، فكما نزع عن أبوينا لباسهما فهو الآن ينزع عن بنات حواء ثيابهن وسترهن باسم الموضة والحرية الشخصية، ولقد حذرنا الله عن هذا المخطط في كتابه قائلا: (يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 27].

ولعلكم تلاحظون كيف أن ثياب النساء باسم الموضة تقصر عاما بعد عام من أعلى وأسفل، وفي المقابل نرى كيف أن الرجال يطيلون ثيابهم ولم يبدوا من أجسامهم سوى الوجه والكفين، فانقلبت الموازين، فلنحذر جميعا وساوس الشيطان فهو عدونا الأول, وقد أُمرنا أن نتخذه عدوا: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 5، 6].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

أما بعد: فاتقوا الله واعلموا أن الشيطان ألدُ أعداء الله، فكم أضل من أمم، وكم أغوى من بشر، وكم قاد من ملايين إلى سقر، كم غير من نيات، وكم أفسد من طاعات، كم حاول أن يوقع الناس فيما وقع هو فيه، أليس الله أمرنا في هذه الحياة بالسجود كما أمر إبليس قبل ذلك؟, فها هو يخسر في هذا الامتحان كثير من المسلمين، فتراهم يسمعون نداء الله خمس مرات حي على الصلاة، فيأبون السجود لله، أليس هذا هو الأمرَ الذي امتُحِنَ فيه إبليسُ فطُردَ من رحمة الله؟!.

أيها الأخوة في الله: إن الله -تبارك وتعالى- لم يتركنا مع إبليسَ على هذه الأرض نتقابل وجها لوجه دون سلاح، بل قدّم لنا في كتابه وسنة نبيه أقوى الأسلحة التي تقينا من كيده ومكره.

إن محاربتنا للشيطان لا تكون بسبه وشتمه إذ نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك قائلا: "لا تسبوا الشيطان، وتعوذوا بالله من شره"، وإنما محاربتنا للشيطان تكون بمخالفة أعماله التي أطلعنا عليها رسولُنا -صلى الله عليه وسلم-, وكذلك بالحرص على تنفيذ أوامر الله والإكثار من ذكر الله عند كل أمر نؤديه؛ فالشيطان كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر المسلم ربه خنس الشيطان، وإذا غفل المسلم عن ذكر الله وسوس الشيطان.

فمجاهدة الشيطان مستمرة ليس فيها هدنةٌ ولا معاهدةُ سلام، إلى أن يلقى العبدُ ربه على أحد حالين لا ثالث لهما: إما فائزا منتصرا على الهوى والشيطان, وإما مواليا لهذا الشيطان.

والمأساة كل المأساة، أن هذا الشيطان سيتبرأُ يوم القيامة من كل الأمم التي أضلها وأدخلها معه في النار، وسيخطب بأتباعه خُطبةً لهي أشدُ عليهم من حر جهنم، وقد أطلَعَنا الله -سبحانه وتعالى- على نص هذه الخطبة في سورة إبراهيم, فقال في شأنها: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم: 21، 22].

وهكذا يفعل عدوُ الله بأتباعه بعد غوايتهم، وهو الذي كان له في كل معصية على وجه الأرض مشاركة، وفي النهاية يتبرأ من كل المجرمين؛ ليزيدهم حسرة إلى حسرتهم ويقول لهم: (فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم)، لا حول ولا قوة إلا بالله.

فاتقوا الله -عباد الله- ولا تكونوا من حزب الشيطان، ولا يستهوينكم بوسائله وتسويفاته وأمانيه للخروج عن طاعة الله، فإن كل معصية لله إنما هي طاعة للهوى والشيطان، واذكروا نداء الله لكم قبل أن يُذكركم إياه يوم القيامة قائلا: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) [يس: 60 - 62].

نسأل الله أن يقينا شر الشيطان، وأن يدفع عنا مكره، اللهم أعذنا من الشيطان ولا تجعل له علينا سلطان لا في يقظة ولا في منام،

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه, فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي