الغرور

خالد بن سعود الحليبي
عناصر الخطبة
  1. ذم الغرور .
  2. أسباب الغرور .
  3. مفاسد الغرور وعواقبه الوخيمة .
  4. مظاهر الغرور .
  5. أهمية الابتعاد عن الغرور ومظاهره. .

اقتباس

والعمل له دور كبير في غرس نبتة الغرور في نفس صاحبها: فالذي يحمل نفسًا ضعيفة، صغيرة صغيرة، فإن المنصب الرفيع، والمكتب الفارِه، ووجود مَن يحجب عنه الناس إذا أراد، والجاه العريض الذي لا ترد شفاعته عند الناس، كل ذلك مدعاة للغرور والتعالي، وقد نسي أنه لم يصل إليه إلا حينما رحل عنه غيره، وأن الله -تعالى- قادر على إزالته في لحظة، كما أعطاه إياه في لحظة،...

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، الولي الحميد، الفعال لما يريد، أمر بالخير وحضَّ عليه، ونهى عن الشر وحذر منه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا الأسوة الحسنة، والقدوة المباركة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].

أيها الإخوة المؤمنون: يقول الله -تبارك وتعالى- مخاطبًا رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر: 88]، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين" (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فالمسكين المحمود هو المتواضع الخاشع لله، ليس المراد بالمسكنة عدم المال؛ بل قد يكون الرجل فقيرًا وهو جبار.. فالمسكنة خُلق في النفس، وهو التواضع والخشوع، واللين ضد الكبر كما قال عيسى -عليه السلام-: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [مريم: 32].

وما أجمل وما أحلى قول الله –تعالى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63]!

قال ابن القيم -رحمه الله-: "أي سكينة ووقارًا، متواضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين، قال الحسن: علماء حلماء، وقال ابن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا، والهَون: الرفق واللين".

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعًا *** فكم تحتها قـوم هم منك أرفع

أيها الأحبة في الله: أحببت أن أطل على صحراء الغرور من نافذة التواضع، الغرور هذا الخلق المبغوض من كل نفس سوية، وهو إعجاب الإنسان بنفسه وبعلمه وبدنياه، وقد يصل بصاحبه إلى حد احتقار الآخرين، وربما التسفيه بآرائهم وأعمالهم.

وهو خديعة للنفس ومحاولة لخداع غيره، ويكفي أنه من عدة الشيطان: (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) [النساء: 120]، والمغرور كما يقول الرافعي -رحمه الله-: كالواقف على جبل يرى الناس صغارًا ويرونه صغيرًا.

ولا أظن أننا في حاجة إلى تفصيل في تعريفه، كما نحن في حاجة إلى إيضاح أسبابه ومظاهره وعلاجه.

فأما أسبابه: فمنها: إهمال النفس من التربية، والشعور الغرير بأن صاحبها قد استكمل جوانب التربية فيها، فما عادت تحتاج إلى تثقيف وحدّ من الجموح، والله -تعالى- يقول: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 7- 10].

ولذلك قال عمر -رضي الله عنه-: "العاجز مَن عجز عن سياسة نفسه".

وما أجمل قول ضيغم بن مالك: "احذر نفسك على نفسك، وكلما أرادت نفسك التعالي فذكّرها بقول ربها سبحانه: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235].

ومن أسباب الغرور: إهمال التربية الأسرية لأبناء والبنات، فقد تظهر مظاهر الغرور على الوالدين، فيكسبها الأطفال، وتنمو معهم، وقد يكونان متواضعين، ولكن يفشلان في تربية خُلق التواضع في أولادهم؛ بسبب منحهم كل رغباتهم، ولاسيما ما يظهر فيها أثر الرفاهية والكبر، مثل اللباس الفاخر، والمركب الفاره.

ينشأ الصغير على ما كان والده *** إن الأصول عليها ينبت الشجر

وتأمل موقف عمر بن عبد العزيز الذي بلغه أن ابنًا له اشترى خاتمًا بألف درهم، فكتب إليه عمر: بلغني أنك اشتريت فصًّا بألف درهم، فإذا أتاك كتابي، فبع الخاتم وأشبع به ألف بطن، واتخذ خاتمًا بدرهمين، واجعل فصّه حديدًا صينيًّا، واكتب عليه: "رحم الله مَن عرف قدر نفسه".

إن عمر لم يكسر شهوة ابنه للتعالي والتفاخر فقط، بل ذكّره ببطون تجوع ولا تجد ما يشبعها، وفي كفّه فصًّا صغيرًا، يستطيع به أن يسد رمقها، ويشبع جوعتها، فكأنه جعل له درسًا دائمًا لا ينساه أبدًا، كلما طمحت نفسه لنوع من التفاخر على الناس، ذكَّرها بمن يعلمونه التواضع والمسكنة.

وتأمل موقف محمد بن واسع عندما رأى ابنًا له يمشي مشية منكرة، فقال: تدري بكم اشتريت أمك؟ بثلاثمائة درهم، وأبوك لا كثَّر الله في المسلمين مثله، وأنت تمشي هذه المشية؟

رحمك الله يا ابن واسع، وكثَّر الله من مثلك في أمة الإسلام، إنها التربية الأسرية الواعية لكل حركات أولادها، فأين ما يعيشه كثير من شبابنا وشاباتنا من تغطرس وتفاخر بسياراتهم وهيئاتهم، حتى أصبح لغرورهم ضرائب باهظة على الوالدين الضعيفين أمام سطوة مراهقتهم، فالجوال والسيارة الجديدة والثياب اللامعة التي تكنس الشوارع، والساعة الألفية الثمن.. إلى آخر القائمة التي ترهق ميزانية الأسرة وقلبي الوالدين قبلها، وكم كانت هذه المظاهر سببًا في انحراف الشباب، وتجمع الشلل الفاسدة حولهم طمعًا فيما في أيديهم، فيخسر الوالدان أولادهم أكبر خسارة.

إن الشباب والفراغ والجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة!

ومن أسباب الغرور كذلك: تأثر الإنسان بالمدرسة والأصدقاء، ففي المدرسة يجتمع الأقران، ويكثر التفاخر، ويعلم بعضهم بعض ما يخفى من توافه الكماليات، ويبدأ بعد ذلك الضغط الشديد على الوالدين لتلبية الرغبات الجامحة، ويعلو صوت الولد: أيعقل أن يكون عند جميع زملائي كذا وكذا، وأنا ولد فلان بن فلان ليس عندي، وتصيح الفتاة في وجه أسرتها: إن الطالبات كثيرًا ما يعرضنني للإهانة والتنقص وهن يعرضن عليَّ ألوان الزينة والجماليات التي يشترينها من السوق، بينما أنا ليس عندي، وهي شكوى ظالمة، فهي لا تطالب بما تحتاجه، بل بما تفاخر به. ولا ينجو من ذلك المعلمات بالذات اللاتي ينفقن أكثر من ثلثي الراتب في توافه المشتريات، كما ذكرت إحدى الإحصاءات.

والغرور قد يُكتسب حتى ممن قد يبدو عليهم صلاح في ظاهرهم، ولكن الغرور طبيعة تتغلغل في داخل النفس، وتظهر عليها عوارضها.

والعمل له دور كبير في غرس نبتة الغرور في نفس صاحبها: فالذي يحمل نفسًا ضعيفة، صغيرة صغيرة، فإن المنصب الرفيع، والمكتب الفارِه، ووجود مَن يحجب عنه الناس إذا أراد، والجاه العريض الذي لا ترد شفاعته عند الناس، كل ذلك مدعاة للغرور والتعالي، وقد نسي أنه لم يصل إليه إلا حينما رحل عنه غيره، وأن الله -تعالى- قادر على إزالته في لحظة، كما أعطاه إياه في لحظة، والواقع أن كثيرًا من الموظفين هم الذين يشجّعون صاحب المنصب على الغرور، حينما يكيلون له المدائح، ويسرفون في تقديره، ويغيرون من تعاملهم معه عما كان عليه قبل ذلك، فيشعر بشيء جديد دخل قلبه، ربما أفسده في النهاية، وقد قال الله -تعالى- عن الطاغية فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) [الزخرف: 54].

وكل قوم يصنّعون فرعونهم بسوء تملقهم واستكانتهم. وليس معنى ذلك طرح الكلفة بالكلية، والاستهانة بذوي الأقدار والمراتب، والاستخفاف بأصحاب المكانة، بل أن يعطى كل ذي قدر قدره دون زيادة، وتبذل له النصيحة بصدق ومحبة.

وأقول لكل من ابتُلي بتوليه أمرًا المسلمين صغيرًا أم كبيرًا:

إن الوظيفة لا تدوم لواحد *** إن كنت في شك فأين الأول

فاغرس لنفسك في الحياة فضا *** ئلا  فإذا عُزلت فإنها لا تُعزل

وكثرة المال والبنين فتنة، (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15]، فيهما اختبار وشغل عن الآخرة، وقد يقع بسببهما المرء في العظائم والجرائم والاستيلاء على الحرام، غفر الله لنا وأعاذنا من ذلك. وقصة قارون أنموذج واضح الدلالات، ونهايته كانت حينما خرج على الناس في كامل زينته، والله يقصم كل جبار عنيد.

وهناك أسباب أخرى للغرور، فربما كان بحسن الصورة، وربما كان بمعرفة أهل الوجاهة ولو من أهل الفساد الظاهر، وربما كان للانصراف التام عن الآخرة إلى الدنيا، والدنيا دار غرور، وأمور العبادة هي المرققات للقلوب، فإذا انصرف عنها قسا قلبه وغلظ، وتكبر حتى على النصيحة والتذكير.

ومن أعجب الغرور إعجاب الصالحين بأعمالهم التي يقدمونها رجاء الثواب من الله، أو بكثرة تحصيل العلوم والتبحر فيها، والعجب بالعمل الصالح والعلم الذي يطلب لله -تعالى- يحبط ثوابه بالكلية.

عباد الله.. توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أهله، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن مظاهر الغرور كثيرة وغير خفية في غالبها، وإن النفس لتنفر منها بمجرد حدوثها، ومنها: النظر إلى الآخرين نظرة ازدراء وتنقص، سواء بين عموم الناس، أو بين الأقارب والأصدقاء. ومنها كثرة مدح النفس وذكر محاسنها، فالله -تعالى- يقول: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32]، إلا في حالتي التحدث بنعمة الله عليه من الإيمان والثبات ونحوهما، أو أن يريد بذلك – مخلصًا- تنشيط غيره على طاعة الله.

ومن مظاهر الكبر والغرور والغطرسة: عدم الخضوع لصولة الحق، فالمغرور يرى نفسه دائمًا مصيبًا غير مخطئ، وخاصة إذا كان ذا مكانة ومنصب، وهذا يعطل العقول من حوله، ويهين النفوس التي تحفّ به، ويفقد بذلك خيرًا كثيرًا، ويقع في شر وبيل.

وللغرور آثار شنيعة: منها أن الله -تعالى- يبتلي المغرور بنفسه، فهو مهما اغتر على الناس وتجبر، فإنه يعيش في تأنيب داخلي دائم، وعذاب مستمر، ومنها عدم التوفيق والتمكين من الله تعالى، وإذا حدث فسرعان ما ينهار. ومنها نفرة الخلق منه، والوقوع في مرض الجدال الذي يقسّي القلب، والحرص على تتبع نقائص الناس وعيوبهم، والانهيار في وقت الشدائد والمحن، والضيق وعدم راحة النفس واضطرابها؛ لأنه لا يشبع من شيء، ويضيق بكل شيء.

أيها الأحبة: إن المسلم الذي يرجو الله -تعالى- والدار الآخرة ليراقب نفسه، ويخاف عليها من زلل الغطرسة، والغرور في الدنيا والآخرة، فيجب عليه أن يقف معها مربيًّا ومؤنبًا ومحاسبًا، كلما تطلعت إلى مظهر من مظاهر الغرور، وليستنصح الخلق، ويعمل بنصيحتهم، وليكثر من الاتصال بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة التي بُنيت على التواضع الجمّ، وليرفض المديح الملق، والثناء الممجوج، ويبتعد عمن يعينه على تنامي هذا الداء في عروقه، فالمغرور من غره المتملقون وهو يعلم بحالهم، وليكثر من الدعاء لنفسه بأن يقيه شر هذا الداء الوبيل. والله المستعان على نفوسنا.

ثم صلوا وسلموا على معلم الناس الخير ومربي البشرية على منهج الله القويم سيدنا ونبينا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك

اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي