عمود الإسلام (13) الصلاة الوسطى

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. أمر الصلاة عظيم، وشأنها عند الله -تعالى- كبير .
  2. الصلاة الوسطى المذكورة في القرآن الكريم هي صلاة العصر .
  3. عندما فاتت صلاة العصر نبي الله سليمان ذبح الخيل التي شغل بها عنها .
  4. صلاة مشهودة تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار .
  5. كان الصحابة يعظمون صلاة العصر .

اقتباس

وَمِنْ فَضَائِلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ: أَنَّ مَنْ أَدَّاهَا يُؤْتَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَصْرَ بِالْمُخَمَّصِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ...".

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ؛ فَرَضَ الْفَرَائِضَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَضَاعَفَ لَهُمْ عَلَيْهَا الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ، وَجَعَلَ فِي الْقِيَامِ بِهَا طُمَأْنِينَةً وَسَعَادَةً فِي الدُّنْيَا، وَفَوْزًا عَظِيمًا فِي الْآخِرَةِ، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا وَأَوْلَانَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا وَهَبَنَا وَأَعْطَانَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ الصَّلَاةَ عَمُودَ الْإِسْلَامِ، وَبُرْهَانَ الْإِيمَانِ، وَرَاحَةَ الْقَلْبِ وَالْوِجْدَانِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَكَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى، وَأَكْثَرَ الْقَوْلَ فِي الصَّلَاةِ، وَكَانَتْ آخِرَ وَصَايَاهُ الَّتِي نَطَقَ بِهَا قَبْلَ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا لَهُ صَلَاتَكُمْ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ إِقَامُ الصَّلَاةِ مُجَرَّدَ أَدَائِهَا، وَإِنَّمَا يُحْسِنُ وُضُوءَهَا، وَيَأْتِي بِأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَسُنَنِهَا، مَعَ حُضُورِ قَلْبِهِ فِيهَا؛ فَإِنَّ الْخُشُوعَ فِي الصَّلَاةِ هُوَ رُوحُهَا (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [الْمُؤْمِنُونَ: 1 - 2]، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي وَلَعَلَّهُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا عُشْرُهَا وَتُسْعُهَا، أَوْ ثُمُنُهَا، أَوْ سُبُعُهَا..." (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

أَيُّهَا النَّاسُ: أَمْرُ الصَّلَاةِ عَظِيمٌ، وَشَأْنُهَا عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى- كَبِيرٌ، وَقَدْ عُرِجَ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ لِتُفْرَضَ عَلَيْهِ، وَيُكَلِّمَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِفَرْضِهَا مُبَاشَرَةً وَبِلَا وَسَاطَةٍ. وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ تَتَفَاضَلُ، وَأَفْضَلُهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَلَهَا ذِكْرٌ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:

فَمِنْ فَضَائِلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ: أَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) [الْبَقَرَةِ: 238]، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).

وَمِنْ فَضَائِلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ: أَنَّ جَمْعًا مِنَ السَّلَفِ ذَكَرُوا أَنَّهَا الْوَقْتُ الْمُرَادُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِيهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) [الْمَائِدَةِ: 106]، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "إِذَا كَانَ الرَّجُلُ بِأَرْضِ الشِّرْكِ، فَأَوْصَى إِلَى رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمَا يَحْلِفَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ".

وَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، كَمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِدَقُوقَاءَ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَدِمَا الْكُوفَةَ فَأَتَيَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَأَخْبَرَاهُ وَقَدِمَا بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ بِاللَّهِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا، وَلَا كَتَمَا، وَلَا غَيَّرَا، وَإِنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتَرِكَتُهُ فَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعِظَمِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَفَضِيلَةِ الْوَقْتِ الَّذِي بَعْدَهَا، فَالْحَلِفُ فِيهِ لَيْسَ كَالْحَلِفِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ... وَذَكَرَ مِنْهُمْ: وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ..." (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

قَالَ الْعُلَمَاءُ: "وَتَخْصِيصُهُ بِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْوَقْتِ مِنَ الْفَضْلِ وَالْحُرْمَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْ سَاعَاتِ الْيَوْمِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقِبَ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ لَهَا مِنَ الْفَضْلِ، وَعَظِيمِ الْقَدْرِ أَكْثَرُ مِمَّا لِغَيْرِهَا، فَيَنْبَغِي لِمُصَلِّيهَا أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ عَقِبَهَا مِنَ التَّحَفُّظِ عَلَى دِينِهِ، وَالتَّحَرُّزِ عَلَى إِيمَانِهِ؛ أَكْثَرُ مِمَّا يَنْبَغِي لَهُ عَقِبَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ حَقُّهَا أَنْ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ".

وَجَاءَ فِي سِيرَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ مَنِ اتُّهِمَ بِالْخِيَانَةِ مِنْ عُمَّالِهِ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَى خِيَانَتِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ دُبُرَ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَنَّهُ مَا خَانَ وَيُخْلَى سَبِيلُهُ، وَإِلَّا عُوقِبَ.

وَمِنْ فَضَائِلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ: أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا أَنَّهَا الصَّلَاةُ الَّتِي فَاتَتْ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا شَغَلَتْهُ الْخَيْلُ عَنْهَا، فَذَبَحَهَا إِعْظَامًا لِصَلَاةِ الْعَصْرِ (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) [ص: 30 - 33].

ذَكَرَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ -تَعَالَى- أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "لَا وَاللَّهِ لَا تَشْغَلِينِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي آخِرَ مَا عَلَيْكِ. ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُقِرَتْ".

وَقَالَ السُّدِّيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "ضَرَبَ أَعْنَاقَهَا وَعَرَاقِيبَهَا بِالسُّيُوفِ".

وَمِنْ فَضَائِلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ: أَنَّهَا صَلَاةٌ مَشْهُودَةٌ تَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ" (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَمِنْ فَضَائِلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ: أَنَّ مَنْ أَدَّاهَا يُؤْتَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَصْرَ بِالْمُخَمَّصِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ..." (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَمِنْ فَضَائِلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ: أَنَّ حُبُوطَ الْعَمَلِ يَكُونُ بِتَرْكِهَا، وَلَمْ يَرِدْ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ الْمَدَنِيِّ قَالَ: "كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى خُطُورَةِ التَّفْرِيطِ فِيهَا؛ إِذْ إِنَّ الْعَمَلَ يَحْبَطُ بِتَرْكِهَا.

وَمِنْ فَضَائِلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ: أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ فَكَأَنَّهُ خَسِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ" (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ)، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "شَبَّهَ مَا يَلْحَقُ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ بِمَنْ قُتِلَ حَمِيمُهُ أَوْ سُلِبَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ".

وَلَوْ قِيلَ لِمُفَرِّطٍ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، مُضَيِّعٍ لَهَا، يَنَامُ عَنْهَا إِلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ، إِنَّكَ بِتَرْكِكَ لَهَا تَفْقِدُ وَلَدَكَ وَمَالَكَ لَحَافَظَ عَلَيْهَا، وَلَمْ تَفُتْهُ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى مِنْهَا عُمْرَهُ كُلَّهُ.

وَالْمُوتُورُ فِي دِينِهِ وَصَلَاتِهِ أَبْأَسُ حَالًا، وَأَتْعَسُ حَظًّا، وَأَفْدَحُ خَسَارَةً، وَأَعْظَمُ مُصِيبَةً مِمَّنْ فَقَدَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَمَالَهُ، فَمَا بَالُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُفَرِّطُونَ فِي الصَّلَوَاتِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَلَا يُبَالُونَ؟!

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَهْدِيَ ضَالَّ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا وَأَهْلَنَا وَذُرِّيَّاتِنَا وَأَحْبَابَنَا لِتَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَإِقَامَتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِيهِ عَنَّا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النُّورِ: 56].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَانَتِ الصَّلَاةُ عَظِيمَةَ الشَّأْنِ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  وَقُلُوبِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَلَا سِيَّمَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمُشْرِكِينَ لَمَّا شَغَلُوهُ عَنْهَا يَوْمَ الْأَحْزَابِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا أَصَابَهُ مِنْ غَمٍّ شَدِيدٍ عَلَى فَوَاتِهَا؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ" (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ). وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ: "اللَّهُمَّ مَنْ حَبَسَنَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَامْلَأْ بُيُوتَهُمْ نَارًا، وَامْلَأْ قُبُورَهُمْ نَارًا" (رَوَاهُ أَحْمَدُ). وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- إِذَا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي الْجَمَاعَةِ يُسَبِّحُ إِلَى الْمَغْرِبِ.

وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْلَمُونَ عَظَمَةَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي نُفُوسِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَفِي إِحْدَى الْمَغَازِي اعْتَزَمَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنْ يَنْقَضُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْرَ، وَقَالُوا فِي وَصْفِ الْمُسْلِمِينَ: "إِنَّهُ سَتَأْتِيهِمْ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَوْلَادِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: "إِنَّ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَبْكَارِهِمْ -وَهِيَ الْعَصْرُ- فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ، فَمِيلُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً".

وَلَكِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- شَرَعَ بِرَحْمَتِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ صَلَاةَ الْعَصْرِ صَلَاةَ خَوْفٍ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ تَفُتْهُمْ، فَكَانَ مِنْ فَضَائِلِهَا أَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةِ خَوْفٍ يُصَلُّونَهَا. وَمَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْلَمُوا قَدْرَ صَلَاةِ الْعَصْرِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ حَتَّى حَكَوْا أَنَّهَا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ إِلَّا لِأَنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- كَانُوا مُحَافِظِينَ عَلَيْهَا، مُقِيمِينَ لَهَا، يَغْتَمُّونَ بِفَوَاتِهَا، فَاشْتُهِرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَعَرَفَهُ غَيْرُهُمْ مِنْهُمْ.

فَبَعْدَ هَذِهِ الْفَضَائِلِ الْعَظِيمَةِ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَخُطُورَةِ فَوَاتِهَا وَتَرْكِهَا، هَلْ يَسُوغُ لِمُؤْمِنٍ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنَامَ عَنْهَا، أَوْ يَتَلَهَّى بِغَيْرِهَا، أَوْ يُفَرِّطَ فِيهَا، أَوْ لَا يَسْتَعِدُّ لَهَا فِي وَقْتِهَا حَتَّى تَفُوتَهُ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى، أَوْ تَفُوتَهُ بَعْضُ رَكَعَاتِهَا، وَتَفُوتَهُ جَمَاعَتُهَا، أَوْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَصْفَرَّ الشَّمْسُ أَوْ تَغِيبَ؟! وَلَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ حُرِمَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَرُبَّمَا حُمِّلَ إِثْمًا كَبِيرًا، هُوَ أَعْظَمُ مِنْ وَتْرِهِ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ، وَحُبُوطُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَا تَعْدِلُهُ خَسَارَةٌ أُخْرَى مَهْمَا كَانَتْ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي