الفراغ بين النعمة والنقمة

خالد بن سعود الحليبي
عناصر الخطبة
  1. ابتداء موسم الإجازة .
  2. الإجازات من أعمارنا وسنحاسب عليها .
  3. أهمية اغتنام أوقات الفراغ .
  4. مفاسد الفراغ بلا هدف .
  5. عناية السلف بأوقات الفراغ .
  6. الحث على شغل أوقات الفراغ بالمفيد النافع. .

اقتباس

وكان السلف الصالحون يكرهون من الرجل أن يكون فارغًا، لا هو في أمر دينه، ولا هو في أمر دنياه، وهنا تنقلب نعمة الفراغ نقمة على صاحبها رجل كان أو امرأة، ولهذا قيل: الفراغ للرجال غفلة وللنساء غُلمة، أي محرِّك للغريزة، والتفكير في أمر الشهوة، ويشتد خطر الفراغ إذا اجتمع مع الفراغ الشباب الذي يتميز بقوة الغريزة وربما القدرة المالية التي تمكِّن الإنسان من تحصيل ما يشتهي...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوبهم بمشاهدة صفات كماله، وتعرّف إليهم بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله. الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء والباطن الذي ليس دونه شيء، الحيُّ القيوم، الواحد الأحد، الفرد الصمد، المتفرد بالبقاء، وكلُّ مخلوق منتهٍ إلى زواله.

السميع الذي يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنّن الحاجات، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا يتبرم بالإلحاح والمُلحين في سؤاله، البصير الذي يرى دبيب النملة ِالسوداء على الصخرة ِالصماء في الليلةِ الظلماء؛ حيث كانت من سهله أو جباله، وألطفُ من ذلك رؤيته لتقلب قلب عبده ومشاهدته لاختلاف أحواله، فإن أقبل إليه تلقاه، وإن أعرض عنه لم يكلْه إلى عدوِّه ولم يدعه في إهماله.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد.. فيا عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة المقصرة بتقوى الله -تعالى- وطاعته، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [سورة آل عمران: 102].

عباد الله: أقبلت علينا إجازة قصيرة الأيام، ولكنها قطعة ذهبية من حياتنا سنسأل عنها غدًا بين يدي الله أين أنفقناها؟

فليست الإجازات غائبة عن أقلام الحفظة أو بعيدة عن عين الله –تعالى-، بل هي ماعون فارغ يُملَأ بالخير أو بالشر، والفراغ من أكبر النعم التي تتوافر لنا فيها، وهو نعمة مجهولة المقدار عند كثير من الناس، يتسابقون لقتلها وإفنائها بأية طريقة.

روى البخاري -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".

وقد أمر الله -تعالى- نبيه الكريم باغتنام وقت فراغه في العبادة، فقال (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الشرح: 7-8], أي فإذا فرغت من شغلك من الناس ومع الأرض ومع شواغل الحياة.. إذا فرغت من هذا فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحقُّ أن تنصب فيه وتجتهد، إنها العبادة والتجرد والتطلع والتوجه إلى ربِّك وحده خاليًا من كل شيء..

والفراغ -يا عباد الله- لا بدَّ له أن يُمْلأ بخير أو شر ومن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، فطوبى لمن ملأه بالخير والصلاح، وويل لمن ملأه بالشر والفساد.

يقول بعض الصالحين: "فراغ الوقت من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر العبد هذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى، وانجر في قياد الشهوات سلبه ما كان يجده من صفاء قلبه".

وكان السلف الصالحون يكرهون من الرجل أن يكون فارغًا، لا هو في أمر دينه، ولا هو في أمر دنياه، وهنا تنقلب نعمة الفراغ نقمة على صاحبها رجل كان أو امرأة، ولهذا قيل: الفراغ للرجال غفلة وللنساء غُلمة، أي محرِّك للغريزة، والتفكير في أمر الشهوة، ويشتد خطر الفراغ إذا اجتمع مع الفراغ الشباب الذي يتميز بقوة الغريزة وربما القدرة المالية التي تمكِّن الإنسان من تحصيل ما يشتهي.

إن الشباب والفراغ والجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

ويقول آخر:

لقد هاج الفراغ عليه شغلاً *** وأسباب البلاء من الفراغ

فهل نتعظ بغيرنا ونستفيد من تجارب السابقين؟ وهذا الحسن البصري يضيء لنا سراجًا من سرج القرون الأولى فيقول: "أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد حرصًا منكم على دراهمكم ودنانيركم".

وكانوا يحرصون كل الحرص على ألا يمر يوم أو بعض يوم، دون أن يتزودوا منه بعلم نافع، أو عمل صالح، أو مجاهدة للنفس، أو إسداء النفع إلى مسلم، حتى لا تتسرب الأعمار سدى، وتضيع هباء وتذهب جفاء، وهم لا يشعرون.

وفي هذا قال الشاعر:

إذا مر بي يوم ولم أقتبس هدى *** ولم أستفد علمًا فما ذاك من عمري

وإذا كان هذا هو حرص سلفنا على الوقت وتقدير قيمته وخطره، فإن مما يدمي القلب ويمزق الكبد أسى وأسفا: ما نراه اليوم عند المسلمين من إضاعته في الأوقات فاقت حد التبذير إلى التبديد. ومن العبارات التي أصبحت مألوفة لكثرة ما تدور على الألسنة، قول بعضهم: دعنا "نقتل أوقاتنا"، أو "نضيع الوقت".

فيجلسون الساعات الطوال أمام برامج ضارة في الحاسوب أو التلفاز، أو غير ذلك – مما يحل أو يحرم – لا يبالون، لاهين عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن واجبات الدين والدنيا، وما يدرون أن من قتل وقته فقد قتل في الحقيقة نفسه فهي جريمة انتحار بطيء ترتكب على مرأى ومسمع من الناس، ولا يَردعُ عنها أحد، وكيف يَردعُ عنها من لا يشعر بها، ولا يدري مدى خطرها!!

ومن آفات الإجازات السهر الطويل، والنوم في النهار، حتى تضيع الصلوات، وتختلط الأوقات، وكان ينبغي أن تُبذَل في حفظ القرآن ومراجعته، وقراءة الكتب النافعة، وصلة الأرحام، وأداء العمرة، وزيارة مسجد الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- والسلام عليه عن قرب.

توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله مسبغ النعم، ودافع النقم، نحمدك اللهم على سترك الجميل، ونشكرك على برّك الجزيل، ونعترف لك بقبائح الذنوب، ونبوء بما نقترف من فضائح العيوب، ونخضع لعز كبريائك بالذل والصغار ونطمع في كنز عطائك بالعجز والافتقار، ونمد إلى غناك أيدي احتياجنا.

ونسألك هداك لتسوية اعوجاجنا ونرفع إليك أكفّ الضراعة والابتهال، راغبين في التوفيق والطاعة وإصلاح الحال، فإن المَهديَّ من هديته سواء السبيل، والضال من أضللته فليس له دليل، وكل شيء بالتيسير منك وسبق التقدير، والقلوب بيدك تقلبها كيف شئت وإليك المصير.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن النفوس إذا كلت عميت، وأن القلوب تحتاج إلى الترفيه المباح؛ لكي تستعد لقبول الأعمال، وتتهيأ لعبادة الخالق سبحانه وتعالى، وفي الإجازات فرصة لهذا الترفيه بالخروج إلى النزهات البرية والبحرية، أو السفر إلى البلاد السياحية النظيفة، أو ببعض الألعاب الرياضية المباحة في غير وقت الصلوات.

ومما تحفل به الإجازات كذلك الأعراس وهي خير كثير حثّ عليه خير البشر -صلى الله عليه وسلم- وحض عليه الشباب فقال في الحديث الصحيح: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" (متفق عليه.

على أن تكون وفق هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، بعيدة عن كل ما يسخط الله عز وجل، من إسراف، أو تبرج الجاهلية، أو اختلاط، أو تفاخر وتباه، أو عزف محرم.

اللهم ثبتنا يوم العرض الأكبر، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، واحشرنا تحت راية نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أمرتنا بالصلاة والسلام عليه فقلت وقولك الحق (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله الطاهرين، وصحابته والتابعين، وعنا معهم بعفوك ورضاك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين وانصر عبادك المجاهدين، وانشر رحمتك على عبادك الموحدين، اللهم اقذف في قلوبنا رجاك، واقطع رجاءنا عمن سواك، وامنحنا شرف تقواك وهب لنا الرضا منك، ونعمنا برضاك، اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل ومن الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.

اللهم ارفع عنا كل بلاء، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء، وأتم علينا نعمة الأمن والإيمان، ورد اللهم عن بلاد المسلمين كل اعتداء، وأسبغ علينا نعمك ظاهرة وباطنه برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم احفظ ولاة أمورنا بحفظك، وأصلحهم وأصلح بهم العباد والبلاد، واجعلهم عزا للإسلام وأهله، اللهم جنبهم بطانة السوء، وقرب منهم بطانة الخير، واهدهم واهد بهم، وأسبغ عليهم نعمك ظاهرة وباطنة.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي