وتألم النبي -صلى الله عليه وسلم- لأجل هذه المأساة ألماً شديداً حيث وصل خبر مأساة الرجيع وخبر مأساة بئر معونة في ليلة واحدة، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويقنت في صلاته على أولئك القوم الذين غدروا وفتكوا بأصحابه، فدعا عليهم شهراً حتى أنزل الله عليه آية نُسخت فيما بعد تقول: "بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه"، فترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القنوت عليهم بعد نزول هذه الآية ثم جاء الرد قاسياً عليهم في غزوة بني النضير.
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: حديثنا اليوم عن حادثتين من الأحداث التي وقعت في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقعت في مثل هذا الشهر شهر صفر.
إنها فاجعة عظيمة ومصيبة كبيرة وحدث جلل أحزن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيراً، وقد سميت الفاجعة الأولى بفاجعة الرجيع، وأما الفاجعة الثانية فإنها فاجعة بئر معونة.
وخلاصة حادثة الرجيع أنه قدم إلى المدينة رهط من قبيلتي عَضَل وقارة، فجاؤوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا ويقرئوننا القرآن، ويعلمونا شرائع الإسلام.
فبعث معهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة من أصحابه، وجعل عاصم بن ثابت -رضي الله عنه- أميراً عليهم.
فلما وصلوا إلى مكان يقال له الرجيع بين مكة وعسفان غدروا بهم، وأظهروا لهم الشر والعداوة فاستصرخوا عليهم حياً من قبيلة هذيل فيهم حوالي مائتي مقاتل فألجؤوهم إلى مكان مرتفع وحاصروهم، وأحاطوا بهم من كل جانب، ثم أمروهم بأن يسلموا أنفسهم ولهم الأمان من القتل، ولكن قائد السرية عاصم بن ثابت -رضي الله عنه- أعلن رفضه أن ينزل في ذمة كافر، وقال: "إني نذرت أن لا أقبل جوار مشرك أبداً فجعل يقاتلهم وهو يقول:
ما علتي وأنا جلد نابل *** النبل والقوس لها بلابل
تزل عن صفحتها المعابل *** الموت حق والحياة باطل
وكل ما حمّ الإله نازل *** بالمرء والمرء إليه آئل
فأخذ يرميهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم بالرمح حتى كسر رمحه وبقي السيف فقال "اللهم حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره"، ثم قاتل حتى كسر غمد سيفه فقالت سُلافة بنت سعد، وكان عاصم بن ثابت -رضي الله عنه- قتل اثنين من أبنائها الأربعة، فقالت: لئن أمكنني الله منه لأشربن في قحف رأسه الخمر، وأعلنت أن لمن جاءها برأسه فله مائة ناقة، فأراد بنو لحيان أن يحتزوا رأسه، فيذهبوا به إلى سلافة، فيحصلوا منها على مائة ناقة إلا أن الله -سبحانه وتعالى- بعث على جثته الدّبر، فحمته فلم يدن إليه أحد إلا لدغته، وجاء من الدّبر شيء كثير لا طاقة لأحد به، فقالوا: دعوه إلى الليل، فإذا جاء الليل ذهب عنه الدبر، فلما جاء الليل بعث الله سيلاً فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه.
وقتل من أفراد سريته سبعة هو من ضمنهم، وبقي ثلاثة آخرون فأعطوهم الأمان من جديد، فقبلوا بالأمان غير أن المشركين سرعان ما غدروا بهم، واقتادوا اثنين منهم إلى مكة فباعوهما لقريش، وهما خبيب وزيد بن الدثنة -رضي الله عنهما-.
أما الصحابي الثالث فأبى أن يصحبهم، فحاولوه فلم يفعل فقتلوه، ثم انطلقوا بخبيب وزيد إلى مكة فباعوهما، فأما خبيب فقد باعوه لبني الحارث بن عامر الذي كان خبيب قد قتله يوم بدر فباعوه لأبنائه، فلما عزموا على قتله استعار من بعض بنات الحارث موسى ليستحد بها، ويحلق بها عانته، فأعطته فجاء صبي لها، فجلس على فخذه فخافت أن يقتله انتقاماً فقال لها: "أتخشين أن أقتله؟ ماكنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى".
فكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، ولقد رأيته يأكل من قطف عنب وهو موثق في الحديد وما بمكة يومئذ عنب، وما كان إلا رزق رزقه الله، ثم خرجوا به من الحرم إلى التنعيم ليقتلوه، فلما صلبوه قال: "دعوني حتى أصلي ركعتين"، فكان أول من سنَّ الركعتين عند القتل، فلما سلم قال لهم: "لولا أن تقولوا ما بي جزع من الموت لزدت"، ثم قال: "اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبقي منهم أحداً"، وأخذ ينشد فيقول:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا *** قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد قربوا أبنائهم ونساءهم *** وقربت من جذع طويل منع
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي *** وما جمع الأحزاب لي عند مضجعي
فذا العرش صبِّرني على ما يُرَاد بي *** فقد بضعوا لحمي وقد بؤس مطمعي
وقد خيروني الكفر والموت دونه *** فقد ذرفت عيناي من غير مدمع
ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي شقّ كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع
فقال له أبو سفيان: "أيسرك أن محمداً عندنا تضرب عنقه، وأنك في أهلك"، فقال: "لا والله، ما يسرني أني في أهلي، وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه"، ثم صلبوه فقتلوه.
وأما زيد بن الدثنة فباعوه لصفوان بن أمية فقتله بأبيه، وقد سأله أبو سفيان قبل مقتله فقال له: أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنت في أهلك، فقال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، فقال أبو سفيان: "ما رأيت في الناس أحداً يحب أحداً كما يحب أصحاب محمد محمداً".
وفي نفس الشهر الذي وقعت فيه هذه المأساة مأساة الرجيع وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع منها سميت بمأساة بئر معونة، وخلاصتها باختصار أن أناساً جاؤوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا له: ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم القراء؛ كانوا من أفاضل الصحابة يقرءون القرآن، ويتدارسونه بالليل، وكانوا يأتون بالماء في النهار فيضعونه في المسجد ويحتطبون، ثم يبيعون الحطب ويشترون به طعاماً للفقراء وأهل الصفة، فبعثهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم فعرضوا لهم وغدروا بهم، وقاموا بقتلهم.
وأتى رجل منهم حرام بن ملحان -رضي الله عنه- الذي جاء بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رئيسهم عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً بطعن حرام بن ملحان فطعنه برمح من خلفه، فلما رأى حرام الدم والرمح قد نفذ قال: "الله أكبر! فزت ورب الكعبة"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبيك أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا".
وتألم النبي -صلى الله عليه وسلم- لأجل هذه المأساة ألماً شديداً حيث وصل خبر مأساة الرجيع وخبر مأساة بئر معونة في ليلة واحدة، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويقنت في صلاته على أولئك القوم الذين غدروا وفتكوا بأصحابه، فدعا عليهم شهراً حتى أنزل الله عليه آية نُسخت فيما بعد تقول: "بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه"، فترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القنوت عليهم بعد نزول هذه الآية ثم جاء الرد قاسياً عليهم في غزوة بني النضير.
نستفيد من هاتين الحادثتين أنه لابد للدعوة من تضحيات فهؤلاء الصحابة أرسلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- معلمين ومفقهين ولم يرسلهم مقاتلين أو محاربين ومع ذلك وقعت لهم هذه المجزرة الرهيبة الدنيئة، وحصل عليهم هذا الغدر المشين، لكن ذلك كله لم يَفُتّ في عضدهم ولم يفتر من همتهم، ولم يكسر أبدًا عزمهم على مواصلة الدعوة إلى الله وخدمة دين الله؛ لأن مصلحة الدين فوق مصلحة الأنفس والدماء؛ إذ الدعوة لا يكتب لها النصر إذا لم تبذل في سبيلها الأرواح والمُهَج، ولا شيء يمكّن للدعوة في الأرض إلا استرخاص التضحيات من أجلها؛ فالدعوات بدون تضحيات فلسفات وأخيلة تلفها الكتب وترويها الأساطير ثم تطوى مع الزمن.
فهذه التضحيات الضخمة العظيمة التي قدَّمها الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- من أجل دينهم وعقيدتهم ومرضاة ربهم كانت سبباً في تحقيق الفتوحات الإسلامية، وتثبيت شرع الله ونظامه في الأرض وتثبيت معالم الدين في هذه الحياة.
من المواقف العظيمة التي سطرت في هذه المأساة موقف خبيب بن الدثنة -رضي الله عنه- عندما أخذ الموس ليستحد بها فجاء ابن من أبناء بنات الحارث بن عامر على فخذه ألجأوهم فخافت أمه أن يقتله فقال لها: "أتخشين أن أقتله؟ ماكنت لأفعل ذلك إن شاء الله".
إنه موقف جميل ورائع يدل على سمو الروح وصفاء النفس والالتزام بالمنهج الإسلامي الذي يقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)؛ فالإسلام لا يعرف الغدر لا في حال السلم والرخاء ولا في حال الحرب والشدة.
كذلك أظهرت الحادثة حب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنبيهم -صلى الله عليه وسلم- عندما قال أبو سفيان: "أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك"، فقال زيد: "والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه"، فقال أبو سفيان: "ما رأيت في الناس أحداً يحب أحداً كما يحب أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-".
من المواقف العظيمة التي سطرها التاريخ موقف حرام بن ملحان -رضي الله عنه- عندما اخترق الرمح ظهره فخرج من صدره، فأخذ يتلقى الدم بيديه ويمسح به وجهه ورأسه وهو يقول: "فزت ورب الكعبة"، هذا المشهد العظيم، وهذه العبارة الجميلة جعلت جبار بن سلمى الذي طعن حرام بن ملحان يتساءل عن قول حرام: "فزت ورب الكعبة"، فقال: إن مما دعاني إلى الإسلام أني طعنت رجلاً منهم برمح فخرج من صدره فسمعته يقول: فزت ورب الكعبة، فقلت في نفسي ما فاز ألست قد قتلت الرجل، فسألت بعد ذلك عن قوله فقالوا: فاز لعمر الله بالشهادة؛ فكان سبباً لإسلامي.
كذلك نستفيد من حادثتي بئر معونة والرجيع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم الغيب؛ إذ لوكان يعلم الغيب لما أعطى هؤلاء الغادرين أحداً من أصحابه وصدق الله إذ يقول عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 188].
كما أن الله –تعالى- استجاب دعاء رسوله -صلى الله عليه وسلم- عندما دعا على أولئك القوم، فأهلك الله رئيسهم المتكبر المتغطرس عامر بن الطفيل، فأصيب بمرض عضال حيث أصيب بالطاعون فأصبح حبيساً في بيت امرأة من قومه حتى مات، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "اللهم اكفني عامراً".
وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي