دقائق الإخلاص وخفايا الرياء

راشد البداح
عناصر الخطبة
  1. الإخلاص وأثره في نجاة العبد .
  2. صور من إخلاص السلف .
  3. بواعث الإخلاص ومحفزاته .
  4. من قوادح الإخلاص الخفية .
  5. أثر النية في العادات. .

اقتباس

ولأجل أن نوقنَ أن الإخلاص أعظم الأعمال شأنًا عند الله، فلننظر كيف أن الشيطان يودُّ أن يفسد إخلاص ابن آدم بكل سبيل، لقد سلك عدوُّ الله طرقًا خفيةً جدًا، وصفها نبينا -صلى الله عليه وسلم- بأنَّها: "أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ" (مسند أحمد), وبأنها أخوف عنده "من المسيح الدجال"...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي اهتدى برحمته المهتدون، وضَلَّ بحكمته الضالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه، وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: إن عدوَ الله الشيطان -أعاذنا الله منه- قد نصب لنا العداوة بكل طريق، فقدِر علينا كلِّنا، إلا طائفةً عجِز عنهم، وقد اعترف بعجزه حينما قال: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص: 82، 83], بالكسر على القراءة الأخرى, إنهم المخلصون محفوظون بحفظ الله من العصيان والمكاره: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24].

فلله ما أروع الإخلاص لله في كل صغيرة وكبيرة (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ) [الأنعام: 162، 163].

ولتسمعوا الآن شيئاً من حال -سلفنا الصالح- في مجاهدتهم ليكونوا من المخلِصين:

فهذا الحسن البصري يقول: "إن الرجلَ ليجلسُ المجلسَ، فتجيئُه عَبرته فيردُّها، فإذا خشي أن تسبقه قام", ودَخَلَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ السوقَ ليَشْتَرِيَ ثَوْبًا، فَقَالَ رَجُلٌ لِصَاحِبِ الدكان: "هَذَا ابْنُ مُحَيْرِيزٍ، فَأَحْسِنْ بَيْعَهُ"، فَغَضِبَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ وَخَرَجَ وَقَالَ: "إِنَّا نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا، وَلَسْنَا نَشْتَرِي بِدِينِنَا".

أما حسان بن أبي سنان، فتقول عنه زوجته: "كَانَ يَدْخُلُ مَعِي فِي فِرَاشِي ثُمَّ يُخادِعُنِي كَمَا تُخادِعُ الْمَرْأَةُ صَبِيَّهَا، فَإِذَا عَلِمَ أَنِّي قَدْ نِمْتُ سَلَّ نَفْسَهُ فَخَرَجَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي".

لكن: لماذا كل هذا؟! والجواب: لأنهم يخافون أن تحبَط أعمالهم، فيكونون من الخاسرين: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر: 14، 15].

إنهم يخافون أن يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً" (مسند أحمد).

أيها المسلمون: ولأجل أن نوقنَ أن الإخلاص أعظم الأعمال شأنًا عند الله، فلننظر كيف أن الشيطان يودُّ أن يفسد إخلاص ابن آدم بكل سبيل، لقد سلك عدوُّ الله طرقًا خفيةً جدًا، وصفها نبينا -صلى الله عليه وسلم- بأنَّها: "أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ" (مسند أحمد), وبأنها أخوف عنده "من المسيح الدجال" (مسند أحمد).

وإليكم الآن طرقاً خفيةً من مداخل الشيطان على الإنسان تقدح في إخلاصه:

فمن دخائل الشيطان على بعضهم: أن الشيطان قد يغريه في الوقيعة بأهل العلم أو الرد عليهم, وهو يريد بذلك أن يتسلق على أكتافهم؛ ليقال: "رد على فلان"، وربما تصنّع الدعاء لهم؛ ليُظهِر الحرص عليهم، كأن يقول: "فلان غفر الله لنا وله قال: كذا وكذا، أو قال: دعونا من غيبته", وإنما مُراده الغيبة.

وربما تكلم بما يدل أنه يفعل بعض الطاعات، كمن يقول مثلاً: "العبد إذا أكثر تلاوة القرآن أصبح سهلاً عليه، خاصةً في قيام الليل", ومراده أن يقول: إني أقوم الليل، وربما انتقل عمله من ديوان السر إلى ديوان العلانية، كمن يقول مثلاً: "المؤذن أذَّن البارحة قبل الوقت بنصف ساعة", ومراده أنه يصلي، ولهذا بعض السلف لما قيل: "أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ؟ استدرك، وقال لجلسائه: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ" (صحيح مسلم).

ومنها: طأطأة الرأس عند الناس لمرور امرأة مثلاً، وكان بإمكانه أن يغض ولو لم يطأطئ رأسه.

ومنها: أن يتكلم عن أهل المنكرات, فيغضب, ومراده أن يقال: "إنه شديد الغيرة على الحرمات".

وربما أغرى الشيطان الإنسان بأن يكون متبذل الثياب، متظاهراً بالتزهد والتواضع.

وقد يُخفِي العبادةَ ظاهراً, لكنه يسعى إلى أن يعلَمَها الناس بأسلوب خفي أملاه عليه الشيطان؛ كمن يُسبِّح سراً، لكنه يَصْفِر بحرف السين، وقصدُه أن يسمعه الناس.

قال ابن رجب: "وها هنا نُكتةٌ دقيقة، وهي أن الإنسانَ قد يذُمُّ نفسهُ يين الناسِ يُريدُ بذلك أن يُرِي أَنه مُتواضعٌ عندَ نفسهِ، فيرتفعُ بذلكَ عندَهُم ويمدحُونَهُ بهِ، وهذا من دَقائقِ أبوابِ الرِّياءِ" (مجموع رسائل ابن رجب)، فيخيل إليه الشيطان أن قد قد نجَى من الرياء، وإنما سحبه إلى الرياء على وجهه، فكما لا تمدح نفسك أمام الناس فكذلك لا تسبَّها أمامهم أيضاً.

ومن الطرق الخفية: أن يبدأ العمل لوجه الله -تعالى-، فإذا علم أن الناسَ مطلعون عليه زاد في عمله, فربما أطال صلاته أكثر مما نوى، أو تصدق بأكثر مما نوى.

ومن ذلك: ترك العمل خوف الرياء؛ حتى يتحول إلى وسواس, وربما تفوته الصلاة بحجة الخوف من الرياء، والشيطان يلعب به لعبًا، وربما يكون عابدًا, أو معلماً، فيترك ذلك خوف الرياء، وهذا من الخطأ العظيم، فلا يترك عملاً لأجلهم، كما لا يجوز له أن يعملَ شيئاً من أجلهم.

وبعد؛ فلا تستغربوا هذه الدقائق في الرياء، فإن الأمر خطير جدُّ خطير، ولذا قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَأَمَّا الشَّرَكُ فِي الْإِرَادَاتِ وَالنِّيَّاتِ، فَذَلِكَ الْبَحْرُ الَّذِي لَا سَاحِلَ لَهُ، وَقَلَّ مَنْ يَنْجُو مِنْهُ" (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم).

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم, فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ, وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

عبد الله: فإنه ليس لك إلا ما نويت، شئتَ ذلك أم أبَيْتَ، فلنتعلم النية فإنها أبلغ من العمل، لنتعلمها؛ فإنها تحوِّل العادة إلى عبادة، فإنك تستطيع -يا عبد الله- أن تجعل حياتك كلها لله, تستطيع أن تجعل ساعات الوظيفة عبادةً تؤجر عليها، تستطيع أن تجعل ابتسامتَك وبيعَك وشراءَك وإطعامَك لزوجك وأولادك صدقةً تُكتب لك، ونهرَ حسنات يَصبُّ في سجلاتك.

والعمل وإن كان يسيراً يتضاعف بحسن النيات، ويكون سبباً في دخول الجنات, يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ؛ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ" (متفق عليه).

ولا تحقرن أي عملٍ تخلص نيتك فيه، ولو كنت مفرِّطًا في جنب الله، فالنَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر: "أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا" (متفق عليه).

ويقول عن الرجل الذي لا مال عنده وينوي الصدقة: "لو أن لي مالاً لعمِلت بعمل فلان، قال: فهو بِنِيَّتِه" (رواه الترمذي), يقول عبدالله بن المبارك: "رُبَّ عَمَلٍ صَغِيْرٍ تُكَبِّرُهُ النِّيَّةُ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَبِيْرٍتُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ".

بل إن الهمّ بعمل صالح يؤجر عليه العبد وإن تخلف العمل، قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها؛ كَتَبَها اللهُ لَهُ عِندَهُ حَسَنَةً كامِلةً" (متفق عليه).

أرأيتم كيف الإخلاص رافع والرياء خافض؟! ولذا نحتاج إلى مجاهدة على تثبيت الإخلاص وطرد الشرك قبل العمل وأثناءَه وبعدَه, (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110].

اللهم إنا نعوذ بك من عمل يخزينا ومن غنى يطغينا ومن فقر ينسينا ومن صاحب يردينا ومن أمل يلهينا.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان, واستر عوراتهم, وآمن روعاتهم, ورد غائبهم, وعاف مبتلاهم, واجمع شملهم على الحق, وأيقظهم من سِنَةِ الغفلة, واجعلهم حماة للملة.

اللهم أصلح الراعي والرعية, الللهم وفق إمامنا وولي عهده بتوفيقك.

اللهم انصر إخواننا المجاهدين في الجنوب, اللهم ثبت أقدامهم وأنزل عليهم السكينة, وأمكنهم من رقاب عدوهم, اللهم واحفظ جنودنا في جماركنا وطرقنا، واخلفهم في أهليهم بخير.

اللهم عليك بالحوثيين والنصيريين والقتلة المفسدين، وكل محارب للدين, اللهم اكفناهم بما شئت , واجعل تدبيرهم تدميرًا عليهم.

سبحان الله على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، اللهم اكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين.

اللهم اسقنا سقيا نافعة وادعة تزيد بها في شكرنا وارزقنا رزقًا ترخص به أسعارنا وتنعم به على بدونا وحضرنا.

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه, فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي