صور من ثبات النبي -صلى الله عليه وسلم- على الدين

فيصل بن جميل غزاوي
عناصر الخطبة
  1. أهمية القدوة الحسنة في حياة المسلمين .
  2. بعض جوانب الاقتِداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- .
  3. فضل الثبات على دين الله تعالى .
  4. بعض صور ثبات النبي - صلى الله عليه وسلم- على الدين الحق .
  5. وجوب التمسك بالدين والاعتصام بحبله. .

اقتباس

وإذا كان الثباتُ بيدِ الله وحدَه، وهو نعمةٌ إلهيَّةٌ، ومِنحةٌ ربَّانيَّة، والنبيُّ الكريمُ المُؤيَّدُ بالوحي، والموعُودُ بالنصرِ والتمكين يطلُبُ عونَ ربِّه، ويدعُوه أن يُثبِّتَه. فما أحرَى المُؤمن أن يسأل اللهَ الثباتَ مِن قلبٍ صادِقٍ، ويلجَأَ إليه مُتضرّعًا ألا يُزيغَ قلبَه، ولا يفتِنَه بشيءٍ مِن زهرةِ الحياةِ الدنيا. وفي المُقابِل يحذَرُ.. لأن القدمَ إذا زلَّت انقلَبَ الإنسانُ مِن حالِ خيرٍ إلى حالِ شرٍّ، وفي هذا تحذيرٌ أن يكون المرءُ على الاستِقامة فيَحيدَ عنها، ويزِلَّ عن طريقِ الهُدَى والحقِّ.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإن وُجودَ القُدوة الحسنة في حياةِ المُسلم ضرورةٌ حتميَّة؛ ليُقتَدَى بها، وتُكتسَبَ منها المعالِمُ الإيجابيَّة، وتكون دافعًا حثيثًا لتزكِية النَّفس، واستِنهاضِ هِمَّتها، والارتِقاء بها في مدارِجِ الكمال.

ومِن فضلِ الله على أمةِ الإسلام: أن اختارَ صفِيَّه ومُصطفاه وخيرتَه مِن خلقِه مُحمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليكون خيرَ قُدوةٍ لها في امتِثال هذا الدين، والالتِزامِ بقِيَم الإسلام وأخلاقِه وأحكامِه، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].

ألا وإن مِن جوانِبِ القُدوةِ في حياة الرسولِ الكريمِ -صلى الله عليه وسلم-: ثباتُه على الدين حتى أتاه اليقين، وقد ثبَّت الله نبيَّه على دينه، وأيَّدَه بنصرِه، وأعزَّه ومكَّنَه، وأعانَه في كل أحوالِه، فكان مِثالًا يُحتَذَى في التِزام الإسلام حتى الممات.

معاشِر المُسلمين: لثباتِه -صلى الله عليه وسلم- صُورٌ مُتعدِّدة، وأمثلةٌ مُتنوِّعة، تتجلَّى في واقعِ حياتِه، وعاطِرِ سيرتِه، وجميلِ شمائِلِه ومناقِبِه؛ فمِن ذلك: ثباتُه على التمسُّك بالوحيِ كما أمرَه الله بقولِه: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الزخرف: 43].

وفي قوله: (إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) تثبيتٌ للرسولِ -صلى الله عليه وسلم-، وثناءٌ عليه بأنه ما زاغَ قِيدَ أُنملة عما بعثَه الله به. وقد التزَمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هديَ ربِّه، وتمسَّك به، على الرغم مِن مُحاولة المُشرِكين صرفَه عن حُكم القرآن وأوامِرِه، قال الله تعالى مُمتنًّا على رسولِه: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) [الإسراء: 73، 74].

عباد الله: ومِن الصُّور الجلِيَّة في هذا الجانِبِ: ثباتُه على عبادتِه لربِّه، ومُواظبَتُه واستِمرارُه في العمل، وهذا يتمثَّلُ في صبرِه على طاعةِ الله، واجتِهادِه في اغتِنامِ القُرُبات، وكسبِ الحسنات. فعن عائشة -رضي الله عنها-، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يقومُ مِن الليلِ حتى تتفطَّر قدَمَاه، فقالت عائشةُ: لِمَ تصنَعُ هذا يا رسولَ الله، وقد غفرَ الله لك ما تقدَّم مِن ذنبِك وما تأخَّر؟ قال: "أفلا أُحبُّ أن أكون عبدًا شَكُورًا؟" (متفق عليه).

فتأمَّلُوا -رعاكم الله- كيف كان -عليه الصلاة والسلام- يُجهِدُ نفسَه، ويتحمَّلُ المشقَّة في العبادة، مع علمِه بما سبَقَ له مِن مغفرةِ الله ذنوبه، بل كان يحرِصُ على استِدراكِ ما فاتَه مِن القُرُبات. ففي "صحيح مسلم" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عمِلَ عملًا أثبَتَه، وكان إذا نامَ مِن الليل أو مرِضَ صلَّى مِن النهار ثِنتَي عشرة ركعة.

وعن أم سلَمَة -رضي الله عنها-، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى ركعتَين بعد العصرِ، فسألتْه عنهما فقال: "إنه أتانِي ناسٌ مِن عبد القَيس، فشغَلُوني عن الرَّكعتَين اللَّتَين بعد الظهر، فهما هاتان" (متفق عليه).

ولا يُفهَم مما سبَقَ أن يتجاوَز العبدُ هَديَه -صلى الله عليه وسلم-، ويُخالِفَ سُنَّتَه، فيخرُج عن حدِّ القصدِ والاعتِدال. فعندما عدَّ النَّفرُ الثلاثةُ عملَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قليلًا، وبنَوا على ذلك مِنهاجًا لهم، فقال أحدُهم: أما أنا فإنِّي أُصلِّي الليلَ أبدًا، وقال آخر: أنا أصومُ الدَّهرَ ولا أُفطِر، وقال آخر: أنا أعتزِلُ النساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا.

بادَرَ -صلى الله عليه وسلم- بإرشادِهم، وتصحيحِ أفكارِهم ومفاهِيمِهم بقولِه: "أما واللهِ إنِّي لأخشاكُم لله وأتقاكُم له، لكنِّي أصومُ وأُفطِر، وأُصلِّي وأرقُد، وأتزوَّجُ النساءَ؛ فمَن رغِبَ عن سُنَّتِي فليسَ مِنِّي" (الحديثُ مُتفقٌ عليه مِن روايةِ أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه-).

أيها المُسلمون: ومِن صُور ثباتِه -صلى الله عليه وسلم- ثباتُه على الأخلاق والمبادِئ والقِيَم؛ فقد بلغَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم– ذروةَ الكمال الإنسانيِّ في سائر أخلاقِه وخِصالِه، وفي جميعِ جوانِبِ حياتِه. والتوازُنُ في صِفاتِه -صلى الله عليه وسلم- مِثالٌ على ثباتِه، فحالُه على مِنوالٍ واحدٍ، ثابتةٌ مع تغيُّر الأحوال والظُّروف، فنجِدُه في كل أحوالِه يتدرَّجُ في مراتبِ العبوديَّة بين صبرٍ على البلاء، وشُكرٍ للنَّعماء، ونجِدُه يستوِي حالُه بعد المُصيبَة بحالِه قبل المُصيبَة، فلا جزَعَ ولا تسخُّط، ولكن تسليمٌ ورِضًا.

وحالُه في رِضاه كحالِه في غضبِه، فلا يظلِمُ ولا يُسيءُ عند الغضبِ، وكان لا يغضَبُ لنفسِه ولا ينتقِمُ لها؛ بل كان غضبُه عندما تُنتهَكُ حُرُمات الله، كما أنه لا يتغيَّرُ في حالِ الحربِ عن حالِ السِّلمِ، فلا يغدر، ولا يُمثِّل، ولا ينقُضُ العهودَ والمواثِيق، ولا يقتُلُ وليدًا ولا امرأةً ولا شيخًا كبيرًا، وهو رحيمٌ مِن دُون ضعفٍ، وحليمٌ لا عجزٍ، ومُتواضِعٌ مِن غير ذِلَّة. آمَنَ خُصومُه؛ لِما رأَوه مِن صِدقِه وأمانتِه، ووفائِه وكريمِ خِصالِه.

معاشِر المُسلمين: ومِن صُور ثباتِه -صلى الله عليه وسلم-: ثباتُه في دعوتِه إلى الله؛ إذ ظلَّ في مكة يدعُو الناسَ إلى "لا إله إلا الله"، وإلى عبادةِ الله، ويُحذِّرُه مِن الشركِ بالله، ومِن عبادةِ الأوثان سرًّا وجِهارًا، ليلًا ونهارًا، لا يكَلُّ ولا يمَلُّ.

ولم يَثْنِ عزمَه سعيُ المُشرِكين للحيلُولة دُون وُصولِ دعوتِه إلى الناسِ، ولم يزِدْه ذلك إلا ثباتًا وبَذلًا لمزيدٍ مِن الجُهد في سبيلِ تبليغِ الدعوةِ ونشرِ الإسلام.

ولما كلَّم المُشرِكون عمَّه أبا طالِبٍ أن يكُفَّ عن مُواصَلَة دعوتِه، قال -صلى الله عليه وسلم- في موقفٍ ثابتِ الإرادة، قويِّ العزم: "ما أنا بأقدَرَ على أن أدَعَ لكم على أن تستشعِلُوا لي مِنها شُعلَةً" يعني: الشمسَ.

واحتمَلَ -صلى الله عليه وسلم- إيذاءَ المُشرِكين بكل صَبرٍ، ولم يقبَل ما عرَضَتْه عليه قُريشٌ مِن مُلكٍ ومالٍ وجاهٍ، وواجَهَ في سبيلِ الله أشدَّ الأذَى مِن شتمِهم له، والسُّخريةِ مِنه، واتِّهامِه بالسِّحرِ والجُنُونِ والكذِبِ، وضربِهم له مرَّةً حتى أُغشِيَ عليه، ووضعِهم الرِّداءَ في عُنُقه وخنقِه به خنقًا شديدًا، ووضعِهم سلَا الجَزُورِ على ظهرِه وهو ساجِد، وإدمائِهم قدَمَيه، وشجِّهم وجهَه، وكسرِهم رباعيَّته، وغير ذلك مِن أصنافِ التعذيبِ والنَّكال الذي لقِيَه - بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-.

لكنه لم يكترِث لذلك، ولم يفُتَّ في عضُدِه؛ بل مضَى في سبيلِه صامِدًا، رابِطَ الجَأشِ، يدعُو إلى الله تعالى، ويأمُرُ بالمعروف وينهَى عن المُنكَر على بصيرةٍ. فكيف كانت نتيجةُ ثباتِه -صلى الله عليه وسلم- على المبدأ؟!

لقد دخلَ الناسُ في دينِ الله أفواجًا، وهزمَ الله الصادِّين عن سبيلِه ودحرَهم، وتُوفِّي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن بلَّغَ رسالةَ ربِّه البلاغَ المُبين، وقامَ بالواجِبِ خيرَ قِيام، وكان لأمتِه الناصِحَ الأمينَ.

وكان موقِفُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- الراسِخُ أمام الإيذاءِ والإغراء والمُساوَمَة درسًا تربويًّا للصحابة -رضوان الله عليهم-؛ فقد ثبَتُوا لثباتِه في حياتِه وبعد مماته، ومِن ذلك يتعلَّمُ المُؤمنُ الثباتَ على العقيدة، والتمسُّك بالمبادِئ والقِيَم، والتِزامَ المنهَج الصحيحِ، وعدمَ الضعفِ أمام المِحَن، أو التفكير في المُغرَيات التي تُعرَض عليه لصَرفِه عن دينِه ودعوتِه.

أيها المُسلمون: ومِن صُور ثباتِه -صلى الله عليه وسلم-: ثباتُه وقت الشدائِدِ والمِحَن؛ ففي يوم حُنَين تعرَّضَ المُسلِمون إلى مِحنةٍ شديدةٍ، وبلاءٍ عظيمٍ، حينما اغترُّوا بكثرة عددِهم، فلم تُغنِ عنهم شيئًا، وانقضَّ عليهم المُشرِكُون، وكادُوا أن يهزِمُوهم، لولا أن أنزلَ الله السَّكينةَ عليهم، وثبَّتَ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- الذي أخذَ يدعُو الفارِّين مِن المعركة ويقول: "هلُمُّوا إليَّ أيها الناس، أنا رسولُ الله، أنا مُحمدُ بن عبد الله"، ولم يبقَ معه في موقفِه إلا عددٌ قليلٌ مِن المُهاجِرين والأنصار. ثم بدأ يركُضُ بغلتَه قِبَل الكفَّار وهو يقولُ: "أنا النبيُّ لا كذِب، أنا ابنُ عبد المُطلب"، في شجاعةٍ عظيمةٍ، وثباتٍ عجيبٍ.

أيها الإخوة: إن الثباتَ في أيام الفِتَن ووقتِ البلاء والمِحَن سِمةٌ مِن سِمات عباد الله الراشِدين، ودليلٌ على رُسُوخ الإيمان وقوَّة اليقين.

فاثبُتُوا -عباد - على دينِكم، وتمسَّكُوا بشرعِ ربِّكم؛ تُفلِحُوا وتفُوزُوا. أقولُ هذا القَول، وأستغفِرُ الله الجليلَ لي ولكم، فاستغفِرُوه مِن كل ذنبٍ وخطيئةٍ، وتُوبُوا إليه، إن ربي غفورٌ رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله الذي شرحَ صُدورَ المُسلمين، وثبَّتَهم على الحقِّ المُبين، وأعانَهم فكان لهم خيرَ مُعِين، والصلاةُ والسلامُ على خير الأنام المبعُوث رحمةً للعالمين، دعَا إلى الله حتى أتاه اليقين، وصبَرَ فكان صبرُه معونةً للسالِكين، وثباتًا للمُؤمنين.

أما بعد: فالثباتُ على دينِ الله مطلَبٌ أساسيٌّ لكل مُسلمٍ صادِقٍ، ومما كان يدعُو به -صلى الله عليه وسلم- ويسألُه ربَّه أن يُثبِّتَه على كل الأحوال؛ كقولِه - عليه الصلاة والسلام -: "يا مُقلِّبَ القُلُوب! ثبِّت قلبِي على دينِك". وقولِه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أسألُكَ الثباتَ في الأمرِ، والعزيمةَ على الرُّشدِ".

وإذا كان الثباتُ بيدِ الله وحدَه، وهو نعمةٌ إلهيَّةٌ، ومِنحةٌ ربَّانيَّة، والنبيُّ الكريمُ المُؤيَّدُ بالوحي، والموعُودُ بالنصرِ والتمكين يطلُبُ عونَ ربِّه، ويدعُوه أن يُثبِّتَه. فما أحرَى المُؤمن أن يسأل اللهَ الثباتَ مِن قلبٍ صادِقٍ، ويلجَأَ إليه مُتضرّعًا ألا يُزيغَ قلبَه، ولا يفتِنَه بشيءٍ مِن زهرةِ الحياةِ الدنيا.

وفي المُقابِل يحذَرُ أن يكون ممَّن وصفَ الله عاقبتَهم بقولِه: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) [النحل: 94]؛ لأن القدمَ إذا زلَّت انقلَبَ الإنسانُ مِن حالِ خيرٍ إلى حالِ شرٍّ، وفي هذا تحذيرٌ أن يكون المرءُ على الاستِقامة فيَحيدَ عنها، ويزِلَّ عن طريقِ الهُدَى والحقِّ.

أيها المُسلمون: إن الثباتَ معناه: الاستِمرارُ في طريقِ الهِدايةِ، والالتِزامُ بمُقتضيات هذا الطريق، والمُداومَة على الخير، والسعيُ الدائِمُ للاستِزادة مِن الإيمان والتقوَى. والثباتُ على الدين لا يكونُ بكثرة الاستِماع للمواعِظ، إنما يكون بفعلِ هذه المواعِظ، وامتِثالِها في واقعِ الحياة، قال –تعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء: 66].

فإن الله يُثبِّتُ الذين آمنُوا بسببِ ما قامُوا به مِن الإيمان، الذي هو القيامُ بما وُعِظُوا به، فيُثبِّتُهم في الحياةِ الدنيا عند وُرودِ الفتن في الأوامر، والنواهِي، والمصائِب، فيحصُل لهم ثباتٌ يُوفَّقُون به لفعلِ الأوامِرِ وتركِ الزواجِر. وعند حُلول المصائِبِ التي يكرَهُها العبدُ، فيُوفَّقُ للتثبيتِ بالتوفيقِ للصبرِ، أو الرِّضا، أو الشُّكر، فينزِلُ عليه معونةٌ مِن الله للقيامِ بذلك، ويحصُلُ له الثباتُ على الدين عند الموتِ وفي القبر.

ألا صلُّوا -عباد الله- وسلِّموا على خيرِ البريَّة، وأزكَى البشريَّة، سيِّد الثابتين، وقُدوة المُتقين، كما أمرَكم الله بذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالَمين، إنك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهم عن أصحابِه أجمعين، وعن التابعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بفضلِك وكرمِك ورحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافِرين، وانصُر عبادَك المُوحِّدين، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدين، واجعَل هذا البلدَ آمِنًا مُطمئنًا وسائرَ بلاد المُسلمين. اللهم انصُر مَن نصرَ الدين، واخذُل مَن خذلَ عبادَك المُؤمنين.

اللهم مَن أرادَنا وأرادَ بلادَ المُسلمين بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نحرِه، وأدِر عليه دائِرةَ السَّوء يا رب العالمين.

اللهم آمِنَّا في الأوطانِ والدُّور، وأصلِح الأئمةَ ووُلاةَ الأمور، واجعَل ولايتَنا فيمَن خافَك واتَّقاك، واتَّبعَ رِضاك يا رب العالمين، اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا لِما تُحبُّه وترضاه مِن الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم.

اللهم ألِّف بين قُلوبِ المُؤمنين، وأصلِح ذاتَ بينهم، واهدِهم سُبُل السلام، ووحِّد صُفُوفَهم، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا قويُّ يا عزيز.

اللهم كُن لإخوانِنا المُستضعَفين والمُجاهِدين في سبيلِك، والمُرابِطين على الثُّغور، اللهم كُن لهم مُعينًا ونصيرًا، ومُؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم أنجِ المُستضعَفين مِن المُؤمنين، اللهم اشِف كُربتَهم، اللهم اجعَل لهم مِن كل همٍّ فرَجًا، ومِن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومِن كل بلاءٍ عافِية، اللهم استُر عوراتهم، وآمِن روعاتهم، وأنزِل عليهم السَّكينةَ والثبات. (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8].

اللهم يا وليَّ الإسلام وأهلِه مسِّكنا به حتى نلقاك، اللهم إنا نسألُك الثباتَ على الحقِّ حتى الممات، اللهم إنا نسألُك الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرُّشد، اللهم مُقلِّبَ القُلُوب ثبِّت قُلوبَنا على طاعتِك. اللهم أحيِنا مُسلمين، وتوفَّنا مُسلمين، وألحِقنا بالصالِحين برحمتِك يا أرحم الراحمين. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي