وهذا الجزاء من الغيب الذي ادخره الله لعباده الصائمين؛ فنحن نؤمن بذلك ونعتقد به تصديقا بخبر الوحي الغيبي، وهذا من التوحيد، ومن التصديق بجزاء أهل التوحيد؛ ففي صحيح البخاري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ في الْجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ...
أيها المؤمنون بالله العظيم: رمضان إيمانٌ، رمضان عقيدةٌ، رمضان توحيدٌ، رمضان عبوديةٌ، رمضان سلوك.
نعم؛ إنه رمضان، وهكذا هو رمضان؛ فرمضان كما هو في ظاهره سلوك، هو -أيضا- عقيدة وإيمان وتوحيد، وفي هذا الخطبة نريد أن نعطي رمضان حقه مع عقيدة التوحيد، نريد أن نربط ما بين رمضان وعقيدة التوحيد، نريد أن نحلل مقامات التوحيد في رمضان، نريد أن نستجلي مظاهر التوحيد في رمضان، نريد أن نجعل من صيامنا توحيداً للخالق -سبحانه-، نريد أن نحقق التوحيد من خلال رمضان.
نعم؛ فرمضان ليس هو فقه وأحكام فقط، بل هو قبل ذلك وبعد ذلك ومع ذلك، توحيد؛ فكيف يمكن تحقيق التوحيد في صيامنا لرمضان؟ وكيف يمكن أن نشهد مقامات التوحيد في رمضان؟
أيها المؤمنون بالله العظيم: يتحقق التوحيد في رمضان بأن نعتقد ابتداء بأن الذي شرع رمضان هو؛ الله --سبحانه- وتعالى-، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة:183].
وهذه من أعظم حقائق التوحيد أن تعتقد بأن المشرّع هو الله تعالى، وأن الآمر للعباد والناهي لهم، والمحلّل لهم والمحرّم عليهم، هو الله -عزّ وجل-؛ فما شرعه لهم من شأن رمضان وما أمرهم فيه وما نهاهم عنه فيه، وما أحله لهم في ليالي رمضان وما حرمه عليهم في نهاره، كما في قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة:187]، وقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة:187]، كل هذا اعتقاده، من توحيد الله. من توحيد الله في ربوبيته؛ فهو الخالق، وله الحق في التشريع للمخلوق، قال تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [آل عمران:54]، وهنا أيها الصائم حينما تعتقد ذلك تحقق التوحيد وترد على الماديين والعلمانيين والمستشرقين الذين يشككون في شريعة الصوم وغاياتها وحكمتها.
أيها المؤمنون بالله الحكيم: إن من تحقيق التوحيد في رمضان؛ تحقيق الطاعة فيه والاتباع والعبودية، وهذا من تحقيق توحيد الألوهية الذي هو: إفراد الله تعالى بحق العبادة وحق الطاعة المشروعة؛ فحينما يقوم المؤمن بطاعة الله؛ فيصوم رمضان، امتثالا لأمر الله تعالى، وعندما يتبع في تطبيق صيام رمضان ما جاءت به السنة، اتباعا لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعندما يقصد من طاعته تلك واتباعه هذا تحقيق العبودية لله، امتثالا لقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة:185]؛ فذلك كله تحقيق لتوحيد الألوهية.
يا أيها المؤمن: ومن تحقيقك للتوحيد في صيامك رمضان؛ أنك تصوم هذا الشهر، إيمانا منك بالله تعالى، وتصديقا بألوهيته، وتصوم أيام رمضان محققا التوحيد في قلبك من خلال إخلاصك لله --سبحانه--، وهذا المقام من تحقيق التوحيد في صيامنا لرمضان، قد جاء به الحديث النبوي الصحيح، كما في البخاري أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وجاء في فتح الباري: "والمراد بالإيمان الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب طلب الثواب من الله تعالى"، وفي شرح النووي: "مَعْنَى (إِيمَانًا) تَصْدِيقًا بِأَنَّهُ حَقّ مُقْتَصِد فَضِيلَته، وَمَعْنَى (اِحْتِسَابًا) أَنْ يُرِيد اللَّه تَعَالَى وَحْده لَا يَقْصِد رُؤْيَة النَّاس، وَلَا غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِف الْإِخْلَاص".
ومما لا شك فيه أنّ الإخلاص من أعظم حقائق توحيد الألوهية، وأنّ التصديق والاعتقاد بأن الله تعالى هو من أمَرَني بالصيام هو من أَجَلِّ حقائق التوحيد.
أيها المؤمن بالله العظيم: يتحقق التوحيد في صيام رمضان؛ حينما يُعظّم المؤمن شهر رمضان، حينما يستشعر المسلم حُرْمة هذا شهر رمضان؛ فتعظيمك لرمضان هو من تعظيمك لشعائر الله، وتعظيمك لشعائر الله هو من تعظيمك لله تعالى، وتعظيمك لله تعالى هو من تحقيقك للتوحيد، قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]، وهذا من حقيقة توحيد الله في أسمائه وصفاته، قال تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة:74].
أيها المؤمنون بالله الخالق: إنّ من عجيب تحقيق التوحيد في رمضان، هو؛ ما جعله الشارع من ارتباط دخول رمضان، وثبوته، ووجوب صومه، بحركة هذا الكون المادي. حيث أناط الشرع ثبوت شهر رمضان برؤية الهلال، وهذا فيه تحقيق لتوحيد الله تعالى في ربوبيته حيث حركة القمر وتغيّره وخفاؤه وظهوره، وتحقيق لتوحيد الألوهية حيث وجوب الالتزام بالصوم حينما يبان هلال شهر رمضان؛ فالله أكبر، كيف يحقق المؤمن توحيد الربوبية؛ حينما يعتقد بالخالق مسيرا للقمر ومنظما لحركته، وكيف يحقق توحيد الألوهية حينما يطيع ربه؛ فيصوم الشهر حينما يظهر هذا القمر هلالا؛ فاجتمع هنا خلق الكون(القمر) وتشريع الأمر(الصيام)؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في الحديث الصحيح: "إذا رأيتموهُ-القمر هلالا- فصوموا"، وقال الخالق -سبحانه-: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة:189]؛ فسبحانك ربي ما أعظمه، وما أعظم شأن التوحيد وحقائقه العجيبة.
أيها المؤمنون: إن حقائق التوحيد العظيمة التي تتحقق في رمضان، وتظهر في صيامنا لرمضان، هي مخالفة أهل الكفر وأهل الضلال وعدم التشبه بهم.
نعم؛ فالمؤمنون بالتزامهم بأحكام الصيام واتباعهم للهدي النبوي، يكونون بذلك أمّة متميزة، لها هويّتها، لا تقع بالتشبّه مع أهل الكفر في تديّنهم وتعبّدهم وتنسكّهم، بل يكونون أمة لها خصوصيتها في تحقيقها لعبودية ربها وتوحيده.
ومن ذلك اتباع الشرع في تعجيل الإفطار وعدم تأخيره؛ وذلك من أجْلِ أن نخالف اليهود والنصارى في ذلك؛ ففي الحديث المتفق عليه؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"، وفي السنن وصححه النووي وغيره عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، إن اليهود والنصارى يؤخرون".
قال شراح الحديث: الحديثان "يدلان على مشروعية تعجيل الإفطار، وفيه مخالفة لليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا يؤخرون الإفطار، ولهذا أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- على تعجيل الفطر في أحاديث كثيرة؛ كي لا يقع المسلمون في التشبه بهم، وقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر وإسناده جيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من تشبّه بقوم فهو منهم).
وقال ابن تيمية: "وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون، وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى".
وإذا كان مخالفتهم سببا لظهور الدين؛ فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله؛ فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة"، وفي الحديث كذلك ردّ على الروافض الذين يؤخرون الفطر حتى تظهر النجوم، وعند ابن خزيمة وابن حبان عن سهل مرفوعاً: "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر النجوم" (صححه ابن خزيمة وابن حبان).
أيها المؤمنون: هل تعلمون أنّ تحقيق التوحيد في رمضان؛ يكون في سحورك أيها المؤمن؛ نعم، هل تعلم أيها المؤمن أن سحورك فيه مقام من مقامات التوحيد، وذلك بمخالفتك لأهل الكتاب وعدم التشبه بهم في تديّنهم وعباداتهم، وهذا من أعظم جوانب تحقيق التوحيد؛ فتأمّل معي ذلك في الحديث الذي يرويه مسلم أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فَصْلُ مَا بَينَ صِيامِنَا وصِيَامِ أَهْلِ الكِتَابِ أَكَلَةُ السَّحَر".
قال النووي: "مَعْنَاهُ: الْفَارِق وَالْمُمَيِّز بَيْن صِيَامنَا وَصِيَامهمْ السُّحُور؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَسَحَّرُونَ وَنَحْنُ يُسْتَحَبّ لَنَا السُّحُور، وَأَكْلَةُ السَّحَرِ هِيَ السَّحُور".
وجاء في تحفة الأحوذي: "وَالْمَعْنَى أَنَّ السُّحُورَ هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهُ لَنَا إِلَى الصُّبْحِ بَعْدَمَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْنَا أَيْضًا فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يَنَامُوا أَوْ مُطْلَقًا، وَمُخَالَفَتُنَا إِيَّاهُمْ تَقَعُ مَوْقِعَ الشُّكْرِ لِتِلْكَ النِّعْمَةِ".
وقال ابن تيمية: "وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع"؛ فالسحور مِنْ خَصَائِصِ هَذهِ الأُمَّةِ في صَوْمِها، وفيه تحقيق للتوحيد، ففي فعله مُخالَفَةً لأهْلِ الكِتابِ؛ لأَنَّهُم لا يَتَسَحَّرُون، ومُخَالَفَتُهُم أَصْلٌ عَظِيمٌ من أُصُولِ دِينِنا؛ ولِذا حُرِّمَ التَّشبُّه بهم في شَعَائِرِهِم ومَا اخْتُصُّوا به مِنْ عَادَاتِهِم وأخْلاقِهِم.
أيها المؤمنون: إن من حقائق التوحيد المرتبطة بشهر رمضان؛ اليقين بما يحدث من أفعال الله في عوالم الغيب؛ فبسبب دخول رمضان يجري الله تعالى أحداثا غيبية عجيبة، يجب علينا تصديقها والجزم بحدوثها. وهذا كما أخبر به الوحي؛ ففي الحديث الصحيح أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ"؛ فهنا نوقن يقينا جازما بربوبية الله تعالى للعالمين، ومن ذلك أنه يحدث تغييرا لعالَم الجنة والنار في رمضان؛ فتفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار، كما تظهر قدرة الله تعالى العظيمة في تقييده لعالم الجن؛ حيث تصفّد الشياطين وتغلّ بالقيود، وكلّ هذا من أفعال الله تعالى التي هي من ربوبيته، وأسمائه وصفاته الدالة على أفعاله وإرادته وقدرته وقوته -سبحانه- وتعالى. والمؤمن الصائم يصدق بحدوث ذلك كله في عالم الغيب رغم أنه لا يراه بل يقينا بالوحي وإيمانا بالله وصفاته -سبحانه-.
يا أيها المؤمن: ومن تحقيقك للتوحيد في صيامك رمضان؛ معرفتك اسم الله الغفور، وتصديقك بصفة المغفرة وآثارها الواقعة لك بسبب صيامك وقيامك؛ فمن توحيد الأسماء والصفات الظاهرة في صيامنا لرمضان، توحيد الله باسمه الغفور؛ فكما في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"؛ فهنا من تحقيق الصائم للتوحيد أن يصدق بمغفرة الله تعالى التي هي من تجليات وآثار اسمه الغفور جزاء على صيام العبد وجزاء على قيامه شهر رمضان. فمن التوحيد أن نثبت لله اسم الغفور وصفة المغفرة وآثارها في حق من يصوم ويقوم من مغفرة الذنوب.
عباد الله: ومن تحقيقنا للتوحيد في صيامنا رمضان، أن نعتقد أن الله تعالى ليس بحاجة إلى صيامنا، حتى لو كان صيامنا مبرورا. بل نحن الفقراء إلى الله تعالى، ولذلك لا بد أن نفهم معنى الحاجة المنسوبة إلى الله في أحاديث الصيام فهما سليما؛ ففي صحيح البخاري أن رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"؛ فلا يفهم من الحديث أن من ترك قول الزور والعمل به؛ فإن الله بحاجة لصيامه.
يقول العلماء في فقه الحديث: "قوله (فليس لله حاجة): "هذا لا مفهوم له؛ فلا يقال يفهم منه أنه إذا ترك قول الزور والعمل به والجهل فلله فيه حاجة. هذا الحديث لا مفهوم له؛ لأن الله غني عن العباد، قال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15].
فالله غني غنىً مطلقاً من جميع الوجوه؛ فلا يحتاج ربنا -جل وعلا- إلى أحد من عباده، وإنما خلقهم ليعبدوه لم يخلقهم من قلة؛ فيستكثر بهم، ولا من ضعف ليستنصر بهم، ولا من وحشة؛ فيستأنس بهم؛ فمن ظن هذا فقد ظن بربه ظن السوء، وهذا من أقبح أنواعه وهو كفر باتفاق أهل العلم؛ فالمعنى إذاً أن من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فالله غني عن إمساكه عن الطعام والشراب"؛ فهذا من تحقيق التوحيد في صيامنا، أن نفقه أن الله لا يحتاج إلى صيامنا وإن كان صيامنا يُرضيه -سبحانه- عنا.
عباد الله: ومن تحقيقنا للتوحيد في صيامنا رمضان؛ أن نعتقد أن الله تعالى يطعم الصائم الذي يأكل ناسيا، ويسقي الصائم الذي يشرب ناسيا، وهذا من توحيد الربوبية الذي من معانيه تدبير الله تعالى أمور الخلق. ففي الصحيح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَسِىَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ"، وفي رواية الترمذي: "فإنما هو رزق رزقه الله"؛ فنعتقد اعتقاد جازما أن هذا من ربوبية الله تعالى لعباده الصائمين؛ فهم يَنْسُون بإذنه، وهم يأكلون ويشربون حال نسيانهم هذه بتقدير الله وإذنه وإطعامه -سبحانه- لهم وسقياه لهم، بأن يسّرَ لهم ذلك ورزقهم إياه وساقه إليهم كما ساقهم إليه، قال تعالى حكاية عن إبراهيم -عليه السلام-: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء:78-79].
عباد الله: ومن تحقيقنا للتوحيد في صيامنا رمضان؛ أن نوحّد الله تعالى باسمه الرحمن وبصفته الرحمة، وذلك من توحيد الأسماء والصفات، وهذا النوع من التوحيد ظاهر؛ فيما شرعه الله تعالى من الرخص الرمضانية لعباده المكلفين بالصيام؛ فهو من رحمته -سبحانه- رخّص لأصحاب الأعذار الفطر في رمضان ولم يكلفهم فوق طاقتهم؛ فجعل الرخصة بالإفطار للمسافر وللمريض ولكبير السن العاجز ولمن يلحق بهم ممن لا يطيقون الصيام، قال تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185]، وفي صحيح مسلم عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِىِّ أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ بي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ في السَّفَرِ فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هي رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ".
عباد الله: ومن تحقيقنا للتوحيد في صيامنا لرمضان؛ أن نصدق بأن الله تعالى يُصلّى على عباده الذين يتسحّرون، وصلاته عليهم هي ثناء منه -سبحانه- عليهم، وهذا من توحيد الله تعالى في صفاته وأفعاله؛ ففي الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان وصححه الألباني، قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ ومَلائِكتَهُ يُصَلُّونَ عَلى المُتسَحِّرِين".
عباد الله: ومن تحقيقنا للتوحيد في صيامنا لرمضان؛ أن نتعبد الله تعالى بعبادة الدعاء، والدعاء من أعظم حقائق توحيد الألوهية، وله أفضليته الكبرى في رمضان، حيث للصائم دعوة مستجابة، وهذا كما في مسند أحمد وإسناده صحيح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لكُلِّ عَبدٍ مِنْهُم دَعوَةٌ مُستَجَابَةٌ)، قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60].
أيها المؤمنون: إن من حقائق التوحيد العظمى المرتبطة بالصيام؛ أن يصدق العبد الصائم تصديقا جازما بأنه سوف يفرح فرحة خاصة عند اللقاء بالله -سبحانه- تعالى، وهذه الفرحة سببها صومه لرمضان بشكل خاص، وهذه الفرحة يفرحها لما يقابل الكريم -سبحانه- في الدار الآخرة؛ ففي صحيح البخاري، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ".
قال ابن رجب: "فيما يجد عند الله من ثواب الصيام مدخراً فيجده أحوج ما كان إليه".
وقال النووي: "وأما فرحته عند لقاء ربه فبما يراه من جزائه وتذكر نعمة الله تعالى بتوفيقه لذلك".
أيها المؤمنون: وإنّ من حقائق التوحيد العظمى التي انطوى عليها شهر رمضان هي: حقيقة التصديق بجزاء الصيام الغيبي، بجزاء القيام بالتوحيد العملي، وهو العمل بفريضة الصيام، وهو تخصيص باب للصائمين من أبواب الجنة الثمانية واسمه باب الريّان.
وهذا الجزاء من الغيب الذي ادخره الله لعباده الصائمين؛ فنحن نؤمن بذلك ونعتقد به تصديقا بخبر الوحي الغيبي، وهذا من التوحيد، ومن التصديق بجزاء أهل التوحيد؛ ففي صحيح البخاري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ في الْجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي