وصايا نبوية اجتماعية سامية

خالد بن عبدالرحمن الشايع
عناصر الخطبة
  1. تنظيم الإسلام لمعاملات الناس وضبطه لتصرفاتهم .
  2. شرح حديث: "إنَّ الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات..." وبيان معانيه ودلائله ومقاصده .

اقتباس

إنَّ الشريعة تضبط تصرفات أفراد المجتمع المسلم؛ ذلك بأنْ يكون كلامهم فيما فيه النفع والخير، وأما تلقي الكلام الذي لا فائدة منه وإشاعته، فهذا أمرٌ مرفوضٌ في الشريعة، وقد يكون هذا الكلام من قبيل النميمة والغيبة والكذب، وقد يكون أقل من ذلك، ربما يكون كلامًا يُدار في المجالس ليس بمحرم لكن لا فائدةَ فيه، والمؤمن يَضِن بحياته، ويَضِن بوقته عن...

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله، نَحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعدُ: فلا ريبَ أنَّ الهدي النبوي قد جاء للناس بتنظيمِ معاملاتهم وضبطِ تصرفاتهم؛ حتى يصيروا إلى الخير، ويمتنع عنهم كل شرٍّ وضُر، وفي سياق هذه التوجيهات الكريمة من لَدُن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، روى البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الأدب من جامعه الصحيح عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "إنَّ الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكَرِه لكم قيلَ وقال، وكثرةَ السؤال، وإضاعةَ المال".

هذه التوجيهات النبوية التي نسَبها إلى ربه -جل وعلا- وهو الصادق المصدوق، وذلك لأهميتها وعظيمِ حاجة الناس إليها؛ فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات"، قد عَلِمَ أهلُ الإسلام أنَّ عقوق الوالدين من الكبائر، والعقوق هو إدخال كل ما فيه ضررٌ نفسي أو فعلي أو قولي على الوالدين.

وقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة المعظِّمةُ لشأن الوالدين المحذِّرةُ من عقوقهما، حتى إنَّ ربنا -جل وعلا- قرَن برَّ الوالدين والإحسانَ إليهما بطاعته وتوحيده جل وعلا: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء: 23].

وهنا يلتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جزءٍ عميقٍ في قضية بر الوالدين وتحريم عقوقهما، حينما ينصُّ على أنَّ الله -جل وعلا- حرَّم عقوق الأمهات، لا ريب أنَّ عقوق الآباء محرَّم، لكنه نصَّ هنا على تحريم عقوق الأمهات لمزيد العناية؛ ذلك أنَّ الأم لها حقٌّ عظيم، حقُّها مقدَّمٌ على حقِّ الأب بالنظر إلى ما تعانيه وتكابده بالحمل والوضع والرضاعة، ثم يأتي الأب ليشاركها الأمر الرابع وهو التربية.

ولذا جاء في الحديث المشهور المعروف، حينما سأل الصحابيُّ -رضي الله عنه- النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك، أمك، أمك"، ثم قال: "أبوك"؛ ذلك أنَّ الأم -في الغالب- يستقصرُ الولد جِدارها، ويَستضعف جنابها، وفي الغالب -أيضًا- أنَّ الأب يكون له هيبةٌ تمنع الولد العاق من أن يتمادى في عقوقة، لكن الأم يستصغر الولد شأنها، ولذلك كثيرًا ما يرفع صوته عليها، أو يحتال عليها، أو يتناسى حقها، أما الأب فهو يتحاشى أنْ يواجهه بالتقصير؛ فيبادر بزيارته، والاتصال عليه، والتلطف في الحديث معه، وإعطائه المال، لكنَّ الأم ربما قصَّر في زيارتها أو الاتصال عليها، أو إعطائها المال، أو إقامة هيبتها، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات".

وأدبٌ ثانٍ "ومنعًا وهات" وهذا من جوامع كَلمه -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله حرم عليكم عقوق الأمهات، وحرَّم عليكم منعًا وهات" قال العلماء: المعنى في هذا النص النبوي الكريم خلاصته: أنَّ الله -تعالى- حرَّم على الإنسان أنْ يمنع ما وَجَب عليه؛ وهذه الواجبات والحقوق جاءت الشريعة ببيانها، وهي كثيرةٌ جدًّا منها نحو ربه -جل وعلا-، ومنها نحو نفسه، ومنها نحو الآخرين، فواجب عليه أنْ يؤديَ عبادة الله -سبحانه وتعالى- وتوحيده كما أمر -جل وعلا-، لا أنْ يمتنع عن هذا الواجب الأساس العظيم، وحرامٌ عليه أنْ يمنع حقَّ نفسه؛ لأنَّ بعض الناس ربما توجَّه للإضرار بنفسه، ولذلك لَما زار النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد الصحابة، وفي رواية أخرى: زاره أحد الصحابة، صحابي زار أخاه، فوجده منصرفًا عن الدنيا بالمرة، فهو صاحب قيام ليل وصوم نهار، رثِّ الحالة، لا يلتفت لأهله، ولذا جاء التوجيه: "إنَّ لنفسك عليك حقًّا"، هذه النفس لا يملكها الإنسان مُلكًا مطلقًا، وإنما يملكها بأن يتصرف فيها كما أمر الله -جل وعلا-.

ولذلك يُخطئُ هؤلاء الذين يتوجَّهون للانتحار حين يقررون إنهاء حياتهم، والله -جل وعلا- يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [النساء:29-30]؛ فلا يمنع الإنسان الحقوق الشرعية التي أوجبها الله -تعالى- اتجاه نفسه، وأيضًا الحقوق الأخرى نحو الآخرين، وكل أحدٍ بيَّنت الشريعةُ حقَّه، لن تجد أحدًا يعيش معك في هذه الحياة إلا والشريعة الإسلامية قد بيَّنت حقه: حق الوالدين، حق الجيران، حق الأصدقاء والزملاء، حق الجلساء، حق الطريق، حق ولاة الأمر، حق غير المسلمين، حق الحيوان؛ فليس الإنسان متصرفًا كما يريد، فلو تعدى وظلم حتى ولو على الحيوا، فإنه مؤاخَذ، وقد تبلغ هذه المؤاخذة إلى حدٍّ يدخل به النار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دخلت امرأةٌ النارَ في هرة -بسبب هرة- حبستها لا هي أطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"؛ فالإنسان مضبوطةٌ تصرُّفاته على نظام دقيق.

ومن عجيب هذا النظام الرباني: أنَّ المتابعة فيه دقيقة، ليست بالكاميرات ولا بالشهود من النَّاس الذين ربما يغفلون، ولكنْ أعظم من ذلك أنَّه الرب -جل وعلا- المطَّلع حتى على السر وأخفى؛ فالإنسان الذي يضمر أمرًا لن يستطيع الناس أنْ يطَّلعوا عليه، لكن ربك -جل وعلا- مطَّلعٌ على هذا السر، ثم أوكل به ملائكةً لا يغفلون عنه لحظة إلى آخر رمق في حياته، وهذا من بديع هذا النظام الرباني الذي يضبط هذه التصرفات؛ فحرامٌ على الإنسان أنْ يمنع ما وجب عليه، وأيضًا حرامٌ عليه أن يأخذ ما لا يصح له أخذه "منعًا وهات"، فلا يجوز للإنسان أنْ يقول: هات، بأن يأخذ ما لا يصح له، محرَّمٌ عند رب العالمين، وهذا من أعظم ما يضبط تصرفات الناس، أنهم مُرَاقبونَ من الله -جل وعلا-.

وقد وقع في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ صحابيًّا كُلِّف بجمع الصدقة، فأرسل إلى الأنحاء والمدن، فكان كلما مرَّ على أهل قرية؛ ليجمع الزكاة التي أوجب الله -جل وعلا-، أكرموا ضيافته؛ لماذا؟ لأنَّه مبعوث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا أعطوه الزكاة من مال أو من النَّعَم من شياهٍ وإبلٍ وبقر، قالوا له: تفضل هذه هدية لك، فأنت بمقام عظيم، أنت مبعوث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان هذا الصحابي لا يعرف الحكم في مثل هذا التصرُّف، واجتهد ورأى أنَّه حقيقٌ بهذا المال، فلما رجع إذا به يخرج هذا المال، ويقول: هذا لكم -هذه الصدقات- وهذا لي أُهديته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفلا جلست في بيت أبيك أو أمك، فتنظر هل يُعطيك الناس أو لا يعطوك".

ثم خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- خطبةً موجهةً للأمةِ جمعاء في زمانه، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهي موجهةٌ إلى كل موظَّف كبُرت مرتبته أو دنَت، من منصب الرئيس والأمير والخليفة، ومن دونه ما دام في وظيفة عامة، في إدارة أمر من أمور المسلمين، أنَّه لا يجوز له أنْ يأخذَ بمقتضى هذا المنصب ما لا يجوز له، لك مرتبُك الذي تُعطاه في مقابل هذا، بعدها لا يُخوِّلك هذا المنصب أن تأخذ ولو بمقدار وقيمة الإبرة، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من كلَّفناه بشيء، فليأتنا به مهما صَغُر، ومن أخذ وراء ذلك، فهو من جمرِ النار يأخذه"، أو كما صح عنه -عليه الصلاة والسلام-.

فسمع هذا أحد أمراء الرسول قال: أعد عليَّ يا رسول الله، فأعاد عليه، قال: هنا أتوقف أستقيل، فلن أستطيع القيام بذلك، قال: نعم يجب أن يؤدِّي هذا الواجب، ولا يأخذ في مقابله إلا ما افُترِض له، فبقي هذا النظام ولا زال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ومن العجيب: أنَّ بعض الأنظمة عند بعض الدول الأوروبية استقت هذا النظام النبوي، ففرضوا على رئيس الوزراء أنَّه إذا قدمت له هدية تزيد عن مقدار معين قرابة الخمسين باوند، فإن ما زاد يرجع إلى خزينة الدولة، وذلك لأنه أخذه بمقتضى منصبه لا بمقتضى اسمه: "وحرَّم عليكم منعًا وهات".

ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات"، ووأد البنات كان أمرًا شائعًا في الجاهلية، قال بعض العلماء: إنَّه كان في بعض قبائل العرب، وكان أول من ابتدعه رجلٌ حَنِقَ على بنته وهو قيس بن عاصم التميمي، أغار عليه بعض أعدائه وسَبى نساءه، ومنهم ابنته، ثم إنهم بعد ذلك حصل بينهم صلح، فجيء إلى هذه البنت التي سُبِيت وخيِّرت أن ترجع إلى أبيها وقبيلتها، أو تختار هذا الزوج الذي سباها، فاختارت زوجها، وأنفت رجوعًا إلى أهلها وقبيلتها، فحلف قيس بن عاصم أنَّه إذا وُلِدت له بنت أنْ يدفنها حيَّة، وتبعه على ذلك طوائف من العرب، وكان ثمةَ فريقٌ ثانٍ من العرب يقتلون حتى الأولاد الذكور مطلقًا، وذلك خشية الفقر والعالة، ولذلك أنكر الله عليهم في القرآن الكريم: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام: 151].

ولذلك حُمِد لجدِّ الفرزدق وهو صعصعة بن ناجية التميمي أنَّه أول من سعى إلى فك الْمَوْؤُودات، وذلك أنَّه كان يَعمِد إلى الأب الذي يريد أن يئد بنته فيفتديها، وهذا ما أشار إليه الفرزدق بقوله:

وجدي الذي منع الوائدات *** وأحيا الوئيد فلم يُوأدِ

وهذا الأمر يتكرر في بعض صورِهِ في حياتنا المعاصرة، وذلك بالوأد النفسي للبنت؛ إما بإطلاق العنان لها بأنْ تفعل ما شاءت مما يسمى الحرية؛ فتتعاطى الفحش أو مقدماته، فيرتضي الأب من أهل الإسلام وللأسف الشديد أنْ تتعاطى بنته أمورًا محرمة مما يهدُّ أركانَ الفضيلة، بحيث تظهر متبرجةً كاشفةً عن عورتها المحرمة بإجماع المسلمين؛ بأن تلبس إلى الركبة إلى ما فوق ذلك، تخالط الرجال وتختلي بهم، يكون لها الصديق تذهب معه وتجيء، ولا يحرك فيه ذلك ساكنًا، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله حرَّم الجنة على الديوث" قيل: من هو؟ قال: "الذي يرضى ويقرُّ الخبث في أهله".

وهذا الأمر -أيها الإخوة- ينشط لدى فئات ممن أعلنوا الإلحاد، يوجد بعض الطوائف الذين يرفعون راية الإلحاد، ويفتخرون أنهم ملحدون عرب، أو ملحدون على الإسلام فيما قيل، ومن طقوسهم تبادل المحارم، تبادل الزوجات، إلى غير ذلك.

ومن صور الوأد أيضًا للبنت نفسيًّا: أنْ يمنعها حقوقها، فتجدُ بعضَ الآباء يكون حجر عثرةٍ في طريق بنته أن تتزوج الكفؤ، وتبلغ من العمر ما تبلغ ويمنعها من الزواج، والسبب في ذلك هو خطأٌ في التصرف وجهلٌ في فَهم الشريعة؛ لأنَّ مقتضى الولاية للإنسان على النساء أنْ يكون ساعيًا في ما فيه الخير لهنَّ أن يحمي حقوقهنَّ لا أنْ يتسلط عليهن، ولذلك نسمع عن بعض النساء اللاتي يبلغن من السن مبلغ العنوسة، وأبوها يمنعها الزواج لحجةٍ من الحجج الداحضة، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكَرِه لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: قوله -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث الذي يسن نظامًا كريمًا في تعامل الناس: "إنَّ الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات"، ثم قال: "وكَرِه لكم قيل وقال".

إنَّ الشريعة تضبط تصرفات أفراد المجتمع المسلم؛ ذلك بأنْ يكون كلامهم فيما فيه النفع والخير، وأما تلقي الكلام الذي لا فائدة منه وإشاعته، فهذا أمرٌ مرفوضٌ في الشريعة، وقد يكون هذا الكلام من قبيل النميمة والغيبة والكذب، وقد يكون أقل من ذلك، ربما يكون كلامًا يُدار في المجالس ليس بمحرم لكن لا فائدةَ فيه، والمؤمن يَضِن بحياته، ويَضِن بوقته عن أنْ يتكلم في شيء لا فائدة ولا خير منه، فتأتي الشريعة؛ لتبني أخلاقيات هذا المجتمع على أنْ يكون كلامهم وحديثهم فيما فيه الخير.

واليوم مع سهولة التواصل عبر الجوال والنُّظم التي تُلْحَق به، مما هو معلوم من شبكات التواصل الاجتماعي أو غيرها؛ كَثُر الكلام حتى لو أنَّ حروف هذا الكلام صُفَّ بعضها إلى بعض لجاوزت طباق السماء، كلامٌ هو ضجيجٌ صوتي يؤذي النفوس والأخلاق قبل أذية الآذان، ولذلك فالمؤمن يضبط الكلام الذي يصدر منه؛ فلا يتكلَّم إلا بالخير، والنبي -صلى الله عيه وسلم- يقول: "كفى بالمرء كذبًا أنْ يحدِّث بكل ما سمع".

وهذا ميزانٌ في الضبط والتأكد من مدى عقل الإنسان، قد تجدُ الشخص يتكلم بكلام لا زمام له ولا خطام، هذا دالٌّ على عقله، ولذلك لما تحدَّث أو كتب بعض الناس عبر هذه الوسائل، ظهر منهم مدى ما عندهم من العقل والفكر، ولذلك لا يزال الإنسانُ محترمًا ما دام صامتًا، فإذا تكلم أنبأ عن حقيقة عقله، ما لم يكن الكلام واجبًا عليه فلا يجوز له أنْ يسكت.

أُثِر أنَّ الإمام أبا حنيفة -رحمه الله- كان في درسه، فحضر شاب عليه هيئةٌ حسنةٌ موقَّرة، لباسٌ جميل ومنظرٌ لطيف، وكان أبو حنيفة -رحمه الله- قد مدَّ رجله ربما لألمٍ أو غير ذلك، فاحتشم من هذا الشاب الغريب، وكفَّ رجلَه تقديرًا له، فإذا بهذا الشاب يسأل الإمام أبا حنيفة ويقول: يا إمام، إذا اجتمع رمضان والحج فأيهما يُقدَّم؟ فكان جواب أبي حنيفة -رحمه الله- أنْ قال: آن لأبي حنيفة أن يمدَّ كلتا رجليه على هذا السؤال الذي يدلُّ على عقل هذا الرجل الذي احتشمه أول الأمر، "وكره لكم قيل وقال"، فالإنسان يضبط حديثه وتصرفه.

وقال: "وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال"، قال العلماء: كثرة السؤال قد يُراد بها ما كان يُسأل عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما قال الله -تعالى-: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101]، وكما كان الصحابة يتحاشون أنْ يكثروا السؤال على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وقيل: المراد به كثرة السؤال، سؤال الإنسان المال؛ كما جاءت الأحاديث منفرة من أن يسأل الإنسان الناس أموالهم: "لا يزال الرجل يسأل الناس أموالهم، حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعةُ لحم"؛ لأنَّ هذا من خوارم المروءة.

وقيل: إن الأمر أشمل من ذلك، فيعم بالإضافة إلى ما تقدَّم ما قد يقع من بعض الناس من الفضولية الزائدة، بأنْ يسأل عن كل شاردةٍ وواردة، يلتقي بالشخص، فيقول: من الذي كان معك؟ أين كنت؟ من أين أتيت بهذه السلعة؟ كيف تصنع بهذا الأمر؟ كثرة السؤال التي فيها فضوليةٌ منفِّرة، فالإنسان يحترم الآخرين وخصوصياتهم.

قال: "وإضاعة المال" أيضًا هذا المال الإنسان مفوَّضٌ فيه، ليس له أن يتصرَّف كيف ما شاء، بل فيه حقوق وواجبات، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي -رحمه الله- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لن تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟"؛ فإضاعةُ المال منهيٌّ عنها، ولذلك قال ربنا -جل وعلا- في كتابه الكريم: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء:5]، لا يصلح من الإنسان ولا يصح أنْ يجعل المال في يد سفيه لا يضبط هذه النفقة.

ولذلك يُخطئ البعض حينما يجعل المال في يد ولده، كلما طلب أُعْطِي، فهذا يجعله لا يقدِّر المال، وأيضًا ينفقه فيما قد يضره؛ فهذا من الأمور التي توجب على المسلمين أنْ يجعلوا أموالهم منفقةً في مواضعها، بعيدًا عن السرف، بعيدًا عن أنْ يجعل هذا المال فيما يسخط الله -جل وعلا-، بعيدًا عن السرف والتبذير، وقد نهى الله عنهما في كتابه الكريم.

وبعد -أيها الإخوة الكرام-: فهذا النصُّ النبويُّ العظيم الذي جمع هذه الآداب العالية والتي يُحتاج إلى أن يتوقف عند كل واحدة منها ساعات وساعات، لكنْ هذه إشارة مجملة، فما أبلغَ هذا الحديث النبوي: "إنَّ الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".

ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا الله بذلك، فقال عزَّ من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.

اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهدهم إلى سواء السبيل، اللهم اجعلهم رحمة على رعاياهم يا رب العالمين.

اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين في اجتماعهم القادم إلى ما فيه رخاء شعوبهم ودفع الضرِّ عنهم يا رب العالمين.

اللهم احقن دماء إخواننا المسلمين في سوريا وفي مالي، وفي غيرها من البلاد، اللهم ادفع عنهم كيد الأشرار وظلم الفجَّار يا عزيز يا غفار.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارًا.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 181 - 182].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي