وقد اشتهر على كثير من الألسنة فضائل كثيرة لشهر رجب، بناء على أحاديث، يصفها العلماء المنصفون بأن الصحيح منها غير صريح، والصريح منها ضعيف أو موضوع؛ لهذا اشتدت حاجة الناس إلى معرفة الخطأ من الصواب، والتمييز بين الحق والباطل، والتفرقة بين ما هو سنة هدى صحيحة، وما هو بدعة ضلالة قبيحة
نعيش هذه الأيام مع الثلث الأول من شهر حرام هو شهر رجب، وهو أحد الأشهر الحرم الأربعة، التي قال الله -عز وجل- عنها في كتابه العزيز: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) [التوبة:36]
بمعنى أن الله -سبحانه وتعالى- لما ابتدأ خلق السماوات والأرض جعل السنة اثني عشر شهراً منها أربعة حرم، وقد فصلها النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في حجة الوداع، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ".
وقد اشتهر على كثير من الألسنة فضائل كثيرة لشهر رجب، بناء على أحاديث، يصفها العلماء المنصفون بأن الصحيح منها غير صريح، والصريح منها ضعيف أو موضوع؛ لهذا اشتدت حاجة الناس إلى معرفة الخطأ من الصواب، والتمييز بين الحق والباطل، والتفرقة بين ما هو سنة هدى صحيحة، وما هو بدعة ضلالة قبيحة.
وقد أبدى بعضهم لما استقر عليه الحال من ترتيب هذه الأشهر الحرم مناسبة لطيفة حاصلها أن للأشهر الحرم مزية على ما عداها، فناسب أن يبدأ بها العام (المحرم)، وأن تتوسطه (رجب)، وأن تختم به (ذو القعدة وذو الحجة).
وإنما كان الخَتم بشهرين لوقوع الحج ختام الأركان الأربع في هذين الشهرين؛ ولما كانت أركان الإسلام تشتمل على عملِِِِ مالٍ محض وهو الزكاة، وعملِِ بدنٍ محض وذلك تارة يكون بالجوارح وهو الصلاة وتارة بالقلب وهو الصوم لأنه كف عن المفطرات، وتارة عملٍ مركبٍ من مال وبدن وهو الحج، فلما جمعهما الحج (عمل المال وعمل البدن) - ناسب أن يكون له ضعف ما لواحد منها، فكان له من الأربعة الحرم شهران، فكان الحاصل الابتداء بشهر حرام، ويختم بشهر حرام، وتوالى شهران في الآخِر لإرادة تفضيل الختام.
وقد عرف العرب في جاهليتهم فضل شهر رجب الحرام فعظموه ومنعوا فيه الحروب والخلافات العصبية والقبلية، وخلدوا فيه إلى السلم والسلام، ثم جاء الإسلام ليؤكد ويبين مكانة شهر رجب بين الأشهر الحرم؛ فنرى الحديث المذكور يشير إشارة إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من النسيء، وهو تأخير أو تقديم بعض الأشهر الحرم، فلذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ" ووصفه -صلى الله عليه وسلم- بكونه "بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ" تأكيداً لموقعه بالنسبة لأشهر السنة، التي بدلوها بسبب النسيء.
وقال الخطابي: "كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم، والتقديم والتأخير؛ لأسباب تعرض لهم منها: استعجال الحرب فيستحلون الشهر الحرام، ثم يحرمون بدله شهراً غيره فتتحول في ذلك شهور السنة وتتبدل، فإذا أتى على ذلك عدة من السنين استدار الزمان وعاد الأمر إلى أصله"، وقد اتفق وقوع حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: "إن الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ".
وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب؛ فلهذا أضيف إليهم في الحديث المذكور حيث قال: "وَرَجَبُ مُضَرَ" والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى إلا أنهم ربما أنسأوها ولم ينسأوا رجبا.
ومن مظاهر تعظيمهم للشهر الحرام -قديماً وحديثاً- خلاف منعهم فيه الحروب والخلافات العصبية والقبلية:
1 - ما يعرف بالعتيرة: وهي شاة تذبح في أول رجب في معنى الأضحية، كانوا يذبحونها في الجاهلية يتقربون بها إلى أصنامهم.
2 - اتخاذه موسماً وعيداً: وقال ابن رجب: "ويشبه الذبح في رجب اتخاذه موسماً وعيداً كأكل الحلوى ونحوها".
3 - صيام أيام معينة أو تخصيصه بصلاة معينة: قال الإمام ابن القيم: "وكل حديث في ذكر صوم رجب وصلاة بعض الليالي فيه فهو كذب مفترى".
وقال الحافظ بن حجرالعسقلانى: "لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة"، ثم بين الحافظ ابن حجر مذهبه: وهو عدم العمل مطلقاً بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ولا غيرها، حيث قال: "ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام أو في الفضائل؛ إذ الكل شرع".
والحقيقة أن هذه قاعدة فقهية هامة يجب أن يلتزم بها المسلم الذي يحرص على سلامة دينه.
وقال -أيضاً-: "الأحاديث الصريحة الواردة في فضل رجب، أو فضل صيامه، أو فضل صيام شيء منه، تنقسم إلى قسمين: قسم ضعيف وقسم موضوع، وقد جمع -رحمه الله- الضعيف فكان أحد عشر حديثا، وجمع الموضوع فكان واحدا وعشرين حديثا 11+ 21 = 32 حديث بين الضعيف و الموضوع ".
مما سبق يتضح أن شهر رجب من الأشهر المحرمة التي ثبتت حرمتها، وهذا هو الفضل الوحيد الثابت له بالكتاب والسنة، ولكن طاب لبعض المبتدعة أن يزيدوا على ما جعله له الشارع من مزية، باختراع عبادات واحتفالات ما أنزل الله بها من سلطان، بنوها وأسسوها على اعتقادات خاطئة، وأحاديث ضعيفة أو موضوعة في فضل رجب. ولكن ليس معنى هذا أن الصيام في رجب حرام أو بدعة، بل إن من كانت عادته مثلاً صيام الاثنين والخميس، أو من عادته صيام الأيام الثلاثة البيض من كل شهر - فلا حرج عليه في صوم هذه الأيام، باعتبار أنها أيام صيام عادية، لها فضلها العام في جميع شهور السنة، دون أن يربط ذلك بفضل مخصوص يرجع إلى شهر رجب سوى أنه شهر حرام؛ لأن الميزان في إثبات أفضلية شهر أو يوم أو ليلة أو ساعة -كما سبق- هو شرع الله تعالى، فما ثبت في الكتاب والسنة الصحيحة أن له فضلاً نثبت له ذلك الفضل، وما خلا ذلك من الأحاديث الضعيفة التي يأخذ بها البعض فيما يسمونه فضائل الأعمال، فهذا لا يلزم المسلم؛ لأن الذي يحدد ويبين فضائل الأعمال هو الكتاب والسنة الصحيحة، وما عندنا من الكتاب والسنة الصحيحة يغنينا عما في الضعيف والموضوع.
عرفنا أنه من البدع التي استحدثت في رجب: العتيرة: وهي ذبيحة تذبح في رجب علي غرار الأضحية.
اتخاذه موسماً وعيداً: يوسع في بعض أيامه علي العيال بأنواع معينة من الطعام والحلوى.
صيام أيام معينة: مثل صيام أول أيام من رجب أو صيام يوم 27 منه، أو تخصيص الشهر كلِّه بالصيام. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يضرب أكف الرجال في صوم رجب، حتى يضعونها في الطعام، ويقول: "رجب وما رجب؟ إنما رجب شهر كان يعظمه أهل الجاهلية، فلما جاء الإسلام ترك".
تخصيصه بصلاة معينة: كصلاة الرغائب، وهي التي يصلونها في ليلة أول جمعة من رجب بين صلاة المغرب والعشاء، وأيضاً صلاة النصف من رجب.
تخصيصه بعمرة يسمونها "العمرة الرجبية"، والمعروف أن العمرة مشروعة في أيام العام كلها، ولا فضل لعمرة في شهر دون شهر إلا ما ورد في فضل العمرة في رمضان، لقَوله-صلى الله عليه وسلم-: "عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً معي".
الاحتفال بليلة سبع وعشرين: على أساس أنها ليلة الإسراء والمعراج، وهذا الموضوع سنفرد له خطبة مستقلة -إن شاء الله- حرصاً على عدم الإطالة اليوم.
كل هذه من البدع المحدثة التي حذر منها العلماء، والتي لم تثبت عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالإضافة إلى أن فيها تعظيم لشهر رجب على غير ما شرع الله، وتخصيصه بذلك دون غيره من الشهور، والمخصصون له استندوا إلى أحاديث بعضها ضعيف، وكثير منها موضوع كما رأينا.
وحري بالمسلم أن يتبع لا أن يبتدع؛ إذ أن محبة الله -سبحانه وتعالى- ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا تنال إلا بالإتباع لا بالابتداع، قال -عز وجل-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران 31: 32]
لا شك أن حالة الضعف والوهن التي تعيشها الأمة الإسلامية في هذه الأيام، والتي أصبحت فيها دماء المسلمين أرخص حتى من دماء الكلاب، لهو بسبب تخاذلها وبعدها عن كتاب ربها وسنة نبيها-صلى الله عليه وسلم-.
فها هي دماء المسلمين ما زالت تنزف في العراق منذ أن وطئتها قوات التآمر بقيادة راعية قوى الشر والعدوان رعاة البقر، فما من يوم يمر إلا ونشاهد بأعيننا علي الفضائيات مئات القتلى والجرحى، والتدمير والتخريب، على أيدي عصابات القتل الأمريكية، أو العصابات الشيعية العميلة للأمريكان، والملفت للنظر أن الشيعة يتظاهرون برفع راية العصيان على إله الشر الأمريكي، وفي نفس الوقت يستعين بهم الأمريكان في حكمهم للعراق، فماذا يعني ذلك، إن الشيعة أشد خطراً علي الأمة الإسلامية من اليهود، فاعتبروا -أيها المخدوعون- فيهم إن كنتم تعقلون.
وعلى أرض فلسطين المسلمة، نجد الحكومة الصهيونية تقتل وتحاصر وتجوع الشعب الفلسطيني، وتعتقل من تشاء من أجل جندي حقير أختطف، بينما يقبع الفلسطينيون بالآلاف في معتقلات الصهاينة يلاقون أشد العذاب دون أن يحرك ذلك ساكناً لدى مسئول غيور.
وقد رأى العالم وقائع الهجوم الأخير على أسطول المساعدات إلى غزة، كحلقة جديدة من حلقات إعدام مسلمي فلسطين صبراً في سجنهم الكبير غزة، وتضيف واقعة الهجوم عشرة جثث جديدة إلى حصيلة القتلى في الشرق الأوسط، ولم يصدر رد فعل واحد مناسب بحق إسرائيل، ويلتزم الزعماء الصمت إلا من بعض عبارات الشجب والاستنكار والتصريحات العنترية التي لا تغني شيئاً عن واقع الذل والخنوع الذي يعيشه المسلمون في هذه الأيام.
وتتكرر المأساة في لبنان وبتنسيق مكير بين الشيعة والكيان الصهيوني من أجل تدمير لبنان، والدعاية لمذهب الشيعة الذين يتظاهرون برفع راية الجهاد ضد إسرائيل، في حين لم يقتل منهم جندي واحد في حربهم المسرحية مع إسرائيل، بل كان القتلى والجرحى بالمئات من أهال السنة اللبنانيين، كل ذلك يقع على مرأى ومسمع من قادة العرب والمسلمين والجميع بلا حراك.
مؤامرات وانتهاكات كلها تصب في مجرى واحد، وهو الحفاظ على إخوان القردة والخنازير، ولا فرق بين النتنياهو وشارون، وأولمرت وبوش وأوباما.
إن ما يقع بالأمس واليوم في ديار المسلمين على أيدي اليهود والأمريكان وأعوانهم من أعداء الأمة المتربصين بها وسط تقاعس وتخاذل من الجميع، ليدفع الإنسان دفعًا إلى مراجعة فورية مع النفس وذلك باللجوء إلى الله في السراء والضراء والسعة والضيق فما خاب من اتقاه، ولا أيس من رجاه، وما ذل من اعتصم بحماه (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) [النور:55]
على كل منا أن يعمل لتوحيد مصدر التلقي عند الأمة إن نحن أردنا النجاة، بحيث تكون المصدرية متمثلة في كتاب الله -عز وجل-وسنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بفهم سلف الأمة، والعزم على إقصاء كل الشعارات العصبية والأهواء الشخصية، والبدع والمحدثات، كما يجب علينا أن نعترف بخطئنا فيما ارتكبنا ونرتكب من تقصير في جنب الله، وتهميش لشريعته الغراء، حتى ولو كان ذلك فيما نعتبره من السنن والنوافل.
يجب اقتناص الفرصة قبل فوات الأوان، فالناس إن لم يجمعهم الحق شعَّبهم الباطل، وإذا لم توحدهم عبادة الرحمن فرقَّتَهْم غِواية الشيطان، وإن لم يستهوهم نعيم الآخرة اجتالهم متاع الدنيا فتخاصموا عليها وتنافسوها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي