حر الصيف الشديد فيه سبع عبر من وحي السماء

عدنان مصطفى خطاطبة
عناصر الخطبة
  1. أحوال الناس مع حر الصيف .
  2. دروس وعبر من أيام الحر .
  3. المستظلون بظل الله يوم القيامة. .

اقتباس

المؤمن العاقل الذي يؤمن بلقاء الله العظيم، يدرك أن العِبَرة العظمى لنا من هذا الحَرّ الشديد وهذا التوهج المحَرّق للشمس، هو أنك أيها الإنسان لا تقوى على تحمل حَرّ الدنيا البسيط المتواضع؛ فكيف لك أن تتحمل حَرّ الآخرة الذي لا يدانيه حَرّ، بل ولا يقارن بحَرّ الدنيا ولهيب...

الخطبة الأولى:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

أيها المسلمون: تمرّ بالناس أيام وليالي قليلة أو كثيرة؛ يكون فيها الحَرّ شديدا، ومتوقدا ومحَرّقا، لا تقوى أجسام بني آدم على تحمله، وهذا ما بات يعرف علميا في زماننا بالمرتفعات الحَرّارية، أو موجات الحَرّ الشديد، وهذه ظاهرة مناخية كانت وما زالت تصول وتجول بين الناس وعلى وجه الأرض تاركة وراءها العِبَر والآثار والموت الحسي.

أيها المسلمون: الناظر في أحوال الناس في الحَرّ الشديد والشمس المحَرّقة يجدها متباينة، ما بين غافل لا يرى في الحَرّ ّ سوى ارتفاع لدرجات الحرارة، وأنه أمر يتطلب منه البحث عن وسائل الوقاية منها والهروب من أثرها بأي طريقة كانت، وتشتد غفلة البعض حتى تجده يسبّ الحَرّ ويشتم القيظ، وتجد بعض الناس يخرج على الشواطئ بلباس؛ فاضح، فيه قلّة حياء وأدب، بقصد التبرد والتخلص من الحرارة، وهؤلاء لا يرون في الحَرّ الشديد وتوهج حَرّارة الشمس سوى تقلبات الطقس الطبيعية، وهم عن خالقها غافلون.

أيها المسلمون: ولكن المؤمن الحق والمسلم الصادق الذي يؤمن بالله خالقا للكون ومدبرا لأمره كله؛ يفقه أن هذه الحرارة الشديدة، وهذا التوهج المحَرّق للشمس، هو: بقدرة الله وبفعل الله وبتدبير الله، وأنه آية عظيمة من آيات الله يفقه أن في هذا الحَرّ الشديد والمحَرّق عِبَر أرادها الله تعالى، وكشف لنا الوحي عن شيء منها، ويمكن لنا أن نستجلي من حقائق الوحي الصادق من الكتاب والسنة سبع عِبَر عظيمة وآيات مؤثرة.

عباد الله: استمعوا معي إلى أولى رسائل وعِبَر الوحي من هذا الحَرّ الشديد، وهذا التوهج المحَرّق للشمس هو آية عظيمة من آيات الله. ففي البخاري، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ،وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ".

نعم، هذا الحَرّ الشديد وهذا التوهج المحَرّق للشمس هو آية من آيات الله، يدل على عظيم قدرة الله تعالى، وإلا فبالله عليكم، حينما يشتد علينا الحَرّ وتوهج الشمس المحَرّقة، من يستطيع أن يغير الحال، من يستطيع أن يوقف استمرار هذا الحَرّ، من يمتلك القدرة ليقول للحَرّ غادر أو قلّل من حَرّارتك، أو ارجع لوضعك الطبيعي، لو أراد الله لشدة الحرارة أن تستمر لأسابيع وأشهر، هل لذلك من دافع أو رافع أمام مشيئة القادر المقتدر؟

نعم، أمام هذا الحَرّ الشديد وهذا التوهج المحَرّق للشمس، من يستطيع أن يوقف ارتفاع درجات الحرارة، لو أرادها الله أن تصل إلى ستين أو سبعين أو ثمانين ولا تنزل أبدا؛ إنها قدرة الله لا غير.

نعم، أمام هذا الحَرّ الشديد وهذا التوهج المحَرّق للشمس، من يملك القدرة أصلا ليرفع حَرّارة الجو والسماء من حولنا، من يقدر على رفع درجات حَرّارة الهواء في الجو من حولنا؛ إنها قدرة الله لا غير.

عباد الله: استمعوا معي إلى ثاني رسائل وعِبَر  الوحي من هذا الحَرّ الشديد.

أيها المؤمن العاقل، من عِبَر هذا الحَرّ الشديد أنه يوصلك بعوالم الغيب وعالم الآخرة الذي لا نراه، نعم، ترتبط حَرّارة الدنيا الشديدة بعوالم الغيب في عقيدتنا، كيف ذلك؟ يذكِّرُنا  الوحي  بهذه الحقيقةِ؛ فكما جَاءَ في الصحيحَين عنِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: "اشتَكَت النار إلى ربها فقالت: يا ربِّ: أكل بعضي بعضًا، فأذِن لها بنفَسَين: نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف، فأشَدُّ ما تجِدون من الحَرّ من سموم جهنم، وأشدّ ما تجدون من البرد من زمهرِير جهنّم"، وروى الجماعة أيضًا عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا اشتدَّ الحَرّ فأبرِدوا بالصلاةِ -أي: صلاةِ الظهر- فإنَّ شدّةَ الحَرّ من فَيح جهنّم"، ونحن نؤمن بذلك ونصدقه ونوقن به؛ فما من حَرّ شديد ولهيب محَرّق إلا وهو ناتج حقيقة عن تنفس جهنم ذلك النَّفَس الذي أذن الله لها به؛ فلعقلك بعد ذلك أن يتفكر بمائة نَفَسٍ يمكن لجهنم أن تتنفسها ويأتينا من لفحها ووهجها.

عباد الله: استمعوا معي إلى ثالث رسائل وعِبَر  الوحي من هذا الحَرّ الشديد.

نعم، المؤمن العاقل الذي يؤمن بلقاء الله العظيم، يدرك أن العِبَرة العظمى لنا من  هذا الحَرّ الشديد، وهذا التوهج المحَرّق للشمس. هو أنك أيها الإنسان لا تقوى على تحمل حَرّ الدنيا البسيط المتواضع، فكيف لك أن تتحمل حَرّ الآخرة الذي لا يدانيه حَرّ، بل ولا يقارن بحَرّ الدنيا ولهيب شمسها أبدا؛ فمهما بلغت شدة الحَرّ بنا؛ فلا يمكن لها أن تتسبب مثلا في ذوبان المعدة، ولكن استمع ماذا يجري بسبب حَرّ الآخرة في درجاته المخففة لا القوية؛ ففي الصحيح: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِ الْمِرْجَلُ، مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَاباً".

عباد الله: استمعوا معي إلى رابع  رسائل وعِبَر  الوحي من هذا الحَرّ الشديد.

يا أيها المؤمنون بالله العظيم، إن في موجات الحَرّ الشّديد ولهيب الشمس المحَرّقة لعِبَرة أيما عِبَرة في الانبعاث للطاعة وعدم التكاسل عنها، نعم، هذه عِبَرة كبرى  أرسلها ربنا واضحة قوية لكل المتخلفين عن طاعته والمتقاعسين عن عبادته، قال تعالى في حق هؤلاء: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة:81]؛ فذكّرهم الله بأن نار جهنم شديدة الحَرّ والتوهج والتوقد، وخوّف أولئك المتقاعسين عن القيام بالعبادات وبواجب نصرة الدعوة بسبب خوفهم من الحَرّ الشديد واستثقالهم تحمله وإيثارهم السكون تحت الظلال. على عكس أولئك الذين امتلأت قلوبهم بالخوف من نار الآخرة وحَرّها؛ ففي سنن ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في بعض أسفاره، في اليوم الحار الشديد الحَرّ، وإن الرجل لَيَضَعُ يده على رأسه من شدة الحَرّ، وما في القوم أحَدٌ صائمٌ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن رواحة".

عباد الله: استمعوا معي إلى خامس  رسائل وعِبَر  الوحي من هذا الحَرّ الشديد.

نعم. هذه الحرارة الشديدة وهذا التوهج المحَرّق للشمس، يذكرنا بأحوالنا في الآخرة، عندما يبعثنا ربنا -سبحانه- من قبورنا، ويسوقنا إلى أرض المحشر جميعا لا يغادر منا أحدا، في صحيح مسلم عن الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ" قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا يَعْنِى بِالْمِيلِ أَمَسَافَةَ الأَرْضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِى تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ، قَالَ: فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِى الْعَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا" قَالَ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ؛ فنحن والله لا يتحمل الواحد منا حَرّ شمس الدنيا؛ فكيف سيتحمل حَرّ شمس الآخرة ولهيب جهنم المحَرّقة؛ فبادر إلى طاعة رب الدنيا والآخرة ليقيك من لظى المحشر ولهيب النار، ويظلّك تحت ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه.

عباد الله: استمعوا معي إلى سادس رسائل وعِبَر  الوحي من هذا الحَرّ الشديد.

إن من عِبَر هذا الحَرّ الشديد التي يستسلم لها كل إنسان، أنه يعلمنا قيمة الماء عند اشتداد الحَرّ وتوهج الشمس، هكذا كان السلف الصالح حال الحَرّ؛ فكان ابنُ عمرَ وغيرُه من السلف إذا شربوا ماءً بارداً بكوا وذكروا أمنيةَ أهلِ النار، وأنهم يشتهون الماء البارد، وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، وهم يقولون لأهل الجنة: (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)؛ فيقولون لهم: (إِنَّ اللَّهَ حَرّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50]، وقال ربك في حق العطشى من العصاة في الآخرة الذين يلهثون لجرعة ماء واحدة: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) [الكهف:29[، وقال ربك -سبحانه-: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد:15].

عباد الله: استمعوا معي إلى سادس رسائل وعِبَر  الوحي من هذا الحَرّ الشديد.

يا عبد الله، أيها الإنسان، إن من عِبَر هذا الحَرّ الشديد التي يقرّ بها كل إنسان، أنه يعلمنا قيمة الظِلّ والتبريد عند اشتداد الحَرّ. قال ربك في حَقّ من آثر الدنيا على الآخرة: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر:16].

وقال ربك في حق من آثر الآخرة على الدنيا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) [النساء:57].

أقول قولي هذا وأستغفر الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، ولصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

هناك من ينعم بالاستظلال بظل الله يوم لا ظل إلا ظله؛ فكن منهم، ولن تكون منهم إلا إذا قدمت الثمن لذلك، قال -صلى الله عليه وسلم-، كما في الصحيح: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ؛ الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ؛ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".

اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي